وَهنِ القوة !!!

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

وَهنِ القوة !!!

1/3

وهل تَهِن القوة ؟ أوَ يحمل الشئ في ذاته نقيضه ؟ 

لكن ألم تَهِن القوة الفرنسية إبان الاحتلال الغربي لفيتنام في خمسينيات القرن المنصرم ـــ 1946 إلى 1954 ـــ ، فقد حشدت فرنسا ما حشدت ضد ذاك البلد الفقير من أسلحة وقدرات لم تنفعها عندما هاجم الثوار الفيتناميون القوات الفرنسية في المعركة الفاصلة في خليج دين بيان فو عام 1954 فكانت نهاية الاحتلال الفرنسي الذي خرج يجر أذيال الخيبة والفشل ، مسلماً الراية لمحتل غربي آخر جاء من خلف البحار والمحيطات ليفرض إرادته على شعب الجنرال جياب والزعيم هوشي منة ، وقد مكث المحتل الأمريكي قرابة العشرين سنة ــ 1955 حتى 1975 ــ حارقاً الأخضر قبل اليابس مستخدماً أفضل ما في ترسانته الحربية من أسلحة ووسائط نار ، لكنه أيضاً لم يستطيع أن يفرض إرادته على شعب فضل الموت على العيش الذليل ، فقاتل الغزاة تحت الأرض وفوقها مسطراً أفضل الملاحم وأكبرها ضد من حاول احتلاله واستغلاله ، فكان اللوحة التي طبعت في ذاكرة الأجيال إلى يومنا هذا يوم شن الثوار الفيتناميون آخر حملاتهم على العاصمة الفيتنامية سايغون ، فرأينا الأمريكي يهرب من على سقف سفارته مستخدماً المروحيات في انتشال دبلوماسيية وعملائه ، علّه يقيهم غضب الثوار . ثم ألم تَهِن القوة الروسية التي غزت أفغانستان في ثمانينات القرن الفائت ــ 1979 حتى 1989 ــ فلم تنفعها فيالقها ولا فرقها في قهر ذاك الشعب المسلم المجاهد الذي فضل العيش في الجبال والمغاور على الخضوع لذل المحتل الغادر ، فقتل منه ــ من المحتل ـــ وأسر من أسر ، ثم كانت الغلبة لصاحب الحق ، فخرج المحتل لا يلوي على شيء . وقد رأينا وهن القوة في غزو العدو المحتل للبنان عام 1982 عندما صدحت مكبرات الصوت التي وضعها على آلياته التي كانت تحتل بيروت أن : يا أهل بيروت إننا خارجون فلا تعترضوا طريقنا ! ورأينا وهن عدونا ماثلاً أمام أعيننا عندما انسحب تحت جنح الظلام من جنوب لبنان تاركاً عملاءه خلفه مغلقاً في وجوههم البوابات الحديدية ، فلا هو أخذهم معه ولا هو سمح لهم بالعبور ! والوهن  نفسه يتكرر في حرب تموز 2006 عندما صمد شباب المقاومة الإسلامية ممثلة بحزب الله في مارون الراس وعيتا الشعب أمام نار العدو فلم ينسحبوا ولم يتزحزحوا وتصيدوا عدوهم خلف كل صخرة وشجرة وتلة . ولم يتعلم العدو الدرس ولم يع المعادلة ، فجرد الحملات تلو الحملات ضد غزة المحاصرة وأهلها ومقاومتها في الأعوام 2008 و 2012 و 2014  فلم يحقق شيئاً بل زاد من وهن قوته وانكشاف سوأتها أمام ثلة مجاهدة لا تقارن قدراتها بقدراته ولا قوتها بقوته . 

