أفغانستان تجرع القوتيين العظميين مرارة الهزيمة.

أسامة سعد

مستشار قانوني

أفغانستان تجرع القوتيين العظميين مرارة الهزيمة.  

بقلم المستشار/ أسامة سعد  


واحد وثلاثون عاماً بين انسحاب الجيش الروسي (جيش الإتحاد السوفيتي في حينه قبل تفككه) وانسحاب الجيش الأمريكي في 2021م.

في عام 1979م دخل جيش الإتحاد السوفيتي إلى أفغانستان لدعم نظام الرئيس الأفغاني الشيوعي في حينها نجيب الله، وكان يفترض أن تكون أفغانستان في حينه لقمة سائغه للجيش الأحمر، الذي كان ينافس جيش الولايات المتحدة في القوة والعتاد، وكان بينهما سباق تسلح محموم لضمان السيطرة والنفوذ على العالم، الذي قُسّم في ذلك الوقت إلى معسكرين، شرقي يقوده الإتحاد السوفيتي وغربي تقوده الولايات المتحدة، وكما كل دول العالم انقسمت الدول العربية بين المعسكرين فكانت كل دول الخليج ومصر والأردن والمغرب تتبع المعسكر الغربي في حين كانت سوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن والسودان تتبع للمعسكر الشرقي.

ومادام أن الأمر كذلك، فلقد دعمت وأيدت الدول المنضوية تحت نفوذ المعسكر الشرقي دخول الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، في حين عارضته الدول المنضوية تحت لواء المعسكر الغربي، ولم تكن معارضة الدول المنضوية تحت لواء المعسكر الغربي مجرد معارضة شكلية، بل اتخذت أشكالاً متعددة من توفير الدعم السياسي واللوجستي والعسكري لما عرف في وقتها بالجهاد الأفغاني، وقد أشرفت وبشكل أساسي المملكة العربية السعودية على دعم الجهاد الأفغاني بالمال والسلاح، وكانت أرض المملكة العربية السعودية مجالاً حيوياً لتجنيد الشباب العرب من كافة الأقطار العربية لمحاربة "المد السوفيتي" واتخذ هذا الدعم في بعده الأيديولوجي قضية نصرة الإسلام ضد الشيوعية، ولذلك لم يكن غريباً في وقتها أن يرأس الملك سليمان الحالي شخصياً في ذلك الوقت هيئة سميت "هيئة دعم الجهاد الأفغاني"، تلك الهيئة التي كانت تشرف على تجنيد الشباب العربي لقتال القوات الروسية وتوفير المال والسلاح للمجاهدين الأفغان، ولقد عملت ماكينة الإعلام الأمريكية بكل طاقتها لإبراز قضية "الجهاد الأفغاني" كقضية تحرر وطني، وأطلق على المقاتلين الأفغان تسمية "مقاتلو حرية". بل إن هوليود أنتجت عدة أفلام تمجد الجهاد الأفغاني أشهرها فيلم للمثل الأمريكي الشهير سيلفستر ستالون الذي لقب برامبو، واستقبل الرئيس الأمريكي رونالد ريجان قادة المجاهدين الأفغان في البيت الأبيض، وأشاد بقتالهم ضد قوات الغزو الروسي واصفاً إياهم "بمقاتلين من أجل الحرية".

أدى هذا الدعم اللامحدود إلى هزيمة القوات السوفيتية في أفغانستان وإضطراها للإنسحاب في شباط 1989م، وإعتبر نصر المجاهدين الأفغان نصراً للإسلام في مواجهة الشيوعية من وجهة نظر المتعاطفين العرب وشعر المجاهدون العرب بنشوة النصر لبعض الوقت.

