مركز القدس للشؤون الاستراتيجية والأمنية
د. بنينا شوكير، الخبيرة في قضايا الأمن القومي والرأي العام والسياسة الخارجية
طوال تاريخ دولة "إسرائيل"، كان الخوف من القدرة المنخفضة على استيعاب الخسائر, والإصابات للمجتمع الإسرائيلي، أحد الاعتبارات المهمة في عملية صنع القرار في الأمور العسكــ ـرية، وقد تعاظم هذا القلق منذ منتصف التسعينيات، عندما أدى مزيج من سلسلة من الحوادث، التي أسفرت عن إصابات متعددة مع تعاظم إحساس الجمهور، بأنه لا جدوى من استمرار بقاء الجيش الإسرائيلي في القطاع الأمني، وهذا أدى إلى زيادة الضغط الجماهيري، من أجل الانسحاب أحادي الجانب من لبنان.
المقدمة
منذ السبعينيات، كان هناك إجماع متزايد بين الباحثين، على حدوث انخفاض حاد في شرعية استخدام القوة في المجتمعات الديمقراطية، الحجة السائدة هي أن التغيرات الديموغرافية والاقتصادية والثقافية، زادت من الإحجام عن استخدام القوة وحساسية المجتمعات الديمقراطية تجاه الضحايا.
بدورها، لعبت هذه الحساسية، دورًا رئيسيًا في تقييد حرية الدولة في تفعيل قواتها المسلحة أثناء القتال، في السياق الإسرائيلي أيضًا، ساهمت التحولات ما بعد الحداثة، التي بلغت ذروتها في الثمانينيات، في ترسيخ تصور بأن المجتمع الإسرائيلي، أصبح غير مستعداً كما كان من قبل للتضحية، هل تعكس هذه التصورات حقيقة واقعة اجتماعية حقيقية واسعة، أم أنها في الواقع تشويه إدراكي لصانعي القرار؟
وجدت الدراسات التي تناولت الحالة الأمريكية، أن القادة المدنيين والعسكــ ـريين، يميلون إلى المبالغة في عدم رغبة الجمهور في التضحية، بينما في الواقع، في ظل ظروف معينة، قد يكون الجمهور في الواقع أكثر تسامحًا مع الضحايا، من صانعي القرار.
الغرض من هذا المقال، هو فحص ما إذا كان هناك تشويه مماثل في الإدراك، بين صانعي القرار في "إسرائيل", فيما يتعلق بحساسية المجتمع تجاه الضحايا؟
فيما يلي نظرة عامة على النزاعات العسكــ ـرية الرئيسية، التي شاركت فيها "إسرائيل", منذ الثمانينيات، من حرب لبنان الأولى إلى عملية الجرف الصامد، حيث عندما يتعلق الأمر بكل مواجهه، سوف نفحص واحدًا تلو الآخر, كل من تصور صانعي القرار, فيما يتعلق باستعداد المجتمع الإسرائيلي للتضحية، ونتائج استطلاعات الرأي العام، فيما يتعلق بكيفية إدارة المواجهه بالفعل.
الاستنتاج الرئيسي من هذه المراجعة، هو أنه على الرغم من أن الجمهور الإسرائيلي، يظهر باستمرار موقفًا حازمًا واستعدادًا طويل الأمد لتحمل عبء الحرب، عندما يُنظر إليه على أنه مبرر في نظره، يعتقد صانعو القرار أن الخسائر في صفوف مقاتلي الجيش الإسرائيلي، سيؤدي إلى إحباط معنويات الجمهور، وبذلك، فإنهم يمنحون وزناً غير متناسب، لحساسية المجتمع الإسرائيلي، تجاه الضحايا، ويقيدون عبثاً حرية عمل الجيش الإسرائيلي، في وقت الحرب، الأمر الذي يؤدي إلى إنجازات محدودة هي، في الواقع، تلك التي تخلق حالة من الإحباط بين صفوف الجمهور.
تصور المجتمع الإسرائيلي على أنه حساس للضحايا، وتأثيره على إدارة القتال في جنوب لبنان (1982-2000)
خلال حرب لبنان الأولى، كانت هناك مؤشرات، على أن شرعية استخدام القوة آخذة في التضاؤل، سواء في أوساط المجتمع الإسرائيلي أو بين قادته.
