عن القائد !! 5/5

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

بقلم: الخبير العسكري والأمني
عبد الله أمين

تحدثنا في الجزء الرابع من سلسلة " عن القائد !! " حول بعض المهام المعرفية التي يتوجب على القائد الإحاطة بها وإيلائها الأهمية المطلوبة، فذكرنا وجوب معرفته بالمهمة المطلوب القيام بها، وما يتعلق بهذا العنوان من أمور فرعية يتوقف عليها نجاح هذه المهمة، ثم جئنا على موضوع تخصيص القدرة وبسطنا الحديث فيه بما يسمح به المقام، وكان من أهم الأمور بهذا الخصوص معرفة جوهر القدرة ــ ناعمة، خشنة، ذكية ــــ وكَم هذه القدرة، وأين وكيف ستستخدم هذه القدرة. ونختم هذه السلسلة بما يتعلق بالصلاحيات والمسؤوليات ما يرتبط بهذا العنوان من متعلقات ومفردات وشروح، حيث تعد هذه الأمور من الأمور المعرفية التي يجب على القائد معرفتها والتصرف بناء على مقتضاها، كونها جزء من مهامه ومسؤولياته. 

  1. منح الصلاحية: ومن المهام المعرفية التي يطلب من القائد معرفة كيفية التعامل معها، موضوع الصلاحيات، فهما ًومنحاً، فالقائد عندما يتسلم موقعاً أو منصباً يتسلم معه بالإضافة إلى الأمور المادية والبشرية المشاهدة والملموسة، يتسلم معها ما يلزم من شؤون إدارية، وعلى رأسها صلاحية تفعيل وتشغيل ما وضع تحت إمرته من قدرات، فالمواقع الوظيفية وبغض النظر عن نوعها وطبيعتها يرتبط بها أربعة عناوين رئيسية تبين بنية وطبيعة هذه الأعمال، هذه العناوين هي: 

  2. التوصيف الوظيفي: وهو الإطار العام الذي يفهم منه صاحب المنصب حدود عمله، فالطبيب مهمته معالجة المرضى، والمدرس تدريس الطلاب، والمقاتل مهمته الرئيسية القتال، وكل توصيف وظيفي له عنوان رئيسي تُشتق منه باقي العناوين. 

  3. المهام المنبثقة عن هذا التوصيف:  من أجل تنفيذ أصل الهدف من التوصيف الوظيفي للشخص، يتم اشتقاق مجموعة مهام وأعمال توصل إلى تحقيق الغرض من العمل المناط بالشخص، تُدرج تحت مسمى وظائف أو مهام، يفهم أن تنفيذها يوصل إلى تنفيذ المهمة الرئيسية وتأدية التكليف المطلوب من الشخص، فيكافأ على قيامه بدوره، ويحاسب إن قصر عما أُنيط به من مهام. 

  4. الصلاحيات التي تمنح للقائمين على هذه الأعمال: وحتى يقوم الشخص بواجبه على أكمل وجه وينفذ تلك الوظائف التي توصله إلى ذاك الهدف، يمنح مجموعة من الصلاحيات التي تخوله سلطة الأمر والنهي، وتشغيل ما تحت إمرته من قدرات، هذه الصلاحيات تزيد وتنقص وفقاً للمستوى القيادي أو المهني للشخص محل المنح. 

  5. السياسات والضوابط: وهي مجموعة القواعد التي تحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع من أعمال أثناء تأدية المهام والواجبات، وفي العمل العسكري يطلق عليها مصطلح " قواعد الاشتباك " أو " أوامر القوات " وهي نصوص تكتب طي خطط العمليات أو التوجيهات القيادية، حيث تصاغ على شكل نصوص غير حمالة لأوجه، ولا تترك لفهم الأفراد والعناصر أو القادة والضباط. وهنا لا بد من إشارة سريعة ليكتمل البحث حول مفهومي المسؤولية والصلاحية. 