إن الباحث في موضوعات القوة والقدرة ومفرداتهما وما يشتق منهما من مبادئ ونظريات عمل وإجراءات تعبوية ومعنوية ؛ لا بد أن يرى القوة وفي الوقت الذي يشى اسمها أنها ذات طابع يحمل في طياته القدرة على إنفاذ ما يريد مالكها وما يرجو ، إلا أنه يرى أيضاً أن القوة قد تحمل في طياتها سبب فشلها ووهنها وسبب دمارها في نفس الوقت الذي تحمل فيه سبب موت ودمار وذل متحدّيها ، لذلك فإنها مالك القوة إن لم يع ويعرف ويدرك ويتصرف بناء على قاعدة تقول : أن مجرد امتلاك أسباب القدرة ، لا يعني أنك تملك أسباب القوة إن لم تكن عارفاً بأسباب ومسببات وهنها وضعفها ، الأمر الذي سنتطرق له في ثنايا هذه المقالة . وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القوة تَهِن لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية ، لن نفصل بينها في الحديث كونهما مرتبطين ببعضهما ارتباطاً لا ينفك ، وبينهما من العلائق ما لا يمكن فصل أحده عن الآخر

أما والموقف كما ذكرنا من أن القوة قد تحمل سبب وهنها ذاتياً أو موضوعياً ؛ فما هي تلك الأسباب المؤدية إلى الوَهن وما هي الأمور التي تجعل القوة تحمل في ذاتها نقيضها ؟ في حالة تشبه حالة المقذوفات الجوية التي تحمّل بجهاز تفجير ذاتي يستخدم عند الحاجة لتدميره إن هو خرج عن المسار المحدد له أو طرأ ما يتطلب إعدامه قبل وصوله لهدفه . 

إن الأمور التي تخرج القوة عن طبيعتها الذاتية من حيث أنها أداة لتنفيذ المهام وتحقيق الرغائب وفرض الإرادات ، تكمن في الآتي من الأسباب: 

