إبراهيم أبراش
تطبيع العلاقات الرسمية بين المغرب والكيان الصهيوني والذي جاء في سياق موجة جديدة من التطبيع العربي يجب أن لا ينسينا صفحات مشرقة ومشرفة من علاقة المغرب بفلسطين واستمرار المواقف المبدئية والثابتة للمغاربة تجاه الشعب الفلسطيني، وفي هذا السياق نظمت (وكالة بيت مال القدس) بتعاون مع مركز (النهار المغربية) للدراسات الاستراتيجية والإعلام يوم الخميس الماضي الموافق الرابع من فبراير وعبر تقنية الزوم ندوة تحت عنوان "الحضور المغربي في القدس وفلسطين: الرموز والدلالات".
شارك في الندوة باحثون مغاربة وفلسطينيون، وكنت أحدهم، تحدثوا عن تاريخية العلاقة بين فلسطين والمغرب والحضور المغربي في فلسطين وخصوصاً في القدس، وفي كلمته أشاد محمد سالم الشرقاوي المدير المكلف بتسيير وكالة بيت مال القدس الشريف: " بالنموذج المغربي الحاضر بالأراضي المقدسة، مشيراً إلى الأمل المعلق على الأمتين العربية والإسلامية لإعادة قضية فلسطين الى صدارة سلم الأولويات الرسمية والشعبية، والمساهمة في دعم صمود الشعب الفلسطيني ومؤسساته الشرعية، لمواجهة المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم على المستوى السياسي، والاقتصادي والاجتماعي والوبائي والمناخي".
وقبل التطرق لمضمون مداخلتي أعترف بأن بعض التفاصيل عن الحضور التاريخي للمغرب في فلسطين كانت غير واضحة عندي وقد استفدت كثيراً من المداخلات بهذا الشأن ومما قرأته قُبيل مشاركتي في الندوة، مثلاً أن الحضور المغربي في فلسطين والقدس يعود إلى ما قبل الحروب الصليبية حيث دأب المغاربة على زيارة بيت المقدس منذ ما قبل احتلال الصليبيين لمدينة القدس سنة 493هـ/1099م، فالحج بالنسبة لهم لا يكون مكتملاً إلا بالتعريج على القدس والصلاة بالمسجد الأقصى، كما ساهم المغاربة في الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين بطلب من صلاح الدين الأيوبي وكان لهم دورٌ بارزٌ في فتح بيت المقدس.
وآنذاك كان مفهوم المغاربة يشمل بالإضافة إلى المغرب الأقصى كل من الجزائر وموريتانيا وليبيا وتونس حيث كانت حدود السلطان أو الخليفة المغربي يعقوب المنصور الموحدي الذي استنجد به صلاح الدين تمتد إلى حدود السودان (مالي حالياً).
وتذكر الوثائق التاريخية أنه بعد انتصار المسلمين في معركتي "حطين"، و"فتح بيت المقدس" أسكن صلاح الدين الأيوبي أعداداً من المغاربة في بيت المقدس كما يُنسب له القول: " أسكنت هناك من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة"، وفي إبان ولاية الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن علي (النجل الأكبر للناصر صلاح الدين الأيوبي) على دمشق أوقف حارة المغاربة على مصالح طائفة المغاربة المقيمين في القدس وكانت القدس تابعةً له وذلك بهدف تشجيع أهل المغرب العربي على القدوم إلى القدس والإقامة فيها، ومساعدة سكانها المغاربة الذين فضّلوا الاستقرار ومجاورة المسجد الأقصى المبارك، ومنذ ذلك التاريخ أخذ هذا المكان من مدينة القدس يُعرف باسم "حارة المغاربة".
أيضاً كان المغاربة يأتون إلى فلسطين لطلب العلم حيث كانت فلسطين قبل الاحتلال الصهيوني مزدهرة ومتميزة في مجال التجارة والتعليم وخصوصاً مدارس مدينة نابلس، وإلى هذه المدينة كان يتوافد الطلاب المغاربة لطلب العلم وكان ممن تلقوا تعليمهم في نابلس المهدي بنونة مستشار الملك الحسن الثاني ومؤسس الوكالة المغربية للأنباء.
