بقلم المستشار/ أسامة سعد
انجلى غبار المعركة، وهدأ صخب السلاح، وبرزت المقاومة الفلسطينية كعملاق من الأساطير القديمة، جاء على حين غرة ليدك معاقل وحوش بشعة تجرأت على حمى الفلسطينيين وقدس أقداسهم، فاستباحته قتلاً وحرقاً وتشريداً، انجلى غبار المعركة وظهر هذا العملاق الأسطوري وهو ينفض عن كتفيه غبار المعركة التي أذهلت العالم كله وجعلت سيد البيت الأبيض يجرى ستين اتصالاً مع رئيس وزراء الاحتلال، ليس كما قيل ليمنع قتل الأبرياء، فلا يستقيم هذا القول والطائرات الأمريكية المذخّرة بالذخائر الأمريكية التي عوضت في أثناء المعركة، هي وسيلة القتل الفعالة التي كانت تحت تصرف الاحتلال، ولكن كانت اتصالات سيد البيت الأبيض ليطمئن على سير المعركة ويتأكد من أنها تسير لمصلحة الاحتلال، وليضمن أن الاحتلال يحقق خطه رئيس أركان حربه المسماة "تنوفا" والتي تعتمد أساساً على كثافة النار المفرطة، وإيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى في صفوف الشعب الفلسطيني، وذلك حسب ما زعموا ليحققوا صورة النصر التي لم تتبلور لهم خلال حروبهم السابقة ضد المقاومة، وعلى هذا الأساس فقد منحهم سيد البيت الأبيض الوقت اللازم لإنجاز مهمة الدم هذه، وعرقل جلسات مجلس الأمن التي عقدت لبحث إطلاق النار، ومنع حتى مجرد إصدار بيان عن المجلس وهذا أقل إجراء يمكن للمجلس أن يتخذه في ظل وضع كالذي كان قائماً.
وحينما استيقن سيد البيت الأبيض أن الاحتلال عاجرٌ تماماً عن تحقيق شكل النصر المطلوب، أو لنقلها بالعبارة الأصح، (منعته المقاومة من تحقيق هذا الإنجاز)، أعطى سيد البيت الأبيض الإشارة للوسطاء لإنجاز وقف لإطلاق النار.
الرئيس الأمريكي بايدن ووزير خارجيته بلينكن صرحا خلال العدوان أنهما يدعمان حق الاحتلال في الدفاع عن نفسه، رغم أن الاحتلال هو المعتدى وفقاً للقانون الدولي وكافة الشرائع والأعراف والاتفاقيات الدولية، ولذلك هو ملاحق الآن من محكمة الجنايات الدولية بدعوى ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، حتى قبل هذه الحرب الأخيرة، ورغم ذلك لم تتوقف الإدارة الأمريكية عن تصدير موقفها التقليدي منذ تأسيس الكيان وهو توفير الغطاء السياسي والعسكري والاستخباري والمالي المطلق للاحتلال، وفي هذا السياق يتكرر الموقف الأمريكي بدعم الاحتلال (في حقه في الدفاع عن نفسه) كما يزعمون، وفي ذات السياق تَشَكْل لدى الإدارة الأمريكية قناعة باتجاه أن بقاء الاحتلال واستمراره أصبح مرهوناً بحصول الشعب الفلسطيني على بعضٍ من حقه، ولو كان هذا البعض يسيراً أو ضئيلاً، وذلك لإقناع الشعب الفلسطيني بالتوقف عن مقاومة الاحتلال وتسويق السلام والتطبيع على أنه هو الحل الأمثل للصراع القائم منذ مئة عام على أرض فلسطين، وذلك يعني من وجهة نظري وقد قلت ذلك سابقاً أن تبنى الرئيس الأمريكي بادين لحل الدولتين لا يأتي كإنصاف للشعب الفلسطيني ودعم حقه في الاستقلال وتقرير المصير، بقدر ما هو لضمان مستقبل الاحتلال على أرض فلسطين واستمرار بقائه، وفي هذا السياق نرى تحركاً دبلوماسياً محموماً من الإدارة الأمريكية لتعزيز سلطة أبي مازن وفريق المقاطعة، وذلك ما ظهر أخيراً من محاولة تحويل أموال إعمار قطاع غزة عن طريق رام الله، وبعض تصريحات الاحتلال التي تشير إلى محاولة إعادة دراسة المنحة القطرية لتحويلها من طريق رام الله أيضاً، إضافة إلى الدعوات المتعددة لإحياء عملية السلام والمفاوضات لحل الدولتين .
وكل ذلك يأتي والأطراف جميعها الإقليمية أو الدولية تعلم يقيناً أن شرعية سلطة أبي مازن قد لفظت أنفاسها الأخيرة بعد أن أفشل أبو مازن الانتخابات التي أجمع عليها الشعب الفلسطيني، وذلك تحت عذر القدس التي لم يتصدى لواجب الدفاع عنها سوى أهلها ثم المقاومة، التي لبت نداء أهالي القدس الذين نادوا مراراً وتكراراً باسم قائد المقاومة وباسم غزة، وبذلك انكشفت سوأة سلطة أبي مازن واتضح جلياً أن القدس ليس لها في جعبة أبي مازن سوى التصريحات الجوفاء الهزيلة، وأما ما هو موجود في جعبة المقاومة فهو حق الدفاع المقدس الذي قامت به المقاومة بكل اقتدار، فحققت النصر وهتف باسمها الشعب، وأجريت الانتخابات التي كان مقرراً لها يوم الثاني والعشرين من أيار ولكن بشكل آخر، وأعلنت نتائجها بفوز ساحق للمقاومة.
ولذلك يأتي السعي الأمريكي لسرقة ثمرة هذا النصر وإهدائه لمن لا يستحق، الأمر الذي يجب أن تتنبه له المقاومة وقوى الشعب الفلسطيني الحية، وتتصدى لهذا التحرك الأمريكي والأوروبي بموقف وطني جامع يعبر عن نبض الشارع الفلسطيني ليأخذ زمام المبادرة، ويقطع الطريق على السعي الأمريكي لنفخ الروح في جسد ميت لتنفيذ مخطط لا يصب في النهاية إلا في مصلحة الاحتلال.