المقـ ـاومة الفطرية

مصعب سميح

ماجستير في الشؤون الإسرائيلية


                قدر هذا الشعب أن يبقى مقاومًا لهذا المشروع الاستعماري الإحلالي، ولا شك أن هذه المقاومة مهما اختلفت أشكالها وألوانها وظروفها الزمانية والمكانية ومهما تنوعت الأجيال فيها فإنها -أي المقاومة- تعبر عن حالة الرفض الدائم والقاطع لهذا المشروع الصهيوني الإحلالي.

                لقد سطر هذا الشعب وعلى مدار سنوات احتلاله صورًا حية ونماذج عظيمة تحتذى في مقاومة المحتل وفي تكييف وسائل متعددة متنوعة وتطويعها في سبيل العمل على إرجاع حقه وتعزيز صموده وتحرير الأرض والإنسان.
إن نموذج -أبو عاصف البرغوثي- هو نموذج حقيقي للمقاومة الفطرية التي ينشأ عليها الفلسطيني ويحيا معها ويموت لأجلها، إنها تعبير عن جبلة مميزة وخاصة يتمتع بها الفلسطيني، ففيها طبيعة الأصل والمنشأ الرافض لهذا الكيان بمبدئه وتفاصيله وامتداداته، فمهما تخالطت الدروب والظروف ومهما تكالب القريب والبعيد ومهما تعددت الخطط والمناهج ومهما خان البعض أو الكل في محاولة لثني الفلسطيني عن هدفه أو إخراجه من فطرته أو تشويه جبلة الممانعة والمقاومة فإن هذه الفطرة تبقى محافظة على جودتها الأصلية ومعدنها الثمين وطبيعتها المجاهدة المقاومة، حتى وإن شغلتها المشاغل حينًا وأخذتها الحياة وقسوتها أحيانًا إلا أنها سرعان ما تعود لطبيعتها وفطرتها المقاومة الحرة.

                ففي ظل حالة الانحطاط والتخاذل والتآمر التي تحيط بالقضية، وفي ظل هذا التغول المسعور من قبل هذا الكيان تجاه سلب الحقوق وشطبها، تتجلى المقاومة الفطرية لهذا الشعب في وسائل شتى، لن أتحدث عن تلك الثورات الكبرى والانتفاضات العظيمة، ولن أرجع بعيدًا في التاريخ، بل سأستذكر بضع سنوات للفداء مستشهدًا بها على فطرة شعبنا الأصيلة المقاومة، فماذا يعني أن ذاك الجيل الذي وُلد في "رحم أوسلو" إن صح التعبير، تراه هو ذاك الجيل الجريء المقدام المسطر بدمه وروحه ثورة الفرادى من الاستشهاديين والفدائيين نحو رفض تغول العابثين ونحو القدس.

                وماذا تقول في ذاك الشاب المقدسي الذي تدفع كل الأموال في سبيل ترويضه وإخراجه من فطرته وهدمه نفسيًا ومجتمعيًا وفكريًا وسياسيًا، ثم هو نفسه -أي المقدسي- يقف صفًا شامخًا وجبلًا شاهقًا وسدًا منيعًا في مواجهة قرار الكيان بوضع البوابات الإلكترونية أمام بوابات المسجد الأقصى، فيعتبر هذا القرار مساسًا بشرفه وروحه ودينه وعزته، فيتصدى بصدرٍ عارٍ على أبوابه حتى يضع هذا القرار ومن وقعه تحت أقدامه الثائرة.
ثم لا غرو ولا عجب أن ترى ذاك الشعب المحاصر المبتلى لسنوات عجاف لم تنتهي بعد، تراه ينتفض على امتداد حدوده وأطرافه -ليس على حاكميه كما يتوهم البعض ويريد- بل على جلّاده ليقول له حتمًا سأعود ولو كلفتني مسيرات العودة هذه نقص الأموال والأنفس والثمرات، لكن لن أحيد عن فطرتي التي فطرني الله عليها.

                ثم ليس آخرًا في نموذج أبي عاصف، ذاك النموذج الذي يعبر عن الفلاح المقاوم والأسير المقاوم والشيخ المقاوم والأب المقاوم والأسرة المقاومة، فهو يعبر بحق عن الأصل الفطري المقاوم الذي لا تغريه الترغيبات ولا ترهبه التهديدات، ومهما قدم وبذل وأعطى فلسان حاله يقول الوطن يستحق والقدس غالية.

                هذا النموذج الذي لا يقبل الترويض والتهديد هو مستوحى من ذاك النموذج الفريد لنبي الله شعيب ومن آمن معه عندما بدأ المعادون لهم يضعونهم تحت التهديد لتحييدهم عن الحالة الفطرية السليمة }لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا{، فكانت الإجابة القويمة السليمة }أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ{، نعم كارهين للعودة للعبودية لغير الله، وكارهين لسياط الذل والخنوع والخضوع والركوع، وكارهين للتنازل والتفريط والبيع والتخاذل، ففطرتهم المقاومة ترفض كل هذه الأشكال مجتمعة ومنفردة.

                إن الاستفتاء الذي حصل في توديع أبي عاصف هو استفتاء على خيار المقاومة، فبرغم القمع والقيد والترهيب، وبرغم غياب التنظيم والترتيب، وفي ظل ظروف جائحة كورونا ومتطلباتها، إلا أن الناس خرجت منتفضة مبايعة مستفتية بملء فيها: نحن خلف المقاومة وخلف رموزها ولا نخالف فطرتنا وطبيعتنا وجبلتنا.

                إن هذا الحدث يؤكد أن كل شيء في فلسطين هو بنكهة المقاومة لا غيرها، وأن هذا الحدث وارتداداته كما فاجأ صناع القرار لدى الكيان سيكون مقدمة حقَّة لمفاجأتهم في تلك الثورة الانتخابية القادمة، والتي يسعى الاحتلال بكل مؤسساته لخلق حالة انفضاض بين الشعب وقيادته المقاومة ليخرجهم عن فطرتهم وليحيدوا عنها، لكن هذا الشعب الحي سيقول كلمته وسيخوض جولته وصولته باحثًا عن تعزيز المقاومة من خلال اختيار رموزها الحقيقيين الأصليين، معبرًا من جديد عن تلك المقاومة الفطرية الرائعة، وصدق صاحب الظلال حينما قال: "إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا مُتنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة".

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023