هآرتس - إيتي ماك
ترجمة حضارات
الموساد كان شريكا باغتيال الثوري والمعارض المهدي بن بركة
في الثاني من تشرين الأول عام 2018، دخل الصحافي السعودي جمال خاشقجي إلى مبنى القنصلية السعودية في اسطنبول ولم يخرج منها حيا.
بلغ خاشقجي الذي اختفت آثاره الـ 59 من عمره حينها، وكان أحد أهم داعمي العائلة السعودية المالكة. ولكن، ومع تولي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان الحكم تحول خاشقجي لناقد النظام الأول. بل وانتقل في صيف 2017 إلى الولايات المتحدة وفي شهر أيلول من العام نفسه بدأ بالكتابة بشكل دائم لصحيفة "الواشنطن بوست".
لم يرق توقيت صحوة خاشجقي للنظام السعودي على الإطلاق، فقد أضر موقفه النقدي هذا بالحملة العالمية التي بادر إليها النظام السعودي خلال تلك السنوات وأراد من خلالها رسم صورة إيجابية لولي العهد بن سلمان، باعتباره مُصلحًا تاريخيا. كان هدف الحملة جذب مستثمرين أجانب جدد للمساهمة بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية المُخطط لها في المملكة، للحدّ من اتكالها حصريا على عوائد النفط. دعم نظام ترامب وصحافيون"أجانب" ممن أسرهم سحر بن سلمان هذه الحملة، وعليه كانت الرياض الوجهة الأولى التي قصدها الرئيس ترامب حينها.
لم يكن من الصعب ومع الأسف وبفضل دعم الرئيس ترامب الشخصي لبن سلمان على المجتمع الدولي تجاهل دوره المركزي بشن الحرب الضارية والمستمرة على اليمن، اختطاف رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري، الإعلان عن مقاطعة قطر لإرغامها على إغلاق شبكة الجزيرة الإعلامية النقدية، تمويل مساعي قمع المعارضة في مصر والسودان. كشفت كتابات خاشقجي عن وجه بن سلمان الحقيقي، حيث لم ينوِ الأخير إجراء أي إصلاحات سياسية أو اقتصادية حقيقية، فلا يمكن عصرنة اقتصاد دولة مركزية وفاسدة تفتقر لمحاكم مستقلة ولمجتمع حرّ.
بالرغم من وجود معارضين سعوديين أكثر تطرفًا من خاشقجي داخل وخارج المملكة العربية السعودية، إلّا أنّ صوت خاشقجي النقدي الجديد خلق شعورًا حقيقيا بالتهديد لدى النخبة السياسية السعودية، لأنّه كان وببساطة شديدة "محسوبا على النظام".
لم يكن طبعا بالهين الوصول لخاشقجي وإسكاته بواسطة آليات المملكة الرقابية، وذلك لانتقاله للعيش في الولايات المتحدة.
لكن لم يكن هذا ليردع بن سلمان الذي قرر محوه كليا- فقد كشفت الحكومة التركية ووفقًا لتقرير الأمم المتحدة ولتقارير إعلامية دولية أخرى، أنّ رجال أمن سعوديين مقربين من بن سلمان سافروا إلى تركيا برفقة جراح تزود بمنشار قطع عظام واحتجزوا خاشقجي في بناية القنصلية السعودية في اسطنبول.
أفادت التقارير أنّ خاشقجي تعرض للتعذيب الشديد، وأن الضالعين بالجرم قطعوا أوصاله وأذابوا جثته المقطعة بالحمض.
وافقت حكومة بايدن في الخامس والعشرين من كانون الثاني 2021 وبعد مرور نحو شهر على إخلاء ترامب للبيت الأبيض،على نشر تقرير وكالة المخابرات المركزية للجمهور الواسع. أشار هذا التقرير، أنّ ولي العهد السعودي بن سلمان صادق على مقتل خاشقجي بل وعلى ما يبدو أصدر أمرًا بذلك أيضًا.