أثار الجدل الذي نشأ بعد اعتراف مناحيم بيغن، أن هذه "حرب اختيار"، تساؤلات حول الظروف التي تبرر الاستخدام الاستباقي للقوة، لقد علمت دروس حرب لبنان، الجيش الإسرائيلي، أن التدخل العسكــ ـري في لبنان، سيعترف به الجمهور، على أنه ضروري للحفاظ على الأمن، على طول الحدود، شريطة أن يتم تأطيره على أنه "حرب اختيارية"، وطالما أنه لا يجبي ثمناً باهظاً من الدم، بالإضافة إلى ذلك، أدى الانتقاد الشديد لعدم تحرك الجيش الإسرائيلي، لوقف المذبحة في مخيمي صبرا وشاتيلا، خلال الحرب إلى إنهاء القتال الفعلي، كجزء من عملية سلام الجليل، كما أوضحت أن الرأي العام الإسرائيلي، لن يكون على استعداد لتحمل الخسائر سدى، لا بين مقاتلي الجيش الإسرائيلي، ولا بين الأبرياء.
بعد انتشار الجيش الإسرائيلي، في المنطقة الأمنية عام 1985، استندت سياسة "إسرائيل", إلى مجموعة من إجراءات الردع ضد حــ ـزب الله، إلى جانب السعي للتعاون مع سكان المنطقة, في الواقع، أصبحت عملية الجيش الإسرائيلي، دفاعية بشكل أساسي: تم إنشاء سلسلة من المواقع العسكــ ـرية، على طول "الخط الأحمر" (الخط الشمالي للقطاع الأمني)، والتي استولى جيش لبنان الجنوبي على معظمها، والقليل منها سيطر عليها الجيش الإسرائيلي، و نصبت الكمائن المتقدمة في مناطق "محددة"، هذا النظام، الذي تميز بشكل أساسي بمفهومه الدفاعي، كان يهدف إلى خدمة الهدف الأسمى للقطاع الأمني، منع الإضرار بالمستوطنات الشمالية، عكست هذه المنظومة أيضًا التصور الإسرائيلي، بأنها تفضل عمليات الإحباط، على عملية الوقاية الهجومية، التي يمكن أن تؤدي إلى تفاقم المواجهة.
بالإضافة إلى ذلك، انتشرت القوات الخاصة في عمق لبنان، ومع ذلك، منذ نهاية الثمانينيات، بدأ الجيش الإسرائيلي في الحد من استخدام القوات الخاصة في لبنان، إذا كان من الممكن تنفيذ المهمة بواسطة مروحيات قتالية، وطائرات في خطورة أقل.
في الواقع، تضاعف النشاط الهجومي للقوات الجوية في تلك السنوات، كان هذا التحول أيضًا بسبب الحاجة إلى تقليل الخسائر، وقدرة القوات الجوية المتزايدة على إصابة الأهداف بدقة، في المناطق التي تعتبر خطيرة للغاية، بالنسبة للقوات الخاصة.
وبحسب موشيه تامير، الذي أسس وحدة "إيجوز"، وقادها في القتال في المنطقة الأمنية، "في الحرب في لبنان، وعلى الرغم من عدم ذكر ذلك صراحة، ساد الفهم ببطء بين جميع مستويات القيادة، بأن لا شيء مدروس ضد الضحايا، وأن "الضغط الشعبي على البقاء في لبنان، أثر على الجيش وتسلل حتى الرتب الدنيا"، كما أمر رابين قادة الجيش الإسرائيلي في الشمال، بتقليص نشاطهم حتى على حساب تحقيق أهداف عسكــ ـرية، من أجل تفادي وقوع خسائر، بالإضافة إلى ذلك، عمل الجيش الإسرائيلي على تقليص عدد الإصابات، في صفوف قواته بطرق مختلفة، مثل تقليص حجم القوات في القطاع الأمني، وتقييد حركة القوات البرية في القطاع، وإطلاق النار من مسافة بعيدة، كان هذا التفضيل في الواقع استجابة لمطالب الجمهور، لتجنب المخاطر الكامنة في العمل المباشر للقوات البرية.
في أوائل التسعينيات، واستيحاءً من المعركة الجوية الناجحة، التي شنتها الولايات المتحدة، في العراق، خلال حرب الخليج الأولى، بدأ التركيز على "النار وليس المناورة، وعلى تحييد العــ ـدو، وليس حسمه بواسطة احتــ ـلال الأرض".
