التخطيط النبوي الاستراتيجي لتحرير فلسطين

1/ الاصطفاء سنة من سنن الله عز وجل:" الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس" [ الحج:75 ].ويصطفي من الأيام والشهور والمساجد... ومن اصطفائه سبحانه أن خص فلسطين بكونها الأرض (المباركة) و(المقدسة): فهي المقدَّسة الطاهرة المطهِّرة لغيرها. وبركتها ونفعها وخيرها سيعم البشرية:" ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين"[ الأنبياء:71 ]. ومن ثم لا يعلو شر وطغيان في الأرض إلا ويأتي به الله عز وجل إليها ليقصم ( التتر وعين جالوت، هذا الكيان العابر الذي سيقصم هنا، ثم الدجال وهو أكبر فتنة عرفتها البشرية سيقتل هنا).

2/ أظن أن رحلة الإسراء والمعراج في بدايات الدعوة والمسلمون مستضعفون، والربط بين مكة والقدس، وجعل القدس بوابة السماء، كل ذلك كان من أهم العوامل التي جعلت لفلسطين والقدس موقعا متميزا في التخطيط النبوي الاستراتيجي للفتح الإسلامي، ومن ثم مركزية فلسطين في المشروع الإسلامي ( كما قيل: مكة بداية العالمية الإسلامية الأولى، وفلسطين بداية العالمية الإسلامية الثانية التي نحن على أبوابها إن شاء الله) ويمكن قراءة جملة من الأحداث التاريخية في السيرة النبوية التي تؤكد ذلك. 

3/ بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، وتأمين الجزيرة من الخطر اليهودي ومؤامراته بفتح خيبر السنة السابعة للهجرة، كانت الانطلاقة الخارجية بإرسال الرسائل للملوك والقبائل خارج الجزيرة، وشهدت السنة الثامنة للهجرة عدة أحداث هامة، وكانت عين النبي صلى الله عليه وسلم على فلسطين.

4/ عام: 8 ه : سرية ذات أطلاح، ثم غزوة مؤتة، ثم غزوة ذات السلاسل.

      عام: 9 ه: غزوة تبوك

         عام: 11 ه: بعث أسامة.

وسنلاحظ الفرق بين غزوة مؤتة 8ه، وبعث أسامة 11ه، وعمق التخطيط النبوي الاستراتيجي باتجاه فلسطين. وذلك كما يأتي:

5/ كانت الأخبار والمعلومات لا تنقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم حول ما يدور في الجوار والمحيط، إضافة إلى توفر ( قاعدة بيانات واضحة حول القبائل وتحالفاتها ومعادلاتها وأنسابها).

6/ كان النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه لفلسطين يريد تأمين المسافة إليها حيث عشرات القبائل المعادية أو المحايدة، وكلما اقتربنا نحو بلاد الشام كانت تحالفات القبائل العربية مع الروم تزداد وتتعمق.

7/ من السرايا التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم لتلك القبائل في محاولة لاستمالة من يستطيع بدعوته للإسلام سرية عمرو بن كعب الغفاري عام 8ه في ذات أطلاح، في 15 مجاهدا، فأتوا المنطقة ودعوا أهلها للإسلام، فأبوا وقاتلوهم، فاستشهدوا جميعا، وأصيب القائد الذ وصل المدينة بخبر ما كان. وهذا كان من المؤشرات أن تلك المنطقة لم تنضج بعد. وسنلاحظ بعد ذلك تغيير النبي صلى الله عليه وسلم لتكتيكه الحربي.

8/ وفي العام نفسه 8ه، لما قتل ملك الغساسنة المتحالف مع الروم رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخالفا الأعراف ( الدولية)، ومتجاوزا الخطوط الحمراء، كان لا بد من إرسال رسالة قوية له وللعرب ومن وراءهم من الروم أن المعادلة( قواعد اللعبة) قد تغيرت، وأن الإسلام قادم بقوة ليغير المعادلة. فكانت غزوة مؤتة وأحداثها الشهيرة، وكانت خدعة خالد الاستراتيجية التي جعلت المسلمين يعودون على مرأى القبائل العربية التي رصدت مسيرهم لقتال الروم والغساسنة ( 3 آلاف، مقابل 200 ألف) فكانوا ينتظرون إبادتهم،  فإذا هم بعد يومين أو ثلاثة من القتال يعودون مارين بتلك القبائل بعد أن أدّبوا الروم والغساسنة دون أن يجرؤوا على اللحاق بهم!

9/ مما كشفته غزوة مؤتة: عمق خوف العرب هناك من الروم واضطرارهم للتحالف معهم لتجنب شرهم، ثم ثغرة المعلومات والأخبار حيث وصلت أخبار تحرك الجيش الإسلامي للغساسنة سريعا فاستعانوا بالروم وجمعوا هذا الحشد الكبير، وهذه ثغرة لا بد من حلها ( تأمين الطريق من العيون لمباغتة العدو)، ثم طول المسافة بين قلب الجزيرة والشام وثغرة نقص المؤن وقلة الزاد. وكل ذلك تم علاجه كما سنرى.

10/  في العام نفسه اختار النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص قائدا لسرية من 300 مجاهد، حيث أخواله من قضاعة ( قبائل العرب الحدودية مع الشام) لمحاولة عقد تحالفات... وباختصار لم تحقق السرية التي عرفت بذات السلاسل هدفها المراد. لكن هذا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم عن تحقيق الهدف وقد كان.

11/ في: 9 ه كانت غزوة تبوك لحدود الشام، وهناك عسكر النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه الكبير، وأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأسره ثم سالموه على الجزية وكذلك كان مع ملك أيلة، وأهل جرباء، وأذرح... وكانت بنود الصلح والتحالف مع هذه القبائل المتاخمة للروم تقوم على سد الثغرتين اللتين كانتا في مؤتة ( الأخبار، والمؤن)، حيث يقوم التحالف الجديد على تعمية أخبار المسلمين وتحركاتهم، إضافة إلى تأمين الزاد والمؤن أثناء تحرك الجيش الإسلامي مما يوفر له خفة الحركة والتنقل السريع.

12/ وظهرت ثمار ذلك في بعث أسامة عام: 11 ه، والذي أصر الصدّيق على إنفاذه رغم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. حيث وصل أسامة تخوم البلقاء ( المكان الذي وصله أبوه زيد قائد جيش مؤتة) لكن الفرق هذه المرة أنه فاجأ الأعداء الذين عمّيت أخباره عنهم ففروا وهزمهم وغنم غنائم كثيرة. واستمرت هذه السرية من 40 إلى 70 يوما.

ومما تقدّم نلاحظ أن القدس وفلسطين وتحريرها كان في قلب المشروع الإسلامي، وفي عمق التخطيط النبوي الاستراتيجي الذي تابعه الخلفاء الراشدون فتوّج بالفتح العمري المبارك. بانتظار التحرير القادم قريبا إن شاء الله. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023