الغريب في الأمر في ذلك الوقت أن الدول العربية التي سخرت إمكانيات هائلة لدعم الجهاد الأفغاني ضد الروس، لم تفعل الأمر نفسه أو أقل منه بكثير لدعم جهاد الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، "وفلسطين هي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين" بل ضيقت على كل من له علاقة بحركات المقاومة الفلسطينية ولاحقتهم بالإعتقال والترحيل والتضييق بنفس الكيفية التي يتم العمل بها الآن ضد المقاومة الفلسطينية، ومن المفارقات العجيبة أن الولايات المتحدة التي دعمت المجاهدين الأفغان واعتبرتهم مقاتلي حرية، لم تكن تعترف أبداً بمنظمة التحرير الفلسطينية وكانت تعتبرها منظمة إرهابية، ولم تقبل الولايات المتحدة بإقامة علاقة مع المنظمة إلا بعد أن ألقت المنظمة السلاح ونبذت العنف الذي سُمي إرهاباً واعترفت بحق عدوها المغتصب لأرضها بالوجود والحياة الآمنة فوق الارض التي يغتصبها.

كان الأمر كله مجرد جزء من الحرب الباردة المشتعلة بين المعسكرين الشرقي والغربي والصراع على النفوذ، وكانت شعارات الإسلام والحرية مجرد ثوب يغطي حقيقة صراع القوتين العظميين، صنعته وسائل الدعاية الأمريكية، وما يؤكد ذلك هو انقلاب الموقف الأمريكي وبالتبعية الموقف العربي من الجهاد الأفغاني، فبمجرد الانسحاب الروسي تم إغتيال عبدالله عزام الأب الروحي للمجاهدين العرب في أفغانستان، وبثت الفرقة بين قادة المجاهدين، الأمر الذي أدى دخول أفغانستان في حرب أهلية طاحنة حتى عام 1996م، عندما سيطرت حركة طالبان على عموم أفغانستان وأعلنت الإمارة الإسلامية، ومن الفارقات العجيبة أن العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة لم يعترف أبداً بهذه الإمارة التي كانت أيام الجهاد الأفغاني المدعوم أمريكياً هدفاً معلناً للمجاهدين الأفغان، بل لقد حاربت الولايات المتحدة بقوة هذه الإمارة سياسياً ودبلوماسياً وفرضت عليها عزلة دولية مشددة، وبدورها لاحقت الدول العربية المجاهدين العرب الذين عرفوا بالأفغان العرب في كل من مصر والسعودية، وانتهى المطاف بقيام القوات الأمريكية بغزو أفغانستان في أكتوبر عام 2001م واحتلالها بالكامل بعد أحداث 11 سبتمبر، وتنصب حكومة جديدة مدعومة غربياً برئاسة حامد كرزاي.  

ليستمر الجهاد الأفغاني من قبل حركة طالبان وهذه المرة دون دعم دولي من أي جهة كانت، ويعيد التاريخ نفسه وتتجرع الولايات المتحدة من نفس الكأس التي سقت الإتحاد السوفيتي منه، "كأس الهزيمة المر" وينسحب جيشها في مشاهد شاهدها الملايين من البشر عبر شاشات الفضائيات ليعيد للذاكرة العالمية مشاهد الفرار الأمريكي من سايغون عاصمة فيتنام.

أفغانستان خلال الأربعين عاماً الماضية كشفت حقائق وهتكت أستاراً، وأصبح لكل ذي لب وضوح في الرؤية، يستطيع أن يري بها الحقائق مجردة عن أي حجب سواء أكانت أيديولوجية أم إعلامية أم سياسية، لكن الحقيقة الأبرز في كل هذه الأحداث، أن دولاً عربية تعمل وفقاً للأجندة والمصالح الأمريكية حفاظاً على عروش وممالك، دونما أدنى نظر لقيم دينية أو وطنية أو حتى إنسانية، صحيح أن تحركها يكون تحت غطاء يناسب البيئة الأيديولوجية والسياسية والثقافية التي تتحرك فيها، ولكن في نهاية المطاف يكون التحرك وفقاً لعصا المايسترو الأمريكي، وقضية فلسطين خير شاهد، حقيقة أخرى رسختها أفغانستان وهي أن إرادة الشعوب الحرة لا تقهر، حتي لو طال زمن كفاحها ضد الاحتلال، وما مرت به أفغانستان ستمر به فلسطين أيضا في يوم أضحى قريبا.

غزة في 18/8/2021م

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023