تم تنفيذ النمط الجديد للحرب، حيث يحــ ـتل "الجهد الناري" الجزء الأكبر من المعركة، في عام 1993، وخلال معركة "الحساب"، أيضًا في أبريل 1996، خلال عملية "عناقيد الغضب"، كان معظم قتال الجيش الإسرائيلي، من خلال سلاح الجو وسلاح المدفعية، خلال هذه العملية، اتضحت قيود استخدام النار، من ناحية أخرى: وعلى الرغم من أن حــ ـزب الله تعرض لأضرار جسيمة، إلا أن "إسرائيل", لم تنجح في أي وقت خلال العملية, في تخفيف معدل إطلاق النار عليها.
ابتداء من منتصف التسعينيات، بعد الزيادة الحادة في عدد الضحايا, بين جنود الجيش الإسرائيلي، كان هناك ضغط متزايد على الحكومة والجيش لمغادرة لبنان، وخاصة من جانب حركة "الأمهات الأربع", وبلغت هذه العملية ذروتها بانسحاب الجيش الإسرائيلي، من لبنان، في أيار (مايو) 2000، بسبب صعوبة صانعي القرار في التبرير العلني للتضحية بالأرواح، التي تتطلبها إقامتهم في المنطقة الأمنية.
انطلاقا من الرغبة في تنفيذ الإخلاء دون وقوع إصابات، اتسمت المرحلة الأخيرة من الخروج تقريباً "بهروب خوف"، تم تنفيذه دون وقوع خسائر، لكنه لاقى انتقادات علنية لاذعة في "إسرائيل"، كما عبرت عنها وسائل الإعلام الإسرائيلية, وصيحات الانتصار لحــ ـزب الله والفلسطينيين.
بالنسبة لحــ ـزب الله، كان الانسحاب ينظر إليه على أنه هروب، وعلامة واضحة على ضعف المجتمع الإسرائيلي، وعدم قدرته على الصمود في صراع طويل واستيعاب الخسائر، كما عبر زعيم التنظيم حســ ـن نصــ ـر الله، في خطابه "خيوط العنكبوت" في مايو 2000.
الرأي العام الإسرائيلي بخصوص بقاء الجيش الإسرائيلي في قطاع الأمن (1982-2000)
كانت حرب سلام الجليل (1982)، هي المرة الأولى، التي طالب فيها زعيم إسرائيلي علنًا، من الجمهور بالاعتراف بالحاجة إلى استخدام القوات المسلحة، من أجل منع تهديد لا يبدو أنه وجودي فوري، أدى هذا النهج إلى إثارة نقاش داخلي مرير حول الحــ ـرب وأهدافها، وكشف لأول مرة في "إسرائيل", حقيقة أن الإجماع الوطني على شن الحــ ـرب قد تضاءل, وهكذا كانت هذه الحــ ـرب هي الأولى في حــ ـروب "إسرائيل", التي اندلعت ضدها حركات واحتجاجات, ليس بعد نهايتها بل أثناء وقوعها.
أصبح حجم الاحتجاج العام واضحًا خلال مظاهرة احتجاجية، في ميدان "ملوك إسرائيل", في سبتمبر 1982، شارك فيها حوالي 400 ألف شخص، بقيادة حركة السلام الآن، وبالتزامن مع هذه الحركة ومن داخلها، ظهرت مجموعات أكثر راديكالية، أبرزها حركة يوجد حدود "ييش غفول"، التي أيدت رفض الخدمة، وشجعت عناصرها على عدم الخدمة في الجبــ ـهة اللبنانية، وكانت مجموعة احتجاجية أخرى نشطة في ذلك الوقت، هي "آباء ضد الصمت"، والتي شملت بالإضافة إلى الجنود أيضًا العائلات الثكلى، وتظاهروا أمام منزل بيغن، مع لافتات تحمل العدد المحدث من الضحايا.
كما شارك مقاتلون في الاحتجاج، وكتب جنود إحدى وحدات النخبة إلى بيغن: "ليس هذا هو السبب في أنني تطوعت في الوحدة"، بينما كتب في رسالة أخرى 90 ضابطًا واحتياطيًا: "لقد قتلنا وقتلنا في لبنان، بما فيه الكفاية، لم نعد قادرين على تحمل المزيد"، يعكس الانسحاب إلى المنطقة الأمنية في عام 1985، الاعتراف المتزايد بتأثير القيود الاجتماعية والسياسية، على الاستراتيجية العسكــ ـرية.