كم يعلم الجميع، يدير جهاز الموساد باعتباره مفوضا وذراعا لرؤساء حكومات "اسرائيل" المتعاقبة الطويلة، علاقاتها مع الدول العربية ومع دولٍ أخرى لا تربطها بها أي علاقات دبلوماسية رسمية. وعليه، فلن ينكشف الجمهور الإسرائيلي على تقارير الموساد وعلى الوثائق المتعلقة بالعلاقات الدبلوماسية والأمنية بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية، قبل وبعد قضية اختفاء خاشقجي قريبا بالرغم من كشف الصحافي حاييم ليفنيسون من خلال مقالته لصحيفة "هآرتس"، بيع شركة NSO للسعودية نظام تعقب واختراق للهواتف الخليوية. قدم وعقب ذلك الناشط والمعارض السعودي وصديق خاشقجي عمر عبد العزيز، دعوى ضد شركة NSO مدعيًا أنّ نظام التتبع الذي باعته للسعودية "زُرع" بهاتفه الخلوي، لكن قامت وبالمقابل شركة NSO بانكار أي علاقة بالأمر. وعليه، ما زالت تفاصيل التواجد والتدخل الإسرائيلي بالسعودية مجهولة، كما ولا وجود وحتى اللحظة لأدلة تثبت تورط "إسرائيل" مباشرة في قضية خاشقجي.
لم تضرهذه القضية المروعة بالعلاقات الإسرائيلية السعودية. حيث نشر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وبعد مرور شهر على اختفاء خاشقجي، تغريدة حملت في طياتها استنكارًا متحفظًا دعا العالم أجمع بالتعامل بعقلانية واتزان مع النظام السعودي وولي العهد السعودي؛ لتفادي المس بقدرة النظام على الحفاظ على مصالح "إسرائيل" أمام إيران.
حيث غرد نتنياهو عبر حسابه على تويتر قائلا: " كان ما حدث داخل القنصلية في اسطنبول مروعًا، وعليه يجب التعامل مع القضية بحزم. ولكن ومن أجل ضمان استقرار المنطقة، يجب الحفاظ على استقرار السعودية أيضًا وإيجاد الطريقة المثلى لتحقيق كِلا الهدفين، فالمشكلة الكبرى هي إيران، وعلينا فِعل كل ما بوسعنا كي نضع حدا لنشاط إيران العدائي الذي تمارسه في أوروبا بالذات.
لقد كشفنا الستارعن عمليتين إرهابيتين نظّمهما جهاز الأمن الإيراني السري، إحداهما في باريس والأخرى في كوبنهاغن. يقع التصدّي لإيران على رأس سلم أولوياتنا الأمنية ليس فقط من أجل أمن "إسرائيل"، إنّما أيضًا من أجل أمن أوروبا والعالم أجمع".
طالب نتنياهو وبحسب تقارير إعلامية عقب اختفاء خاشقجي، البيت الأبيض الحفاظ على علاقاته مع ولي العهد السعودي، بل والتقى نتنياهو في تشرين الثاني الماضي ببن سلمان شخصيًا.
تثير قضية اغتيال خاشقي تفاصيل قضية أخرى مشابهة حدثت قبل 56 عامًا. حيث، دعي بن بركة الذي كان قائدا سياسيا، ثوريا، داعيا للديموقراطية والعدالة الإجتماعية والتحرر من نير الاستعمار والملكية في المغرب في التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1965، لحضور لقاء عمل في حي سان جيرمان في باريس لتصوير فيلم.
لكن، لم يرَ أحد بن بركة بعد هذا اللقاء، أشارت مصادر كثيرة أن عملاء مخابرات مغاربة اختطفوه، عذبوه وقتلوه في إحدى فيلات باريس. نقلت جثته لاحقا وعلى ما يبدو إلى معسكر تعذيب في المغرب تحديدا إلى الرباط العاصمة، وأذيبت هناك.
لم يتم وحتى لحظة كتابة هذه السطور العثور على جثته، ولم تتحمل السلطات المغربية المسؤولية بشكل رسمي.