  • فالمسؤولية: وبشكل سريع كما وصفتها موسوعة الويكيبيديا هي "حالُ أَو صفةُ مَنْ يُسْأَلُ عن أَمْرٍ تقع عليه تبعَتُه.
     يقال: "أنا بريءٌ من مسؤولية هذا العمل". وتطلق أَخلاقيًّا على: "التزام الشخص بما يصدر عنه قولاً أَو عملا". وتطلق قانونًا على: "الالتزام بإِصلاح الخطأ الواقع على الغير طبقًا للقانون".وقيل : المسؤولية حالة يكون فيها الإنسان صالحًا للمؤاخذة على أعماله وملزمًا بتبعاتها المختلفة " وهنا المسؤولية تقع كاملة غير منقوصة وبشكل رئيسي على القائد، هو من يؤاخذ ويُسأل ويتحمل المسؤولة عن الأعمال، كما أنها لا تفوض ولا تنتقل من شخص إلى شخص آخر، ولا يمكن التهرب منها ما دام الشخص قَبل تحملها. 

  • الصلاحيات: أما الصلاحيات فهي الحق في صنع القرارات وهي شكل من أشكال السلطة القيادية تهدف إلى توجيه الآخرين بناءً على الموقع داخل المنظمة أو التشكيل أو الإدارة وليس ـــ التوجيه ـــ حسب الرغبات الشخصية. والصلاحيات في الشكل العام جزء من كل، فصلاحيات قائد الفرقة مثلاً تأتي من ضمن صلاحيات قائد الجيش، وصلاحيات قائد اللواء جزء من صلاحيات قائد الفرقة، وهكذا نزولاً، فالمستوى الأعلى هو من يملك المستوى الأوفى والأشمل من الصلاحيات، كما أن هذا المستوى قادر على تفويض صلاحياته لمن دونه إذا اقتضى الأمر، الأمر الذي يعني زيادة مستوى سلطاتهم، دون تحلل المستوى الأعلى من مسؤولياته. 

  1. معرفة الأرض: ومن أهم المعارف التي يطلب من القائد معرفتها بعد المهمة المناطة به، معرفة الأرض التي سينفذ عليها وفيها هذه المهمة، وقديماً قيل " قتلت أرضٌ جاهلَها، وقتلَ أراضٍ عالمها "، والمعلومات عين القوات، والمعلومة قوة، وعلى القائد أن يعرف كل شاردة واردة حول " منطقة المسؤولية " أو " منطقة العمليات "، ففيها سيحشد، وفيها سينتشر، وعليها سيناور ويقاتل، وهو سينظم هذه المعلومات فيما يعرف بتقرير "المعلومات القتالية " إن كانت الجغرافيا التي سيعمل عليها صغيرة الحجم، ممكن السيطرة عليها معلوماتياً بما هو متاح من إمكانات ومصادر معلومات، أو من خلال ما يعرف بتقرير " دراسة منطقة العمليات " وهو تقرير أشمل وأوسع ويتطلب اعداده زمناً أكبر من زمن اعداد التقرير الأول، فيه مضافاً لعناصر تقرير المعلومات القتالية ــــ النار والنظر، الاختفاء والاستتار، المعابر الموصلة، الموانع، العوارض الحساسة ــــ أمورٌ متعلقة بالمناخ والسكان والتيارات السياسية والوضع الاقتصادي، وغيرها من الأمور التفصيلية التي تساعد القائد على معرفة الأرض، خاتمين هذا البند بالتذكير أن فن المناورة هو عبارة عن : قدرة القائد على المزج بين الأرض والعتاد والمقاتلين في حركة قتالية ناجحة، وفي هذا تفصيل ليس هنا مكانه. 