بين عامي 1985 و 1995، حظيت فكرة المنطقة الأمنية في جنوب لبنان، بتأييد واسع النطاق في "إسرائيل", على الرغم من أن سلسلة من الأحداث في أواخر عام 1995، بدأت على إثرها، الزيادة في عدد الأصوات المؤيدة لانسحاب أحادي الجانب من لبنان، إلا أن عام 1997، جلب معه نقطة تحول حقيقية في نهج الرأي العام الإسرائيلي، حول الانسحاب من لبنان.
العدد الكبير من الضحايا، في سلسلة من الكوارث والإخفاقات العملياتية في عام 1997، مثل كارثة المروحيات في 4 فبراير، التي قُتل فيها 73 جنديًا، وكارثة الحريق في وادي السلوقي في 28 أغسطس، وكارثة "الشييتت "13، في 5 سبتمبر حيث قتل 12 جنديًا، من الوحدة الخاصة البحرية، في كمين على الشواطئ اللبنانية، إلى جانب 12 آخرين قتلوا في حوادث متفرقة بالمنطقة الأمنية، مما أدى إلى زيادة الضغط الشعبي، من أجل انسحاب أحادي الجانب، حتى عام 1997، كان متوسط عدد القتلى الإسرائيليين، في جنوب لبنان، حوالي 20-30 في السنة، ولكن في عام 1997، بلغت النسبة بين خسائر الجيش الإسرائيلي وحــ ـزب الله 1: 1، على عكس الوضع السابق 1: 3 على حساب حــ ـزب الله.
على هذه الخلفية، وجد استطلاع أُجري بين كانون الثاني (يناير)، وآذار (مارس) 1999، أن نسبة المستجيبين الذين يعتقدون أن الجهود في لبنان، كانت ناجحة، انخفضت من 64٪ في عام 1998 إلى 53٪ في عام 1999.
يمكن العثور على دليل إضافي، على انخفاض قيمة استعداد المجتمع الإسرائيلي، للاحتفاظ بالشريط الأمني في حقيقة أنه بينما، في عامي 1985 و 1987، فضل معظم المستطلعين التعامل مع قصف المنظمات، على التجمعات الشمالية، من خلال عمليات عسكرية محدودة، بعد كل شيء، في عامي 1998 و 1999، فضل معظم المستطلعين التعامل مع القصف من خلال العمليات الجوية فقط.، وفيما يتعلق بخيار الانسحاب في عام 1997، أيد 41 في المائة من المستطلعين هذا الخيار، وفي عام 1998 - 44 في المائة، وفي عام 1999 - أكثر من نصف المستطلعين (55 في المائة)، وجدت دراسة استقصائية أجريت بعد الانسحاب مباشرة، أن 72٪ من المستطلعين يعتقدون أن الانسحاب من لبنان، كان الخطوة الصحيحة.
تصور المجتمع الإسرائيلي على أنه حساس للضحايا،وتأثيره على سير الأعمال القتالية خلال الانتفاضة الثانية (2000-2005)
في السنوات التي أعقبت توقيع اتفاقيات أوسلو (أيلول 1993)، تزايدت الهجمات من قبل حمــ ـاس والجــ ـهاد الإسلامي، واصلت "إسرائيل"، من جهتها، تبني سياسة الاحتواء تجاه الفلسطينيين, التي "تحارب الإرهــ ـاب وكأنه لا يوجد مفاوضات، و تفاوض وكأنه لا حرب على "الإرهــ ـاب", في أواخر التسعينيات، كانت هناك تكهنات متزايدة بأن الفلسطينيين, يتجهون للمواجهة, على خلفية تصعيد التهديد، قرر رئيس الوزراء إيهود باراك, عقد مؤتمر قمة في كامب ديفيد, للتوصل إلى اتفاق قبل تفجر الصراع، وكذلك لإظهار للجمهور الإسرائيلي, أنه تم بذل كل جهد لتجنب الحرب، وبالتالي توحيد المجتمع الإسرائيلي, في حالة تفجر الصراع مع الفلسطينيين.
