الفلسطينيون بحاجة إلى ديمقراطية التوافقية

أسامة سعد

مستشار قانوني


بقلم المستشار/ أسامة سعد

غزة في 17/2/2012م

مركز حضارات


العملية الديمقراطية تعني بشكل بسيط سلطة الشعب وحريته في اختيار ممثليه في البرلمان، وكذلك حريته في اختيار الحاكم، أياً كان مسمى هذا الحاكم رئيساً أو رئيس وزراء أو أي مسمى آخر يُعَبر فيه عن أعلى منصب تنفيذي في الدولة، وهذا الشكل من الحكم الديمقراطي تجد له اشكالاً مختلفة في أنظمة الحكم، تتباين ما بين البرلماني والرئاسي أو ما يعرف وفقا للفقه الدستوري بحكومة الجمعية، ولكن كل تلك الأشكال من أنظمة الحكم لا تؤثر في جوهر العملية الديمقراطية والتي أساسها حرية المواطن في الاختيار، وفقا لما يمليه عليه ضميره ودون أي نوع من الاكراه الذي قد يصاحب إرادته فيؤثر في حريتها.


الحالة الفلسطينية لم تصل بعد إلى مرحلة الاستقرار سواء في شكل نظام الحكم أو في ترسيخ قواعد الحكم الديمقراطي، رغم أن المرتين اللتين أجريت فيهما الانتخابات كانتا بمثابة لوحة جمالية أخرى يفتخر بها الشعب الفلسطيني، بجانب لوحاته الجمالية الكثيرة التي سطرها خلال تاريخه المشرق من الكفاح والمقاومة إلى جانب النبوغ العلمي والتقدم الحضاري، رغم كل المآسي التي عانى وما زال يعانيها.
ورغم أن الديمقراطية الفلسطينية في الحكم ديمقراطية حديثة، لم يمر عليها سوى أقل من ثلاثين عاما، إلا أن إجراء عمليتي انتخاب خلال هذه الفترة القصيرة، يعتبر إنجازاً للشعب الفلسطيني، اذا ما قيس عمر الحكم الفلسطيني القصير بأعمار دول مر عليها عشرات أو مئات السنين، ولم تجر فيها أي نوع من أنواع الانتخابات حتى لو كانت مجرد انتخابات بلدية.
لا أزعم أن التجربة الديمقراطية تجربة مميزة ولكن أظنها تجربة واعدة، يمكن أن تشكل نموذجا في العالم العربي، إذا ما أحسنا السير بين حقول الاشواك التي تعترض طريق الديمقراطية الفلسطينية. ولذلك قد يكون من المفيد في بعض الأوقات وفي سبيل الحفاظ على المسار الديمقراطي أن نلجأ الى شكل من أشكال الديمقراطية أسميه - إن جاز لي- (الديمقراطية التوافقية) نمر من عبرها نفق مرحلة نُفضي منها إلى آفاق أرحب وأوسع من الحياة الديمقراطية التي نطمح اليها كفلسطينيين.
ربما هو غريب مصطلح الديمقراطية التوافقية؛ لأن الديمقراطية تعني حرية الاختيار للشعب كما أسلفنا، ولكن الابداع الفلسطيني لا يجب أن يتوقف عند نصوص جامدة .
وصحيح أن أشكال الديمقراطية المعروفة قد كتب فيها كُتاب الفقه الدستوري ويعرفها كل دارسي العلوم الدستورية، ولكن ربما تقتضي الحالة الفلسطينية وكما تعودنا دائما أن نجترح من الأساليب والوسائل من نستطيع به أن نواجه بعض المراحل التي يمر بها شعبنا، وكما أفلح شعبنا دائما في اجتراح وسائل الكفاح والنضال، لن يعجز عن اجتراح وسائل العمل الديمقراطي التي يتجاوز  بها الصعاب التي تحيط به من كل الجوانب، سواء كانت صعوبات وعقبات يصنعها الاحتلال الذي لا يزال يمارس دوره في إحباط كل أمل فلسطيني، يتغلب عليه الفلسطيني دائما بإبداع وسائل الاشتباك مع العدو في كافة الميادين أو عقبات إقليمية ودولية تفرض نفسها على الحالة الفلسطينية بحكم البعد الدولي والإقليمي للصراع مع العدو، أو صعوبات داخلية أنتجها الانقسام الفلسطيني المستمر منذ خمسة عشر عاماً. 
الشعب الفلسطيني شعب متجانس؛ من حيث الثقافة والعرق والأعراف والتقاليد والدين، ولا يوجد لدينا طوائف متناحرة ولا أعراق وثنيات متعددة، ولكن ما يميز الشعب الفلسطيني حرية اعتناق الأفكار وتباين الرؤى السياسية، وهي ظاهرة صحية ويجب المحافظة عليها وترشيدها؛ لتشكل واحة من الاختلاف الجميل بين مكونات الشعب الفلسطيني، وقد يكون ما أتحدث به ضربا من الخيال ولكن الواقع الفلسطيني المؤلم يفرض علينا أن نتعامل وفقا لهذا المنطق الذي يساعدنا في اجتاز مرحلة من أدق وأخطر المراحل التي مرت بها قضيتنا.
اذاً - حسب رأيي- فالديمقراطية التوافقية الفلسطينية هي المخرج الان من حالة الازمة التي سببها الانقسام، وأدت إلى ما أدت اليه من تراجع كارثي للقضية الفلسطينية على المستوى الإقليمي والدولي، ولما كانت حالة انعدام الثقة هي السائدة الان، ولكلٍ من الفصائل الفلسطينية مسوغاته وتوجهاته التي يعزو اليها شكه في نوايا الفريق الاخر، فلا مناص من الاتفاق على إجراء العملية الديمقراطية وفقاً لتوافق يبني جسور الثقة، ويسكن هواجس الخوف والارتياب لدى الأطراف كافة، ويؤسس لعلاقة واضحة بين مكونات العمل السياسي الفلسطيني، تستطيع عبره ممارسة التناوب السلمي على السلطة بشكل يضمن استمرار الحالة الديمقراطية، وصولاً لتعزيزها واستقرارها، ولا حرج – من وجهة نظري- في ذلك طالما أن العدالة نفسها قد تكون (عدالة انتقالية) في مرحلة من المراحل القاسية التي تعيشها بعض الشعوب، بل إن العدالة الانتقالية أصبحت علم يدرس في كليات الحقوق كمرحلة انتقال بين حالة حكم دكتاتوري أو فوضى سياسية الي حالة ديمقراطية سليمة، وفي ظني أن الديمقراطية كذلك قد تكون ( ديمقراطية انتقالية) أيضا، للانتقال من حالة اقتتال



واختلاف سياسي أدى الى انقسام وطني، وما صاحبة من انقسام على مستوى المؤسسات الرسمية والعامة، ثم شمل كل مناحي الحياة من الجوانب الاقتصادية والثقافية حتى الاجتماعية، إلى حالة وحدة وطنية قائمة على أساس التعددية السياسية والفكرية والتداول السلمي على السلطة.
ولذلك أصبح من الضروري الخروج من هذه الحالة (بالديمقراطية التوافقية) التي تمنح الجميع فرصة للاستمرار في مسار العملية الديمقراطية وخوض الانتخابات دون خوف أو وجل، وفي ظل حالة اشتباك مع الاحتلال وضغوط إقليمية ودولية تسعى إلى إجهاض التجربة الديمقراطية الفلسطينية كما أجهضت وتُجْهَض في دول محيطة،  فما لا يدرك كله لا يترك جله.


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023