  2. معرفة العدو: يلي معرفة القائد للأرض، معرفته للمستقرين في هذه الأرض والمنتشرين عليها، أو القوات المنفتحة عليها وتتحرك ضمن تضاريسها، وأول هؤلاء المنتشرين هو العدو، إنه العنوان الذي ما قُصِدت الأرض للعمل عليها إلا لوجوده فيها، أو خوفاً من وصوله لها، إنه ـــ العدو ـــ البشر والمعدات التي سيشتبك معها المقاتلين في مراحل القتال كلها، في مرحلة التمهيد للعمليات عبر وسائط النار المباشرة والقوسية، وفي مرحل التقدم عبر أسلحة الدعم الذاتي والمرافق، وفي مرحلة الالتحام عبر الأسلحة الفردية، الخفيفة منها والمتوسطة. ولكي يتمكن القائد مع مقاتليه من استثمار ما لديهم من قدرات في ضرب وتحطيم هذا العدو عليهم أن يعرفوا: 

  3. الاستعداد: البشري والآليات، ما هو عدد جنود العدو من قوات اشتباك أو قوات احتياط؟ ما هو العدد الممكن توفره له إن هو استدعى تعزيزات من قطعات أخرى؟ كم عدد ضباطه؟ وضباط صفه؟ وأفراده المقاتلين؟ 

  4. التركيب: ما هو التنظيم القتالي الذي يقاتل فيه العدو المنتشر أمامه؟ ومما يتركب هذا التنظيم؟ مشاة؟ مشاة محمولة؟ هل يضم في صفوف تشكيلاته دروع؟ ما هو دورها في معركته؟ وكيف تتم المناورة فيها؟ وأمور تفصيلية أخرى ليس هنا مكان بسطها، وما سقناه ما هو إلا نموذج للتعرف على هذا الجزء من العمل. 

  5. الانتشار: ثم أين ينتشر هذا العدو؟ ما هي البقعة الجغرافية التي تشكل منطقة مسؤولية أو منطقة عمليات له؟ ما هي المساحة التي تستطيع قطاعات العدو وتشكيلاته أن تناور فيها؟ ما هي التشكيلات المنتشرة على أجنحة العدو وفي مؤخرته؟ ما هو دورها في المعركة أو الاشتباك الذي سنخوضه معه؟ ومصفوفة من الأسئلة والاستفهامات التي تساعد في فهم العدو، يجيب القائد على هذه الأسئلة ـــ الاستعداد، التركيب، الانتشار ـــ من أجل معرفة نقاط قوة العدو ونقاط ضعفه، للتعرف في المحصلة النهائية على نواياه. 

  6. معرفة الذات: ومن الأمور التي يجب أن يحيط علم القائد بها، علمه بذاته، بقدراته وما يملك من مقدرات، فمن يعرف نفسه ويعرف عدوه، سينتصر في كل معركة يخوضها، ومن لا يعرف عدوه ولا يعرف نفسه وقدراته، فلا يحلمنَّ بنصرٍ أو ظفر. 
    إنها سنن الله التي لا تحابي أحداً، فاعرف نفسك واعرف عدوك، ثم توكل بعد أن تعقل، والهدف من معرفة الذات المقصود منه معرفة: نقاط قوتنا، أين نحن أقوياء؟ ما هي النقاط المرجّحة لنا وتعطينا أفضلية على العدو؟ هل في المعطيات البشرية أو المادية؟ أم أن الجغرافيا هي التي تعطينا هذه الميزة؟ ثم ندرس ذاتنا من أجل معرفة نقاط ضعفنا، ما هي هذه النقاط؟ هل يمكن تقويتها؟ كيف؟ هل هي نقاط ضعف بنيوية غير قابلة للجبر والمعالجة؟ إن كان كذلك، كيف تُستر عن أعين العدو ومصادر معلوماته وتغيّب؟ وأيضاً هذا العمل ـــ معرفة الذات ــيهدف إلى معرفة الفرص الممكنة أثناء تحركنا وعملنا ومناوراتنا، ومعرفة التهديدات التي يمكن أن تعترض طريقنا باتجاه أهدافنا، من أجل تحديد طرق العمل التي سنعتمدها ونتدرب عليها ونناور بناء عليها، كمرحلة أولى من مراحل العمل لمواجهة العدو في الميدان. 

