بقلم:
د.إبراهيم أبراش
مع نهاية كل عام وبداية عام جديد تقوم الدول والمؤسسات باستشراف المستقبل، والاستشراف يختلف عن التنبؤ أو التكهن، إنه علم له أدواته المعرفية ويستلهم القاعدة التي تقول (الحاضر مستقبل الماضي كما أنه ماضي المستقبل) وبالتالي من خلال استلهام الماضي وأخذ الدروس والعبر منه ومن خلال الاستقراء العلمي للواقع الراهن حول القضية محل البحث والبيئة الداخلية والخارجية المؤثرة فيها، والتمعن في الأسباب التي أوجدت هذا الواقع بإيجابياته وسلبياته يمكن استشراف أو توقع ما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً.
بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية، فأي استشراف موضوعي في المدى القريب سيكون مُحملاً بكثير من التحديات واحتمالات مزيد من التدهور في الأوضاع الداخلية، لأن استشراف المستقبل ينبني غالباً على حسابات واقعية وعقلانية مستمدة من معطيات الحاضر وموازين القوى المؤثرة في مسار القضية، والواقع يقول إن القيادات السياسية للشعب الفلسطيني صاحب القضية لم تعد اليوم الفاعل الوحيد في تحديد مستقبل القضية، كما فقد الشعب كثيراً من أوراق القوة الذاتية بسبب الانقسام والصراعات الداخلية والنجاحات التي يحققها مهندسو صناعة الانقسام ودويلة غزة، والمتغيرات العربية والإقليمية وخصوصاً التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني وقوة تأثير الأجندة الخارجية ومالها السياسي.
على المدى القريب وإن لم تحدث تحولات دراماتيكية دولية أو من خارج المنظومة السياسية الفلسطينية الحاكمة فإن الأمور ستسير نحو مزيد من التدهور حيث من المتوقع:
1- تواصُل عمليات الاستيطان والتهويد بوتيرة أسرع في ظل غياب عملية سلام جادة وتقاعس المنتظم الدولي عن ردع "إسرائيل".
2- تكريس حالة الانقسام بكل أشكاله ومزيد من الإجراءات التي تؤدي لدولنة غزة بعيداً عن السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، مع تفاهم ضمني على إدارة الانقسام.
3- مزيد من تآكل الدور الوطني للسلطة الفلسطينية في الضفة حيث ستعمل "إسرائيل" جاهدة لتحول السلطة إلى مجرد وكيل عنها في تدبير الحياة المعيشية للفلسطينيين دون أية سيادة فعلية على الأرض.
4- سيتم تعزيز العائلية والعشائرية والجهوية والانفلات الأمني في الضفة على حساب الانتماء الوطني الجامع وسيكون الحال شبيه بما هو في المجتمع العربي داخل الخط الأخضر.
5- ستشهد منظمة التحرير مزيداً من الضعف والتهميش والتباعد بين مكوناتها الحزبية، وستتحول إلى مجرد عنوان بلا مضمون.
6- وفي قطاع غزة سيطرأ تحسُن مؤقت في المستوى المعيشي كثمن لتمرير اتفاق الهدنة، ولكن الوضع الاقتصادي سرعان ما سيتدهور وتتفاقم البطالة والفقر وستنهار المنظومة القيمية والأخلاقية وستحدث حالة من الفلتان تواجهها حماس بمزيد من القمع والتطرف الديني.
7- ستفقد الأحزاب دورها الوطني وستتآكل شعبيتها، وسيصبح الانتماء لها ليس على أساس أيديولوجي أو فكري بل بمقدار ما تقدم للناس من مساعدات مالية.
8- ستتصاعد الخلافات بين فصائل المقاومة في قطاع غزة وخصوصاً حماس والجهاد الإسلامي، وما تسمى فصائل المقاومة ستتحول إلى جماعات مسلحة للقمع الداخلي والحفاظ على مصالحها .
9- ستتواصل عمليات التطبيع العربي مع "إسرائيل" وستأخذ أشكالاً أمنية خطيرة.
10- ستنجح "إسرائيل" بدعم أمريكي أوروبي وعربي بتمرير معادلة (الاقتصاد مقابل الأمن) مما سيؤدي لبعض الانتعاش الاقتصادي، وهذا سيشجع أمريكا على تحريك عملية المفاوضات بين السلطة و"إسرائيل".
هذا فيما يتعلق بالرؤية التشاؤمية أو الواقعية العقلانية، لكن إذا تم الأخذ بعين الاعتبار في عملية الاستشراف قوة الإرادة الشعبية بالصمود والإيمان بعدالة القضية واستمرار المقاومة بكل أشكالها حتى وإن كانت ضعيفة الآن، وتوظيف ما تبقى من استقلالية القرار الوطني، أيضاً الأخذ بعين الاعتبار أن موازين القوى ليست حالة ثابتة بل تتغير من وقت لآخر، فإن أملاً أو نوراً يلوح في نهاية النفق حتى وإن كان النفق طويلاً ، على أقل تقدير بأن يكون عام 2022 عام المراجعات الاستراتيجية والاعتراف بالفشل.
