سلاح المشاة والمعركة الحديثة

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني


بقلم: عبد الله أمين 

26- 07- 2021

يجادل كثير من أهل الاختصاص في مسألة أن سلاح المشاة وبعد تطور الوسائل القتالية ووسائط النار البرية والبحرية والجوية، وما رافق ذلك من دخول التقنيات والبرمجيات على عمليات إدارة الحرب وإدارة ميادينها، يجادلون في أن هذا الصنف من القوات ما عاد كما قبل صاحب الحظوة لدى القادة ومهوى قلوب المنتسبين للقوات المسلحة، كيف لا وقد تراجع دور هذا السلاح على حساب تقدم صنوف القوات المسلحة الأخرى وعلى رأسها سلاح الجو وأسلحة الاشتباك البعيدة، والتي تحول دورها من إسناد القوات والتمهيد بالنار لتقدم سلاح المشاة؛ لتصبح أداة سحق للأهداف الأرضية وليس تلينها فقط، إلى الدرجة التي يظن معها أصحاب ذلك الرأي أن سلاح المشاة لم يعد له دور في عمليات الإجهاز الأخيرة على قدرات العدو البشرية والمادية وتطهير الأهداف الأرضية، بعد أن تكون باقي أسلحة الدعم والإسناد قد هيئة له الظروف ولينت له الأهداف. 

إن هذه المقالة تناقش الفرضية التي تقول بتراجع دور وأهمية سلاح المشاة في المعركة الحديثة، انطلاقاً من أن هذه الصنف من القوات المسلحة ما زال رقماً صعباً ومركباً قتالياً يلعب دوراً حاسماً في المعركة الحديثة ـــــ إلى جانب باقي الصنوف القتالية الأخرى ـــــ بل لا يمكن حسم المعارك دون تدخل منه وما يتبع له من صنوف أخرى واختصاصات نارية وإدارية داعمة له ومساندة لحركته، وقبل أن نخوض في أصل الدور الذي يلعبه سلاح المشاة في المعارك والأهداف التي تلقى على عاتقه؛ دعونا نمر مروراً سريعاً على أهم التغييرات التي لحقت بالقوات المسلحة بمختلف صنوفها واختصاصاتها على أثر التطور التكنولوجيالحالي والذي لم يدع مجالاً مدنياً أو عسكريا إلا وتقاطع معه وأثر فيه وطبعه ببصمته. 
إن أهم ما تركته عملية التطور التكنولوجي من أثر على الحرب يمكن أن يختصر في الآتي من الآثار: 

  1. (ترشيق) القدرات: إن أهم ما تركته التكنولوجيا من أثر على صنوف القوات المسلحة وقوات الدعم الناري والإداري المصاحبة لها هو: تخفيف هذه القدرات؛ فما عدنا بحاجة إلى أطقم عمل كبير تشغل منظومات النار، ففي زمن من الأزمان كنت بحاجة من خمسة أشخاص إلى ستة لتشغيل مدفع ميدان من العيار المتوسط أو الثقيل، بحيث لابد من وجود شخص أو شخصين لتهيئة الذخائر وتقريبها من المدافع، ولابد من وجود شخص أو شخصين لإتمام عملية التذخير، وآخر لتشغيل المدفع وسحب زناد التفعيل أو شد حبله، وضابط مدفعية ليضبط كل هذه العملية فضلاً عن ضابط توجيه النار ومجموعة الرصد الميداني، أما في سلاح الدروع وفي صنف دبابات القتال مثلاً، فبالإضافة إلى سائق الدبابة؛ نحن بحاجة إلى مدفعي يطلق النار وأخر يذخر مدفع الدبابة بعد كل طلقة، وثالث لسحب الظرف الفارغ والقائه خارج الدبابة حتى لا تضيق مساحة حركة الطاقم داخلها، وفي الدفاع الجوي حدث ولا حرج؛ فأنت بحاجة إلى أطقم خاصة لتمييز الطيران، مهمتهم تحديد نوع المقاتلة المغيرة أو التي تحلق في أجواء المعركة، فبالإضافة إلى معرفة نوعها، لابد من تحديد تسليحها ونقاط ضعفها وطريقة مناورتها، ثم تزود أطقم أسلحة الدفاع الجوي ــ النارية والصاروخية ــ  بهذه المعلومات لتوائمها مع أسلحتها وتختار نوع الذخيرة وزاوية الاشتباك المناسبة مع هذه الوصائط الجوية، ثم يصدر أمر الاشتباك، هذا فضلاً عن أطقم تشغيل أسلحة الاشتباك الأرض جوية ـــ النارية أو الصاروخية ـــ مع الطائرات المغيرة . كل هذه العمليات القتالية والإدارية كانت تتطلب وجود كوادر بشرية مدربة ومؤهلة وحاضرة في الميدان، الأمر الذي جاءت التكنلوجيا و( أتمت ) القدرات لتختصر كثير من خطوات هذا المسار، مما رَشّق القوات؛ بشراً وأدوات.   