بعد حرب 1948 هاجر كثيرون من المغاربة إلى سوريا ولبنان وبعد حرب 1967 دمر الصهاينة حارة المغاربة بكاملها وحولوها إلى ساحة حملت اسم "ساحة المبكى" . وقد اندمج من تبقى من المغاربة بالشعب الفلسطيني وشاركوه في كل معاركه ضد الانتداب البريطاني بداية ثم ضد الاحتلال الصهيوني وكان منهم العديد من الشهداء والأسرى بالإضافة إلى بروز شخصيات لعبت دوراً بارزاً في مجال السياسة والمال والأعمال.
في مداخلتي في هذه الندوة وكان عنوانها "العلاقات المغربية الفلسطينية: مقاربة سسيوتاريخية " تطرقت للنقاط التالية:
1- لم تتوقف العلاقات بين الشعبين عند فترة زمانية أو مكانية محددة بل هي علاقة متواصلة لها أبعاد روحانية وسياسية وثقافية حيث الحضور المغربي كان حاضراً في كل محطات النضال الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، فكان وما زال المغاربة يعتبرون القضية الفلسطينية من انشغالاتهم الوطنية الرئيسة. وفي المغرب تأسست عام 1968 الجمعية المغربية لمساندة الشعب الفلسطيني وتواصل وجودها ونشاطها حتى اليوم وهي تتشكل من كل القوى الوطنية والإسلامية المغربية، وفي المغرب خرجت مسيرات مليونية دعماً للشعب الفلسطيني، كما شارك آلاف المتطوعين المغاربة في القتال مع الثورة الفلسطينية واستشهد العديد منهم، وفي حرب أكتوبر 1973 أرسل ملك المغرب الحسن الثاني جيشا برئاسة الجنرال الصفريوي للقتال على الجبهة السورية وقد أبلى الجيش المغربي بلاءً حسناً بشهادة السوريين أنفسهم كما استشهد عدداً منهم، وفي المغرب كان مؤتمرالقمة العربية 1974، الذي اعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وكان المغرب وما زال يحتضن آلاف الطلبة الذين يدرسون بالمجان ويحصلون على منح دراسية مثلهم مثل الطلبة المغاربة، والمقيمون الفلسطينيون في المغرب يتمتعون بنفس الرعاية التي يتمتع بها المغاربة، كما أرسل المغرب مستشفى طبي عسكري أكثر من مرة إلى قطاع غزة لمساندة القطاع الطبي الفلسطيني لمعالجة الإصابات الناتجة عن موجات العدوان الصهيوني، هذا بالإضافة إلى استمرار المغرب ومن خلال وكالة بيت مال القدس في تقديم الدعم المالي من خلال مشاريع عديدة في مدينة القدس وفي مناطق أخرى من السلطة الفلسطينية .
2- إن كان الدعم المادي من المغرب لفلسطين أقل مما تقدمه دول عربية أخرى إلا أنه أكثر أهمية وأكثر مصداقية لأنه يتم بصمت ودون ضجيج وليس من خلفه أجندة سياسية كما هو الحال في المال السياسي الذي تقدمه دول عربية وإقليمية.
3- هناك فرق شاسع ما بين حال الفلسطينيين من أصول مغربية والإسرائيليين من أصول مغربية، الأولون جاؤوا إلى فلسطين مجاهدين ومحررين لها من الاحتلال الصليبي وهم يفتخرون بأصولهم المغربية كما يفتخرون بفلسطينيتهم، أما الإسرائيليون من أصول مغربية وعربية فقد جاؤوا غازين ومستعمرين وتحول أغلبهم إلى صهاينة متطرفين يكرهون كل ما له صلة بالمسلمين والعرب كما أنهم الأشد عداوة للفلسطينيين وعليهم تعتمد الدولة الصهيونية في حروبها ومشاريعها الاستيطانية.
وأخيراً نتمنى أن تكون هذه الندوة بداية لعلاقات ثقافية متواصلة مع المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني في فلسطين لدورها في تبيان الوجه المشرق في العلاقة بين الشعبين بعيداً عن متاهات السياسة وحساباتها غير المريحة، أيضاً أن تكون مثل هكذا مؤتمرات وندوات مع دول عربية أخرى حتى يتم تصويب مسار العلاقات الفلسطينية العربية التي تضررت كثيراً في الفترة الأخيرة .