بحسب ما جاء في فيلم سيمون بيطون الوثائقي ("بن بركة: المعادلة المغربية ")، ولد بن بركة، والذي قتل في ربيعه الـ 45، لعائلة فقيرة في الرباط. ضمّه قادة حزب "الاستقلال" إلى حركة المقاومة التي وإلى جانب نضالها الحزبي ناضلت أيضًا ضد الحكم الاستعماري، أرسله الفرنسيون بعد الحرب العالمية الثانية إلى سجن يقع جنوب البلاد.
اتضح لاحقا أنّ تحالف الحركة الوطنية المغربية مع العائلة المالكة كان خطأ فادحا، وذلك لأنه وبعد حصول المغرب على استقلالها من الاستعمار الفرنسي عام 1956 أنشأ الملك محمد الخامس نظامًا دكتاتوريًا سار على درب القمع والاستغلال بالضبط كالاستعمار.
تحول بن بركة وعلى غرار خاشقجي لخصمٍ لدود للعائلة الملكية المغربية الفاسدة والدكتاتورية.
أنشأ بن بركة مع رفاقه منظمة دٌعيت حينها "بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" (UNFP)، وناضل من أجل خلق نظام ديمقراطي، إصلاح زراعي وإحقاق حقوق النساء ومحاربة الفساد. أطلق النظام المغربي وردًا على هذا النقد، حملة اعتقالات وإغتيالات لنشطاء المعارضة، الأمر الذي دفع ببن بركة للجوء إلى فرنسا. تحول بن بركة في المهجر إلى أحد أهم قادة النضال ضد الاستعمار، حيث نادى بتحرير بلاده ودمقرطتها، وانتخب لاحقا لرئاسة حركة "القارات الثلاث" ("Tricontinental") وعليه لاحقته أجهزة مخابرات دول عديدة.
تم وفي عام 1964، الكشف عن مخطط لاغتيال ملك المغرب حسن الثاني، أفاد أحد المتورطين بمخطط اغتياله ومن خلال في فيلم سيمون بيطون بأنّ بن بركة لم يكن شريكا للعملية لا من قريب ولا من بعيد. جاء رد الملك بشعا كالعادة، حيث أمر بعمليات اعتقال جماعية وحاكم المعارضين شكليا ومن ثمة أمر باعدامهم. أما بن بركة، فحوكم وأدين غيابيًا.
انطلقت لاحقًا في آذار 1965، مظاهرات في مختلف أنحاء البلاد قمعها النظام بوحشية، حيث عُذب وأعدم متظاهرون كثر. أعلن الملك عقب هذه المظاهرات وفي شهر حزيران عن حالة طوارئ، وأصدر أمرا لأجهزة الأمن بالقبض على بن بركة. وصف أحد رفاق بن بركة للنضال ومن خلال فيلم سيمون بيطون نهج معاداة السلطات له قائلا: " يقطف النظام كل زهرة قد تنمو في الحديقة، قبل أن يتمتع الآخرون بعطرها". أكاد أجزم أن هذا نهج العائلة المالكة السعودية القاتلة أيضا!
حظرت الرقابة الإسرائيلية نشر أي وثائق ومعلومات تتعلق بهذه القضية الخطيرة، إلا أن " بول" الصحيفة الإسرائيلية الأسبوعية قامت وفي كانون الأول 1966 بفضحها. أعتقل سرا وعلى أثر هذا السبق الصحفي مُحررو الصحيفة واتهموا بالتجسس، بل وأدينوا وحكم عليهم بالسجن لمدة عام.
لم يرغب جهاز الأمن العام الإسرائيلي بلفت انتباه الرأي العام للقضية، وعليه سمح للمحررين بمتابعة إصدار وتحرير الصحيفة من داخل السجن. أطلق لاحقا سراح المُحررين بعفو من رئيس الدولة بعد أن قضوا نصف مدة محكوميتهم.
نشر الصحافي رونين بيرغمان في آذار 2015 من على صحيفة "يديعوت أحرونوت" مقابلة أجراها مع رئيس الموساد السابق ميئير عميت، إعترف الأخير من خلالها بأنّ جهاز المخابرات المغربي طلب مساعدة الموساد بعملية اختطاف واغتيال بن بركة وأشار:" بدا طلب التخلص من الهدف طبيعيًا جدا... كانت قِيمهم مختلفة عن قيمنا. وعليه، كنا أمامم معضلة حقيقية: أنساعد ونتورط أم نرفض ونخاطر بإنجازات وطنية من الدرجة الأولى".
