يتبادر إلى قارئ عنوان هذا المقال أن السطور التي ستتلو العنوان ستغوص في الحديث عن البحار وعمقها، أو الفلك وعظمها، لكن حقيقةً إن هذا ليس المقصد ولا المبتغى، بل إن السياق الذي أود الحديث فيه والخوض في مشاربه وأبعاده ودلالاته هو ما لفتني حقًا في هذه الآية شكلًا ومضمونًا، فالحق تبارك وتعالى يقول: (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام، إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور، أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير).
فلقد استوقفني كثيرًا انقسام المخلصين من أبناء الضفة على مسار الانتخابات كمدخل للمصالحة، وسمعت ورأيت وقرأت العديد من الكتابات والتعليقات التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي؛ فآلمني حقًا الشورى والنقد عبر هذه المنصات سواء اتفقت معها أو اختلفت، ومع تفهمي لفقدان الناس آليات التواصل والشورى بسبب قيود الأنظمة ومحاربة الرأي والقلم، إلا أننا كعاملين مخلصين قد زاننا الله ورفعنا على مر السنين بوحدة الصف والموقف والكلمة خصوصًا أمام المناوئين والمبغضين والمتربصين.
حاولت تشخيص الحالة مرارًا وتكرارًا إلا أنه كان صعبًا عليّ أن أحدد ما يجري، إذ أنه صعب على المراقبين والمتابعين فكيف بنا، فكرت أن أكتب فترددت كثيرًا ثم ازددت ترددًا على ترددي إلى أن عزمت الأمر بعد أن استوقفتني آية "الجوار في البحر كالأعلام"، فحاولت مجتهدًا أن أسقطها على الواقع وأصف بها الحالة وأقيم بها الوضع القائم بعيدًا عن الموقف من المسار القائم نحو الانتخابات كمدخل للمصالحة، إنما كان جل الاهتمام والأمر اللافت في هذه الآية هو المعيار التقييمي للبقاء علمًا وعنوانًا وقائدًا ومؤثرًا وربانًا لامعًا كبريق الشمس، وسأضع ذلك في نقاط عدة سائلًا الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
أولًا: إن البحار بما حوت في أعماقها، وما تلاطمت به أمواجها، وجرت بهم في موج كالجبال، إنها -أي البحار- لا تحمل على أكتافها إلا أولئك الذين يقودون باقتدار، فلا الريح العاصفة تأخذهم بعتيانها الشديد، ولا أشرعة السفن الشاهقة الباسقة تميل بهم حيث تميل.
بل أولئك القادة الأفذاذ -هوم ربانوا السفينة- لا يصلح لهم حال، ولا يقر لهم قرار، ولا يستقيم لديهم أمر، ولا يصلون بر الأمان، ولا يكونون أعلامًا أفذاذًا كبارًا للناس كافة إلا بمغالبة الأمواج العالية، ومدافعة الريح العاتية، والتكيف مع أسرار البحر ومكوناته ومفاجآته وأحداثه ومدلهماته.
ثانيًا: قد تصاب السفن هذه بحالة من الركود أو السكون أو الجمود أو الخمول (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره)، إن حالة السكون والركود هذه تنشأ عندما تغيب المغالبة والمدافعة والمقومة والمماحكة، وتظهر عندما يميل الربان إلى الدعة والراحة والأثرة والهدوء، واهمًا أن الأشرعة ستبحر لوحدها، وأن السفن سترسو في موانئها المحددة وبالأوقات المطلوبة، إن هذا أبدًا لن يحدث، وسيبقى الربان في غباب البحر باحثًا عن رياح تقله وأمواج تحمله، داخلًا في موازنات ظاهرها فيه الحكمة وباطنها من قبلها التلاشي والضمور والاندثار.
ثالثًا: قد لا يتضرر كثيرًا أولئك الأعلام والأفذاذ أصحاب الدعوات والرسالات من حالة الركود والسكون والجمود التي قد تصيبهم، ظانين أن الانتظار والقعود حتى يتغير الواقع ويتحقق المبتغى هو الحل، وهنا تجد جمال الآية العظيمة وشدة وقعها وجرسها في النفس (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير)، بمعنى أن الهلاك قد يكون بما يكسب الناس، فيحصدون ما زرعوا ويجنون صنع أيديهم، يتولون فيستبدلوا، ويبخلون ويستغنوا فيستغني الله عنهم، ولا يعدون العدة ولا يريدون الخروج فيكره الله انبعاثهم فيثبطهم فيقعدوا مع القاعدين.
ثم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "إذ تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم".
رابعًا: إن الصورة التي سبق سردها وإن شاء الله أن أكون قد وفقت في تصويرها والتعبير عنها تتمحور حول فكرة واحدة: إن من يريد أن يكون علمًا فذًا عنوانًا مرموقًا ونجمًا ساطعًا لا بد أن لا يتهيب صعود الجبال ولا ركوب الأمواج، وأن يجترح السياسات، وأن يعيش العمل والأمل معًا، وأن يُديم الاتصال مع الله، وأن يمنع الفساد والإفساد بالدفع، (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).
لا أبالغ إن قلت إن هذه الأمثلة قد لا تنقضي لكثرتها وتنوعها ووفرتها، أحببت أن أذكر أمثلة منها لا حصرًا لأذكر نفسي وأحبابي أننا أعلامًا وأفذاذًا كنا وسنبقى بإذن الله، وجاهزون في سبيل ذلك لدفع كل الأثمان دون شرط أو قيد ودون خمول أو ركود.