مهام مرتبطة بالجاهزية : كل ما جئنا على ذكره في هذه السلسلة يهدف إلى إيجاد الجاهزية لدى المقاتلين والسهر على تعزيزها والمحافظة عليها في زمن السلم استعداداً للحرب، والجاهزية هذه يمكن أن تكون الجواب الأول والأخير والكلي عند السؤال عن مهام القائد ــ مطلق قائد ــ، فإن سُئل ما هي مهمة القائد؟ أُجيب : إيجاد الجاهزية لدى التشكيل والسهر على تنميتها وتعاظمها وعدم خفوتها أو تحللها لدى المقاتلين. وهنا نشير إلى أن الجاهزية هي مزيج من مركبين هما: 

  1. الرغبة: الرغبة لدى المقاتل والقائد والشعب والحاضنة للمسير في طريق ذات الشوكة، وتحمل أعبائها والاستعداد لدفع أكلافها، الذهاب في شوط مواجهة العدو إلى آخره، وهي ــ الرغبة ـــ لا تأتي إلا عبر:
  • ثقة: بالقضية وما يُقاتل من أجله، وبالقائد وما يَصدُر عنه، وبرفيق السلاح وأنه حامٍ للظهر، وبالحاضنة الشعبية وأنها لن تدير الظهر لنا، وبالحليف وأنه صادق النصرة أمين المشورة، وفي الذات وما تراكم لديها من خبرات وما وضع بين يديها من قدرات. 

  • الدافع: والرغبة لا تتولد إلا عبر دافع حقيقي يدفع بالمقاتل إلى أن يُرخِص روحه في سبيل قضيته، إن أهم ما يأخذه المقاتل معه إلى ميدان المعركة، قبل السلاح وبعده، جوابه على سؤال لماذا أقاتل؟ إن هذا الدافع مهمة إيجاده تقع على عاتق المنظومة كلها، سياسييها وعسكرييها ومجتمعها، وهذا الدافع يجب أن يحرص عليه ويُذكر به، ويبقى شاخصاً أمام القادة والمقاتلين، فلا تخبو عزائمهم باختفائه. 

  • الإدامة ( الديمومة ): والرغبة لابد لها من شروط لبقائها وديمومتها، من ثقة القائد بجنده، والرئيس بمرؤوسيه، وإظهار المحبة لهم والحرص عليهم، وعدم النظر لهم على أنهم مجرد أرقام في معادلات قتالية أو جولات انتخابية، وحنو الكبير على الصغير، ورؤية القادة والمسؤولين كقدوات عملية أمام جنودهم ومن يلونهم.

  1. القدرة: أما المركب الثاني من مركبات الجاهزية فهي القدرة، القدرة البدنية والنفسية، والقدرة الفردية والجماعية، والقدرة البشريةوالمادية كمنظومة قتالية تعمل في اتجاه واحد لتحقيق غاية عليا، وهذه القدرة تأتي عبر:
  • علوم ومعارف: ما يوضع بين أيدي القادة والمقاتلين ومختلف منتسبي التشكيل القتالي من علوم، على صعيد الاختصاص أو المهمة، أو العلوم والمعارف التي تساعد على الفهم وتغيير السلوك.

  • تجارب: ثم التجارب التي تراكَم على صعيد الفرد والتشكيل، أو تكتسب عبر التلقي من الآخرين، والسماع منهم والاطلاع على تجاربهم، والعاقل من يتعظ بغيره. 

  • خبرات: ثم تتحول هذه العلوم وتلك المعارف إلى خبرات يراكمها الشخص والتشكيل، ( يقتات ) منها عند الحاجة، أو يُقيت غيره منها، فيمنع خطأً قبل الوقوع، ويحقن دماً قبل السفك. 

كان هذا هو الجزء الخامس من سلسلة " عن القائد " زاعمين أننا لم نأت على كامل البحث ولم نوفيه حقه، ففتحه وبسط الحديث فيه يحتاج إلى مجلدات وكتب، وما جاء في هذه الخماسية ما هو إلا جهد المقل الهادف إلى تسليط الضوء على هذا الشخص الذي تشخص له الأبصار ويتحكم في مصائر البشر والديار، آملين أن يكون ما جاء في هذه السلسة باعث على البحث والتدقيق وإيلاء الأمر ما يستحق من أهمية، على قاعدة كلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023