  1. خلل في تحديد المهمة : إن أول ما يوهن القوة ويجعلها تحمل في ذاتها مقتلها هو عدم تحديد المهمة التي من أجلها تم بناء هذه القوة ومراكمة أسبابها . فقد قيل أن أهم ما يأخذه المقاتل معه عندما يذهب إلى الحرب ، ليس السلاح ولا العتاد ؛ وإنما الجواب على سؤال ال ( لماذا ) ؛ لماذا يقاتل ؟ لماذا يضحي ؟ في سبيل من ستراق دماؤه أو تبتر اطرافه وأعضاؤه ؟ أو تقيد حريته ؟ إن الجواب على هذا السؤال هو من مهام المستوى السياسي الأول في الدولة أو الحركة أو الكيان ، فهو في المبدأ عمل سياسي ، وفي منتهاه عمل تعبوي ، يتمثل بتلك المهام التي يشتقها القادة العسكريون ، فهم من يحول الأهداف السياسية إلى مهام عسكرية . إن أخطر ما ينبني على عدم التحديد الدقيق للمهمة ما يعرف بمتتالية الأخطاء التي تتمثل في الخطأ في : 
  2. تحديد التشكيل والتركيب : ما هو نوع التشكيل الذي نريد أن نمتلكه كدولة أو حركة أو مقاومة ، أو حتى عائلة مختلفة مع عائلة أخرى تريد أن تستخلص حقها منها ، أهو تشكيل بري ؟ أم بحري ؟ أم جوي ؟ وأي هذه التشكيلات هو الأولى بالرعاية وتخصيص القدرة ؟ ثم أي هذه التشكيلات الذي سيشارك في تنفيذ المهمة المتمثلة في الدفاع عن المصالح ودفع التهديدات وفرض الإرادات ؟ هل هو تشكيل منفرد من تلك التشكيلات ؟ أم خليط مشترك منها ؟ إن هذا التعريف كما ينطبق على الهياكل الكلاسيكية التي تملكها الدول ، فإنه ينطبق على الهياكل التي تملكها حركات المقاومة والتحرير ، فهل المهمة التي تريد أن تقوم بها هذه الحركات والمقاومات تستدعي عملاً سرياً دون أن يكون له رديف علني ؟ هل هذا التشكيل سيكون على هيئة خلايا عنقودية يجمعها ببعضها بعضاً ؟ أم ما يجمعها وينظم عملها علاقات خيطية فردية ؟ أم خليط من الإثنين ؟ هل المهمة تستدعي وجود قيادة العمل قريبة من ساحة العمليات ؟ أم أن المصلحة تستدعي خروجها إلى ساحة خارجية تأمن فيها على نفسها ومقدراتها لتضمن استمرار المقاومة وبقاء شعلتها ؟ 
  3. الاستعداد : ثم يأتي الدور على الإجابة للسؤال التالي لتحديد التشكيل والمرتبط بالاستعداد البشري لكل تشكيل من هذه التشكيلات ، هل سيكون قوام هذا التشكيل مئات الأفراد على هيئة سريات وكتائب وألوية ؟ وهل هذا الاستعداد ؛ استعدادٌ  دائم ؟ أم ظرفي قتالي مهماتي ؟ هل تستدعي المهمة المراد تنفيذها أن تكون خلايا العمل لا تتجاوز الثلاثة عناصر مكتفية ذاتياً ؟ أم تُردف هذه الخلايا ، بخلايا أخرى تسندها معلوماتياً وإمداداً وإيواء و ... ؟ 
  4. الانتشار : ثم ماذا عن الانتشار ؟ أين ستنتشر هذه التشكيلات وتلك الخلايا ؟ وكيف ستنتشر ؟ هل ستنتشر انتشاراً قتالياً يراعي إجراءات الهجوم أو الدفاع ؟ هل ستنتشر بكامل قدراتها على خط المواجهة ؟ أم ستحتفظ بجزء من قدراتها على هيئة احتياط يدفع به إلى المعركة عند الحاجة ؟ وما هو استعداد هذا الاحتياط ؟ وأين سيستقر ؟ 
  5. الإمداد : كيف سيتم إمداد هذه التشكيلات ؟ ما هي الأصناف والأنواع المطلوب إمداد هذه التشكيلات بها من ماء وغذاء وعتاد ؟ من أين سيتم تأمين هذه الإمدادات ؟ وأين ستخزن ؟ وكيف يتم إيصالها إلى مستحقيها ؟ كيف سيتم تأمينها من التخريب أو العبث من العدو وعملائه أو من عوامل الطبيعة والظروف الجوية ؟ 
  6. الإدارة : ثم كيف ستتم إدارة هذه التشكيلات وتلك القدرات والتي استعدادها وقوامها الشيء الفلاني والمنتشرة في المكان الفلاني والمركبة من التشكيلات الفلانية ؟ هل ستتم إدارتها مركزياً ؟ أم بطريقة غير مركزية ؟ أم بخليط من المركزية واللامركزية ؟ ما هي حدود صلاحيات قادة تلك التشكيلات على تشكيلاتهم ؟ وما هو مستوى التفويض الممنوح لهم في الإدارة والتوجيه والتعديل على الخطط والأوامر ؟ 

إن ما قيل سابقاً ، والذي ممكن أن يمتد الحديث فيه ليأخذ عشرات الصفحات ومئات الأسطر ، والذي ينبني عليه النجاح أو الفشل ؛ إنما تتم الإجابة عليه وتحديد النافع منه والضار بتحديد المهمة والتي يعد الخلل في تعريفها إبتداءً ؛من أهم عوامل وهن وضعف القوة إنتهاءً. 

كان هذا ما يتسع له المقال في هذا المقام ، على أن نستكمل في الأجزاء المتبقية الأمور التي يؤدي عدم رعايتها أو ملاحظتها والانتباه لها إلى وهن في القوة وفتٍّ في عضدها وفشل عند الإقدام على تفعيلها وتشغيلها عند الملمات . 

عبد الله أمين 

11 01 2021



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023