  2. سرعة الانتشار: وكنتيجة طبيعة لعملية الترشيق تلك؛ أصبحت عمليات الانتشار الإداري والانفتاح التعبوي أكثر سرعة ولا تتطلب كثير من الزمن، فبمجرد أن يصدر أمر التعبئة العامة أو الاستعداد للانتشار الإداري أو الفتح التعبوي للقوات، لا تلبث هذه التشكيلات القتالية أو الإدارية من أن تَحضُر في مكان الحشد في زمن أقصر بكثر مما كانت تتطلبه عندما كانت أسنانها ــ قوات اشتباكها ـــ كثيرة وذيلها ــ قوات الاسناد ــ  طويل وثقيل، وسرعة الانتشار هذه تشكل ميزة ونقطة قوة للقوات، كونها تعني أن هذه القوات لديها من المرونة وقابلية الانعطاف والتكيّف مع أي موقف ميداني، ما يمكنها من التعامل مع مختلف المواقف القتالية والتملص السريع من مربعات الخطر التي قد جد نفسها فيه أثناء الحركة والمناورة. 

  3. زيادة الفتك ومستوى الدمار:  كما تركت التكنلوجيا بصماتها الدموية على قدرة وسائط القتال ووسائله فيما يخص حجم الدمار الذي يمكن أن تلحقه هذه الوسائط بأهدافها البشرية والمادية، فتطور التكنولوجيا زاد من الدقة والمدى والقدرة التدميرية لمختلف وسائل القتال ووسائط النار، ففي الوقت الذي كانت بعض القذائف الخرقة للحصون والملاجئ من عائلة الــ GBU مثلاً تحدث خرق لا يزيد عن خمسة إلى عشرة أمتار في الملاجئ والحصون؛ جاء التطور التكنولوجي ليزيد هذه المسافة لتصل لدى بعض أفراد هذه العائلة ـــــ GBU43B ــــ إلى ما يقارب الستين متراً تحت الأرض !! 

لقد كان هذا باختصار شديد أهم ما أدخلته التكنولوجيا ـــ أتمتة القدرات ـــ من تطورات على الحرب ووسائلها ووسائط نارها، وما تركه هذا التغيير على طبيعة خوض معاركها، دون الدخول في تفاصيل أخرى قد لايتسع لها هذا المقال، ولكن وبالنظر الدقيق إلى هذه المتغيرات التي طرأت على الوسائل والوسائط القتالية وطبيعة حركة القوات وطرق عملها، نلاحظ أن هذه التغييرات لم تحذف دور سلاح المشاة من المعركة ولم تختصر أصل الهدف من إنشائه ــــ وإن كانت قد أراحته من بعض المهام ــــ حيث بقيت مهمته الأساسية في أي معركة مستقبلة على ماهي عليه، لم تتغير ولم تتبدل، وهي مهمة تعد في أصلها لازمة من لوازم  نجاح أي عملية عسكرية، بغض النظر عن حجمها أو الهدف منها أو طبيعة الوسائط المستخدمة فيها، وهنا لن نتطرق أيضاً لتفصيل مهام سلاح المشاة في المعركة؛ وإنما سنتحدث عن ثلاثة مهام تعد هي فاتحة وخاتمة المعارك العسكرية، والتي لا يمكن أن يتصور أن يتم إنجازها في غياب جندي المشاة الحاضر في الميدان والمنتشر على خط الجبهة والمناور على محاورها ومسارات تقربها، هذه المهام هي: 

  1. توجيه العمليات وتنظيم النار: إن توجيه العمليات الميدانية لابد له من جنود مشاة على الأرض، يحددون المحاور ويعينون المسارات، ويؤكدون صحة الأهداف، ويضيئون بعضها بأشعة الليزر ليسهل استهدافها بمختلف وسائط النار الدقيقة والذكية، وبدون هؤلاء الجنود فإن كثيراً من هذه الأهداف تبقى غير مؤكدة أو غير مصادق عليها، أو على أقل تقدير مشكوك في حجم خطرها والتهديد الناجم عنه، أو درجة أهميتها على سلم أولويات الفعل التعبوي، وهنا قد يجادل البعض في أن سلاح الطيران المسير من الممكن أن يقوم بمثل هذه المهام، فبتسطيحه لساحة المعركة وإرسال صورها بشكل مباشر ولحظي إلى غرف العمليات، يكون قد أنجز المهمة وحقق المطلوب، وهذا أمر صحيح، ولكن التحقق من صحة الأهداف وبناء بنكها بشكل مسبق لا يتم عن طريق الطائرات المسيرة، وإنما يتم عن طريق مصادر بشرية تعمل على الأرض وتجوبها شبراً بشبر، وهذه المصادر ذات طابعين: إما مصادر أمنية مثل العملاء والمصادر المجندة بشكل مسبق، وإما مصادر عسكرية تعمل بشكل آني مع تقدم القوات ـــ استخبارات الميدان ـــ وهي التي تقوم بتحديد الأهداف وإرسال احداثياتها أو تقوم بإضائتها بأشعة الليزر أو وضع مستقبلات القذائف الدقيقة في هذه الأهداف لتجذب نحوها ما يتم اطلاقه من قذائق ذكية عن بعد عشرات ومئات الكلومترات، حيث يعد ما يقوم به العامل البشري الميداني ـــ جندي المشاة ــ هو الأساس الذي تنطلق منه أعمال الطائرات المسيرة وتبني عليه وتراكم عملها، وهنا نضرب مثالاً سريعاً للتدليل على هذا الأمر؛ فوحدة مجلان في الجيش الإسرائيلي وهي وحدة تابعة للاستخبارات العسكرية، تعمل خلف خطوط العدو ولا تخوض معارك حاسمة وإنما دفاعاً عن النفس مهمتها الوحيدة؛ توجيه قوات المناورة وتنظيم النار على الأهداف في عمل الجبهة المعادية من خلال إضاءتها بالليزر أو زرع المستقبلات الالكترونية التي تجذب النار نحو الهدف. 