خلال المؤتمر الذي عقد في تموز (يوليو) 2000، عرض باراك, على الفلسطينيين تنازلات كبيرة، بما في ذلك تقسيم القدس، لكن عرفات, رفض هذه الاقتراحات, وبعد نحو شهرين، اندلعت الانتفاضة الثانية، حيث كثفت المنظمات الإسلامية من خلالها التفجيرات "الانتحارية", وأطلقت قذائف الهاون وصواريخ القســ ـام, على مدن إسرائيلية من قطاع غزة.
سعى الجيش الإسرائيلي إلى احتواء الأحداث، وتبنى سياسة الرد على موجة الهجمات، وخاصة من خلال الاغتيالات، والتي اعتُبرت بمثابة خطر ضئيل على القوات، وأيضًا بسبب التأثير على الوعي المصاحب للهجوم على قادة حمــ ـاس.
ومن الإجراءات الأخرى المتبعة لتقليل الخطر على المقاتلين "إجراء الجار"، وهو أسلوب يستخدم فيه الجيش الإسرائيلي، الفلسطينيين، كـ "درع بشري" لحماية أرواح جنوده، من إطلاق النار أو المتفجرات، وقد رفض كبار صانعي القرار مرارًا دخول مخيمات اللاجئين، التي خرج منها العديد من المنفذين، خوفًا من انعدام الشرعية الداخلية، وكثرة الإصابات.
رداً على اغتيال الوزير رحبعام زئيفي، مطلع تشرين الأول 2001، صدرت أوامر للجيش الإسرائيلي بمداهمة المدن الفلسطينية، والقرى الكبيرة، من أجل اعتقال مطلوبين ذكرهم جهاز الأمن العام، لكن لم يُمنح أي تصريح بدخول مخيمات اللاجئين، والتي كانت تعتبر عش الدبابير، قدر ضباط وخبراء الجيش الإسرائيلي، أن القتال في مخيمات اللاجئين، قد يودي بحياة مئات الأشخاص ومئات الضحايا، ظهرت هذه التوقعات المتشائمة في التقييمات الاستخباراتية، والألعاب الحربية، والمقالات، والصحافة.
في الوقت نفسه، استمرت رسالة "لا شريك لمفاوضات السلام"، التي بدأت فور فشل مؤتمر كامب ديفيد، بقوة أكبر، ادعى باراك، ووسائل الإعلام ووزراء الحكومة وكبار الضباط العسكــ ـريين، (كان من أهم المقنعين في ذلك الوقت، رئيس الأركان شاؤول موفاز، ونائب رئيس الأركان موشيه يعلون، ورئيس قسم الاستخبارات عاموس جلعاد)، أن اندلاع الانتفاضة الثانية، كان بمبادرة وتخطيط من عرفات والسلطة الفلسطينية، وتهدف السلطة الفلسطينية إلى تدمير "إسرائيل", هذا يعني أن الحــ ـرب التي تخوضها "إسرائيل", هي من أجل وجودها.
إضافة إلى ذلك، واصلت مصادر أمنية وحكومية، نشر أن عرفات، مسؤول شخصياً عن أي عمل "إرهــ ـابي"، وأن القيادة الفلسطينية ليس شريكاً في المفاوضات، بسبب تورط أعضائها في "الإرهــ ـاب" ورفضهم محاربته، كان الغرض من هذه التصريحات، من بين أمور أخرى، الحصول على دعم محلي ودولي لرد إسرائيلي قاس، قد يترتب عليه العديد من الضحايا.
وبحسب يعلون، وخلال الانتفاضة الثانية، "أصبح القلق من وقوع إصابات يحد بشدة، من استخدام قوات الجيش الإسرائيلي للقوة"، في أوائل عام 2002، بدأت مجموعات التنظيم، العمل جنبًا إلى جنب مع حمــ ـاس والجهــ ـاد الإسلامي، في تنظيم مظاهرات عنيفة، وتنفيذ هجمات قوية وحقيقية، بما في ذلك التفجيرات "الانتحارية"، وعلى خلفية هذا الوضع، واصلت هيئة الأركان العامة تصارعها، مع مسألة البقاء على أهبة الاستعداد الدفاعي، أو السماح بدخول أعداد كبيرة من القوات، إلى مخيمات اللاجئين، في مارس 2002، قام جنود من لواء جولاني بعملية في جنين، وذهب جنود من لواء المظليين ونحال للعمل في نابلس.