التفاؤل بالمستقبل يعود إلى الاعتبارات التالية:-
1- عدم الاستهانة بما تم انجازه وخصوصاً على مستوى تثبيت كيانية سياسية فلسطينية تعترف بها غالبية دول العالم، وحتى إن كانت أقل من دولة إلا أنها أصبحت واقعاً يعترف بها المنتظم الدولي ولها تمثيل رسمي عبر العالم.
2- عدالة القضية وقوة الحق الفلسطيني وثبات الشعب على أرضه بالرغم من كل محاولات العدو إجباره على الهجرة، فعدد الفلسطينيين اليوم على أرض فلسطين يفوق عدد المستعمرين اليهود.
3- بالرغم من حالة الضعف التي تنتاب النظام السياسي، إلا أن كل القيادات الرسمية والشرعية للشعب الفلسطيني لم تتنازل عن الثوابت والمرجعيات في حدودها المتفق عليها في البرنامج الوطني ( إعلان الاستقلال) لعام 1988، أو هذا ما هو مُعلن حتى الآن.
4- انتفاضة آيار العظيمة التي شملت كل ربوع فلسطين في الضفة والقدس وغزة، وتضامن معها فلسطينيو الشتات وأحرار العالم، واستمرار أعمال المقاومة الشعبية في كل الأراضي المحتلة وخصوصاً في الضفة والقدس.
5- تعاظم أشكال التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وحملات المقاطعة لـ"إسرائيل" بأشكالها المتعددة التجارية والأكاديمية والرياضية والفنية.
6- الرفض الفلسطيني الشامل لصفقة القرن و(اتفاقات السلام الإبراهيمي) ومعادلة الاقتصاد مقابل الأمن.
7- خطاب الرئيس أبو مازن في الجمعية العامة للأمم المتحدة واعترافه بمأزق أو حتى فشل حل الدولتين وتهديده بالبحث عن خيارات أخرى.
8- استمرار انتفاضات الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال وكل أشكال التضامن معها.
9- عدم حل القضية الفلسطينية بحد ذاته يشكل أزمة لـ"إسرائيل" ذاتها لأنه يعني أن الصراع ما زال مفتوحاً وهناك حوالي سبعة مليون فلسطيني داخل فلسطين يجب إيجاد حل لهم إما بالانفصال عنهم وهذا سيؤدي للدولة الفلسطينية حتى وإن طال الزمن أو ضمهم وهذا سيهدد يهودية الدولة، بالإضافة إلى سبعة ملايين أخرى في بلاد الشتات.
ليس المُراد من إبراز هذا الوجه الإيجابي من المشهد تجاهل أو التقليل من الحالة المتردية التي وصلت إليها القضية بشكل عام أو بث أمل مخادع للشعب؛ بل التأكيد بأن مستقبل الشعوب لا يرتهن بأزمة النخب السياسية ولا بموازين قوى راهنة أو بالمتغيرات الإقليمية والدولية، بل بإرادة الشعوب واستمرارية نضالها من أجل الحرية والاستقلال، والشعب الفلسطيني لم يستسلم والصراع ما زال مفتوحاً والنخب السياسية حالة عابرة تفقد مع مرور الأيام مصداقيتها وشعبيتها وشرعيتها.
إرادة الصمود والبقاء وبث الأمل وروح التفاؤل والثقة بالشعب واستمرار المقاومة الشعبية من أهم الأسلحة في هذا الوقت لمواجهة سياسة اليأس والإحباط وكي الوعي والتشكيك بعدالة القضية ومواجهة المروجين بأن القضية الفلسطينية انتهت وما على الفلسطينيين إلا الاستسلام للأمر الواقع والقبول بسلام (اتفاقات إبراهيم) وبمعادلة (الاقتصاد مقابل الأمن).
التفاؤل بالمستقبل ضروري لمواجهة الذين يريدون اختراق وهزيمة وكي وعي الشعب الفلسطيني والعربي.
من المؤكد أن بث الأمل وروح التفاؤل لن يكون مجدياً بدون أن يكون مصحوباً بعمل مراجعة استراتيجية، لأوجه الخطأ والصواب في المسيرة الوطنية، ولماذا وصلنا إلى ما نحن عليه؟ والمراجعة لا تكتمل إلا إن تضمنت الاعتراف بالخطأ لأنه لو لم تكن أخطاء ما كان هذا حالنا.
مؤشرات التشاؤم أقوى من مؤشرات التفاؤل، ولكن في نفس الوقت تتعاظم حالة الغضب الشعبي وترتفع أصوات عاقلة من طرفي المعادلة الفلسطينية تطالب بوقف المهاترات ووقف الصراع على سلطة ومصالح والارتهان لأجندة خارجية فيما الوطن يضيع؛ بل إن السلطتين ذاتهما مهددتان بالزوال لانتهاء دورهما الوظيفي الذي رسمته لهم "إسرائيل" وشركاؤها في المنطقة.