  2. حسم المعارك:  كما يقع على عاتق سلاح المشاة بمختلف صنوفه المجوقلة أو المؤللة أو الراجلة، حسم المعارك وإنجاز المهام، فأسلحة الجو والبحر وما تملكه من قدرات نارية فتّاكة قاتلة، لا يمكن أن تحسم معركة ولا أن تنجز مهمة، ما لم يكن الهدف من العمل العسكري هو التدمير لمجرد التدمير، أما إن كانت المهمة هي الاحتلال أو التحرير، فلا مناص من استخدام سلاح المشاة لكتابة السطر الأخير في المعركة، بل أكثر من ذلك؛ يعلم القادة العسكريون أن تدمير القدرات البشرية أهم بكثير من تدمير القدرات المادية، فالطائرة والدبابة والمدفع وغيرها من أدوات القتال، يمكن أن تُستبدل وبشكل سريع إن أُعطبت أو دُمرت أو خرجت من الخدمة، أما طاقم الطائرة أو الدبابة أو بطارية المدفعية؛ فإنه يُبذل في سبيل تدريبه ورفع كفاءته وجاهزيته الغالي والنفيس وتصرف الأوقات الكثيرة للوصول به إلى الكفاءة الفنية والقتالية التي تمكنه من خوض غمار المعارك؛ لذلك عند الأزمات يطلب من قائد الطائرة أن يقفز منها ويدعها تتدمر، وأن يترك قائد الدبابة دبابته أو طاقم المدفعية مدفعه وينسحب بسلاحه الفردي ويقاتل دون سلامته الشخصية إلى أن يصل إلى مكان آمن تلتقطه منه قيادته في عمليات إنقاذ، ثم يعاد تسليحه والحاقه في وحدة أخرى يقاتل في صفوفها، وهنا بيت القصيد؛ فكيف لنار من الجو أو من البر أو البحر أن تقضي على جنود تحصنوا جيداً وشغلوا وسائط الدفاع ـــــ السلبية منها والإيجابية ـــــ في مواجهة عدوهم؟ إن القضاء على هؤلاء الجنود يتطلب عملاً برياً تلتحم فيه القوات مع القوات وتتواجه في الوجوه مع الوجوه، وهنا وبهذه الطريقة تحسم المعارك وتكتب فصولها الأخيرة. 

  3. تثبيت الإنجازات وغرس الرايات: أما المهمة الأخيرة التي لا يمكن لسلاح الجو أو البحر أو أي سلاح آخر أن يقوم بها فهي: تثبيت الإنجازات وغرس الرايات؛ إن الإنجازات والمهام التي يقوم بها سلاح الجو أو البحر أو المدفعية بمختلف مدياتها، تبقى حبراً على ورق ما لم يتبعها جنودٌ يغرسون العلم على الأرض، ويثبتون الإنجاز، ويهيؤون الأرض لتكون منطلقاً أو رأس جسر لعملية قادمة، إن قواعد النار البرية التي تدمر الأهداف وتلين القاسي منها ما لم تواكِب تطور الموقف أولاً بأول وتتقدم خلف القوات لتؤمن لها الإسناد المطلوب، إن هذه القوات ما لم يسبقها جنود المشاة الذين يهيؤون الميدان ويطهرون المواقع؛ فإنها ستبقى عالقة حيث هي لا تتقدم إذا تقدمت القوات ولا تُسعف في نار إذا اقتضت المواقف والتطورات. 

إن سلاح المشاة كان وما زال وسيبقى له دور حاسم في الحروب والمعارك، ولن ينال من دوره هذا نائل ما بقيت الحرب حرباً والصراع ناراً، فتطور التكنولوجياً ( وأتمتة ) الحرب، وإن كان ساعد على التخفيف من دور سلاح المشاة في المعارك، إلا أنه لم ولن يلغي دوره؛ لذلك ما زلنا وسنبقى نسمع منه وعنه، فهو الذي يحسم المعارك وهو الذي يغرس العلم، وهو الذي يكتب السطر الأخير في المعركة ويمنح النصر فيها لمن أولاه العناية وحباه بالرعاية. 



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023