وتهدف العملية إلى فحص كيفية العمل، في ظروف تسكن فيها مدن الضفة الغربية، أعشاش "الإرهــ ـابيين"، والأحزمة الناسفة. كان لهذه العملية في الماضي، أهمية أكبر من الإنجاز التكتيكي، وأعطت ثقة لصانعي القرار بإمكانية العمل في مخيمات اللاجئين، دون وقوع عدد كبير من الضحايا لقوات الجيش الإسرائيلي، أعاد نجاح هذه المداهمات نمط العمل هذا، إلى صندوق أدوات الجيش الإسرائيلي، بعد ذلك، وكجزء من نهج الجيش الهجومي، تم تنفيذ العديد من الغارات على المنطقة "أ"، في مناطق السلطة الفلسطينية.
وفقا لفايسغلاس، مدير مكتب شارون سابقاً، فهم رئيس الوزراء آنذاك أرييل شارون، جيدا الدروس الأساسية من حرب لبنان الأولى، لأن التحرك العسكــ ـري المستمر من المحتمل أن يفشل، إذا لم يحظى بدعم الجمهور، وأن الجمهور الإسرائيلي، لا يرى غرضًا سياسيًا يستحق الحرب، ويصعب عليه التصالح مع ضحايا الحرب، إلا إذا فرضت عليه.
اعتاد شارون، أن يقتبس كلام رافائيل إيتان: "شعب "إسرائيل", يتجنّد ويقاتل فقط عندما يكون العرب, بالفعل على أبواب حيفا... لذلك، وفقا لفايسغلاس، تم تأجيل عملية السور الواقي, حتى اقتنع شارون, بأن عملية دعم وطني من الجدار إلى الجدار مضمونة.
إن العمليات الصعبة التي وقعت في آذار / مارس 2002، وبلغت ذروتها بالهجوم على فندق بارك, عشية عيد الفصح، والتي كانت من أصعب العمليات في تاريخ دولة "إسرائيل"، أظهرت الارتفاع الحاد في تصور التهديد على "إسرائيل", وقدمت مبرر لصانعي القرار لشن عملية السور الواقي, وشهد يائير غولان, الذي كان قائدا لواء ناحال في ذلك الوقت: "اكتسبنا شرعيتها من شعب "إسرائيل", في آذار 2002، خلافا للشرعية التي كانت قائمة في تشرين الأول (أكتوبر) 2000", ازداد الضغط الشعبي للتحرك, حتى على حساب الخسائر.
الرأي العام الإسرائيلي خلال الانتفاضة الثانية
كان لانتفاضة الأقــ ـصى، التي اندلعت في سبتمبر 2000، تأثير مذهل على الرأي العام الإسرائيلي، بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد، وافقت الغالبية العظمى, من الجمهور اليهودي في "إسرائيل", على النهج القائل بأن مسؤولية فشل مؤتمر القمة, يجب أن تقع على عاتق عرفات والفلسطينيين, خلال هذه الفترة من بداية الصراع العنيف، أدرك الجمهور اليهودي في "إسرائيل", أن عرفات, بدأ المواجهات الدموية، وأن هدفه كان تحقيق المزيد من التنازلات من جانب "إسرائيل", بوسائل عنيفة لا تترك لـ "إسرائيل", أي خيار سوى القتال.
خلقت الانتفاضة في الخطاب الإسرائيلي، خيبة أمل من عملية السلام، تظهر استطلاعات الرأي العام في "إسرائيل", أن غالبية الجمهور اعتبروا الانتفاضة دليلاً قاطعًا, على أن "الشريك من أجل السلام" لا يعترف بسيادة دولة "إسرائيل", ولا يريد الوصول إلى تسوية واتفاق سلام، وبالتالي زادت الشرعية لاستخدام القوة.
وجد استطلاع "مؤشر السلام", الذي أجري في نيسان 2002, أن 90٪ من المستطلعين (بما في ذلك 60٪ من ناخبي ميرتس), يُعتقدون أن قرار إطلاق عملية السور الواقي, كان صحيحًا، ويعتقد حوالي 7 بالمائة أنه غير صحيح, يمكن تفسير الدعم الواسع من خلال حقيقة, أن العملية لم تبدأ إلا بعد سلسلة من الهجمات المميتة، مما أدى إلى الشعور بأنها "حرب على المنزل".