أشار بيرغمان إلى أنّ الموساد ساهم بشكل مباشر بالإيقاع ببن بركة بالفخ، بل وزوّد العملاء المغاربة بخمسة جوازات سفر أجنبية مزورة وبموارد إضافية ساهمت بتنفيذ العملية. كشف بيرغمان لاحقًا في كتابه Rise And Kill First (2018) أن الموارد الإضافية شملت معلومات استخباراتية، "شُققا آمنة" في باريس، مَرْكبات وسُمّا.
أفاد رافي إيتان والذي شغل منصب مندوب الموساد في باريس إبان اغتيال بن بركة، في مقابلة لبرنامج "عوفدا" الذي بُث في السادس عشر من أيار عام 2019، بأنّ رئيس جهاز مخابرات الملك حسن، أحمد الدليمي قال له حينها: " مات الرجل، كل ما نريده منكم هو مساعدتنا بالتوثيق... قال لي أغرقته في حوض الاستحمام... أدخلته... ملأت الحوض بالماء، أدخلته إلى الحوض، أمسكت برأسه، أدخلت رأسه إلى الحوض، اعترف لي أنّه قتل الرجل... تذكرت عندها أنّه وفي كل مرة نفقت بقرة في منزل أبي، كنا نقوم بسكبِ الجير الحي عليها لتتآكل بسرعة. كان هذا ما اقترحته عليهم، قلت اشتروا أكياس جير حيّ واسكبوها على الجثة. وبالفعل كان هذا ما فعلوه، فلمن لا يعرف، لا تنجح حتى الكلاب من اكتشاف جثث مغطاة بالجير". سأل الصحافي بين شاني إيتان: "ألم تزعجك حقيقة معرفتك بارتكاب جريمة في باريس، بل ومساعدتك القتلة على إخفائها؟" أجابه إيتان: "أنت تتحدث بمثالية عالية، وأنا لست مثاليًا. كان دوري الحفاظ على العلاقات الإسرائيلية المغربية. وعليه فلم تكن وظيفتي إنقاذ بن بركة، بل ولم يهمني إنقاذه بتاتا.
ما حدث في باريس، لا يختلف عن الاغتيالات الإسرائيلية الاستهدافية اليومية... نحن في خضم صراع استخباراتي لا نهائي ولا مكان فيه للأخلاق... فالنشاط الاستخباراتي برمّته عبارة عن تعاون مستمر على ارتكاب جرائم".
سيخدم الكشف عن تورط الموساد وبعد مرور 56 عامًا على هذا الملف الخطيرواغتيال بن بركة، المصلحة العامة.
بل وسيحقق على الأقل العدالة لأسرة بن بركة، وربما يضع حدا لتكرار مشاركة إسرائيل باغتيال قادة معارضة آخرين في مختلف أنحاء العالم. لا يسعنا الآن سوى أن نتساءل كيف كان سيبدو المغرب- الذي يعاني مواطنوه من الفقر، الفساد وانتهاك جسيم لحقوقهم - ما لم يُغتل بركة؟ كيف كان سيبدو المغرب لو عاد بن بركة إليه ودعم الإصلاحات الديمقراطية والاجتماعية التي وضعها نصب أعينه؟
قد يلقي الكشف عن وثائق تورط الموساد باغتيال بن بركة الضوء على دور الموساد ودولة "إسرائيل" في قضية خاشقجي. وعليه فلا مفر من التساؤل، هل فضّل كل من الموساد ودولة "إسرائيل" - قبل وبعد إغتيال خاشقجي - المصالح السياسية-الأمنية والتعاون مع نظام فاسد قامع ووحشي على أي أمر آخر؟ يجب ألا تكون الإجابة على هذا السؤال وخلافًا لأقوال رافي إيتان في مقابلته ضمن برنامج "عوفدا"، موضع اهتمام "المثاليين" فقط، بل موضع اهتمامنا جميعًا كبشر.