أخلاق المقاومة

د. ناصر ناصر

كاتب وباحث سياسي

أخلاق المقاومة
بقلم ناصر ناصر
10-6-2020

قامت المقاومة الفلسطينية وتأسست كبقية ثورات شعوب الأرض ضد القهر والطغيان والاحتلال على مبادىء وأخلاق أساسية من أهمها البذل والتضحية والثقة والوفاء، وقد شكّل هذا أساسا وشرطا ضروريا لتماسكها وبقائها، بل وانتصارها لأن هذا ما قد يعدّل ميزان القوى المختل عسكرياً ومادياً لصالح المعتدي الغاشم، ولو قامت على حسابات المصالح والمفاسد الظاهرة والمحدودة لما وجدت لها جنودا ولا أتباعا، فالحياة الرغيدة الصالحة والمستقيمة والمستقرة في ظل الأهل والأحباب والعلم والعلماء، والحوار الهادىء والبنّاء وغيرها من مظاهر الحياة الطبيعية أولى من حياة الكّد والتعب والقتال والاعتقال والمعاناة والحرمان، وذلك في مقاييس التثاقل التي أشار اليها الله عز وجل "اثاقلتم الى الأرض".

والأدهى من ذلك وأمّر أن تسيطر هذه الحسابات على عقول وقلوب بعض قادة أو كوادر المقاومة، وقد "يستعينوا" بتبرير آخر وهو التخصص وهو مبرر سليم ومعافى من تهمة الحرص أو الجبن، شريطة أن يوجد للأفضلية الأولى في أعلى سلم الأولويات من يقوم بحقها من المختصين، فإن لم يوجد لسبب أو لآخر-ومن ذلك صعوبة أداء هذه الأولوية وتعقيداتها- أصبح واضحًا أن التخصص هو غطاء للتقصير وتجنب الصعوبات، وقد يقال أنه مؤشرٌ للجبن والخوف مِن دفْعِ أثمان تخصص المهمة الأولى في سلم الأفضليات، وبلغة أصول الفقه العظيمة فالمهمة الأولى هي واجب كفائي إن قام به البعض سقط عن الآخرين، وإن لم يقم به هذا البعض لم يسقط عن أحد وتوّسعت دائرة الوجوب لحين تحقيقها، وإلا فالكل مسؤولون وقد يكونوا آثمين.

"وأفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولا" فكثير من الواجبات موقوتة بأوقات محددة ومنها الصلاة والصيام وغيرها، فالوفاء بالعهد أيضا موقوتا، فإن تم تجاوز ذلك فقد مُس ركن ركين من أركان الوفاء بالعهد، وإطلاق سراح الأسرى مثال على ذلك، فلا يعقل ان يكون غير موقوت بزمنٍ معقول، وما نلاحظه اليوم من مكوث الأسرى لعشرات السنين إنما هو تقصير كبير يصل الى درجة الحرمة الشرعية، وقد حدد الإمام الشهيد احمد ياسين مدة هذا الوفاء بخمسة أعوام على الاكثر، ورفض رحمه الله التذرع الشائع بالظروف الصعبة وما يمر به العالم والمنطقة والاقليم و"سائر حارات العالمين "، فالمقاومون والمجاهدون وِفق الشيخ أحمد ياسين رحمه الله مشاركون فاعلون في صناعة هذه الظروف، ولن يكونوا ريشة في مهب رياحها في حالٍ من الأحوال، هكذا يصنعون الحياة الحرة الكريمة، وهكذا يغيرون الواقع.

ويزداد وفاء الأحرار لإخوانهم ورفقاء سلاحهم الذين وقعوا في الاسر، رغما عنهم بعد أن كتب الله عليهم الاعتقال بدل الشهادة يزداد هذا الوفاء تأكدًا ووجوبًا إن جاء بعد وعود متكررة مرّ عليها سنوات طوال بلغت العشرة بل العشرين بل الثلاثين عامًا، زادت خلالها معاناتهم باضطراد وأصبحت حياة بعضهم -وليست حريتهم فحسب- مهددة بالخطر، مما قد يعّرض بعضهم أيضًا للفتنة والتشكك في أخلاقهم ودينهم لا سمح الله، وليس بعيدًا عن ذلك كثيرًا تساؤلات -بالطبع ليست شكوك- النفر الأول من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام "حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله" ولم يكن قد مرّ على محنتهم أياماً أو أشهراً معدودة.

هذه بعضٌ من أخلاق المقاومة التي تسمح لها بالصمود والانتصار وقد ارتقت لتصل إلى درجة المصالح الكبرى لها، فلا مقاومة دون وفاء بالوعود والعهود لأبنائها أولاً ولعموم شعبها ثانيًا، وإلا فالخشية أن تتسلل إليها أخلاق السلطة وبريقها القائم على عقود المال والأعمال وحسابات الربح والخسارة "التثاقل"، وللتأكيد فهذا ليس غمزًا أو لمزًا أو تجريحًا لأحدٍ لا سمح الله، إنما هو "فقه حذيفة" حين قال: "كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني"، هكذا هو الأمر: مخافة أن يدركني.








جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023