ينعكس دعم الجمهور في الإقبال النادر، لحوالي 98 بالمائة، من جنود الاحتياط في معظم الوحدات، التي تم تجنيدها، وبحسب يعلون، فإن "الإنجاز الكبير الأول للعملية برز حتى قبل إطلاق الطلقة الأولى: التعبئة الكاملة لجهاز الاحتياط، والدعم الكامل من الشعب للجيش"، حتى عندما كان هناك جنود أعربوا عن استيائهم من الأذى، الذي لحق بالفلسطينيين الأبرياء خلال العملية العسكرية، فقد اعترفوا بأنهم استمروا في تنفيذ الأوامر، لأنهم شعروا أنهم يعملون على منع الهجمات، في الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وجد إيلران أيضًا أن الجمهور الإسرائيلي، أظهر مستوى عالٍ من الحصانة الاجتماعية، خلال الانتفاضة الثانية، حتى في أصعب الأوقات، اعتقد الجمهور الإسرائيلي، أن لديه القدرة على تحمل الهجمة "الإرهــ ـابية" الشديدة، وأعرب معظم الجمهور عن تفاؤلهم، واعتقادهم بأن المستقبل سيكون أفضل، سواء بالنسبة للفرد أو للجميع.
مثل عملية السور الواقي، كانت العملية التي سبقتها، حظيت عملية الطريق العنيدة "ديرخ نحوشا"، التي انطلقت في الضفة في أواخر حزيران / يونيو 2002، بتأييد واسع في أوساط الجمهور اليهودي، وهذا مع العلم أن الهدف، هو التواجد العسكــ ـري في المدن الفلسطينية لفترة طويلة، ورغم أن التقدير السائد كان أن هذا الوجود، لن يفيد إلا في الحد من الإرهــ ـاب لفترة وجيزة. وهكذا، أظهرت بيانات "مؤشر السلام" من ذلك الشهر، أن 80٪ من المستطلعين أبدوا تأييدهم لدخول المدن الفلسطينية.
والاستنتاج الذي ينبثق عن ذلك، هو أنه في ضوء الهجمات الإرهــ ـابية الشديدة، التي وقعت في الأشهر التي سبقت المسح، كان الجمهور الإسرائيلي، على ما يبدو مستعدًا لدعم أي مسار عمل تقريبًا، طالما أنه يؤدي إلى القضاء على الإرهــ ـاب.
تصور المجتمع الإسرائيلي على أنه حساس للضحايا وتأثيره على سير حرب لبنان الثانية (2006)
في حرب لبنان الثانية، كان تفادي وقوع إصابات ذا أهمية غير مسبوقة، وكان التعبير الرئيسي عن ذلك هو إحجام متخذي القرار، عن القيام بخطوة برية واسعة النطاق ضد حــ ـزب الله، الأمر الذي كان له فرصة لإزالة التهديد الصــ ـاروخي لحــ ـزب الله على شمال "إسرائيل".
وبدلاً من ذلك، تقرر الاكتفاء بالضربات الجوية، ونيران المدفعية المكثفة وعمليات "قريبة من الجدار" فقط، على الرغم من أنه كان معروفًا مسبقًا أن هذا لم يكن كافيًا، لكن "صدمة الوحل اللبناني"، كما أطلق عليها العديد من كبار المسؤولين في المستويين السياسي والعسكــ ـري خلال الحرب، هي التي شكلت الرد، لم تتم مناقشة أي بديل آخر بشكل متعمق، بما في ذلك خطط الطوارئ ،المصممة خصيصًا لسيناريو التصعيد، في القطاع الشمالي.
ارتبطت تصورات إضافية بهذا التشويه للرؤية، لم يتوقع الجيش الإسرائيلي، الحاجة إلى شن معركة عسكــ ـرية واسعة النطاق في لبنان، كان الافتراض السائد في ذلك الوقت، هو أن حربًا تقليدية واسعة النطاق لم تكن متوقعة، وأن "إسرائيل", في المستقبل ستشن حروبًا صغيرة بشكل أساسي، وبالتالي، بالإضافة إلى قيود الميزانية، تم تقليل تدريب الوحدات الاحتياطية، وتم تقليل نطاق تشكيل الدبابات، ولم يتم توفير أنظمة أسلحة توفر دفاعًا صاروخيًا ضد الدبابات.
أيضا، تمرن قسم صغير فقط من القوات الخاصة، على طريق مشابه للطريق في جنوب لبنان، كان التشويه الحسي الثالث، هو فشل القيادة الإسرائيلية في فهم الأهمية الاستراتيجية، للانطباع التراكمي لهجمات الكاتيوشا المتعددة، وهكذا، فإن سكان الشمال، لم يكونوا مستعدين لتحمل وابل من الصواريخ.
كان التشويه الحسي الرابع، هو الاعتماد المفرط على القوة الجوية، عندما أدركنا أن النشاط الجوي كان غير فعال، في الحد من إطلاق الصواريخ قصيرة المدى، فقد تقرر توسيع طبيعة النشاط البري قليلاً، إلى غارات برية محدودة في الزمان والمكان، والمخصصة لإنقاذ الأرواح البشرية من ناحية، وتحقيق انجاز بصورة نصر من جهة أخرى، لكن القيود القتالية العديدة، التي فُرضت على القوات، منعتهم من إكمال مهامهم بنجاح، وبأسرع وقت ممكن، وبشكل غير مباشر، كانت النتيجة في بعض الأحيان، أن القيود القتالية المصممة لحماية القوات، أدت إلى وقوع عدد أكبر من الضحايا.
بالإضافة إلى ذلك، تسببت قيود القتال العديدة، في انخفاض مستوى تحفيز المقاتلين، الذين جادلوا ضد الحد من النشاط الهجومي، بل وطالبوا بالتوسع، كما أن التغييرات المتكررة في المهام والأوامر الضبابية، والتي كانت محيرة في بعض الأحيان، تلقي بظلال من الشك على أهميتها، بين صغار القادة الميدانيين، وبالتالي فضلوا في بعض الحالات، عدم تعريض الجنود للخطر، بسبب تنفيذها، ولكن حتى في الحالات التي يُنظر فيها إلى المهمة، على أنها وحيوية وقيمة، فقد أعطيت الأولوية لإنقاذ الضحايا، على تنفيذ المهمة.
بالإضافة إلى ذلك، بذلت القيادة الإسرائيلية في حرب لبنان الثانية، جهودًا للتأثير على الوعي واسعة النطاق تهدف، من بين أمور أخرى، إلى إقناع الجمهور الإسرائيلي بصدقية الحرب وإنجازاتها، فضلاً عن زيادة الثقة في حكومة أولمرت، التي كان ينظر إليها على أنها عديمة الخبرة.
ينعكس هذا الجهد أولاً وقبل كل شيء، في تصريحات المستوى السياسي، حول أهداف الحرب بعيدة المدى، على الرغم من أنه أوضح له من قبل المستوى العسكــ ـري، أن تحقيقها غير ممكن في أنماط العمل المختارة، بالإضافة إلى ذلك، قام المستويان العسكــ ـري والسياسي برعاية وهم النصر، ومجدوا إنجازات القتال، واغتنموا كل فرصة للإشادة بصمود المجتمع الإسرائيلي القوي.
لكن بدلا من خلق وعي بالنصر غُرست مثل هذه التصريحات في أوساط الجمهور بتوقعات كبيرة، ولأنها لم تتحقق، ظهر الإحساس بخيبة الأمل، تم التعبير عنها في انخفاض التأييد الشعبي، في نهاية الحرب.
مع استمرار الحرب زادت الحاجة إلى إنجازات
مع استمرار الحرب، ازدادت الحاجة إلى تقديم إنجازات حقيقية ينظر إليها الجمهور على أنها كبيرة. وفي هذا السياق، تم تنفيذ تحركات عسكرية ذات مغزى رمزي، بعضها ينطوي على مخاطر كبيرة للقوات. فشلت هذه الإجراءات أيضًا في خلق وعي بالنصر، بل وأحيانًا تضمنت العديد من الضحايا، مع قلة الإنجازات ولكنها زادت بين الجمهور الشعور بالفشل والعبثية في سقوط المحاربين. ومن الأمثلة البارزة على ذلك المعارك المتكررة في بنت جبيل، لكن يبدو أن القرار الأكثر إثارة للجدل كان قرار الشروع في تحرك بري واسع بعد اتخاذ قرار وقف إطلاق النار. اعتبر الكثيرون هذه الخطوة بمثابة محاولة أخيرة لإحضار الصورة المرجوة للنصر التي أرادها الجمهور، وذلك لأن صانعي القرار كانوا يعلمون أن أهداف الخطوة البرية لا يمكن تحقيقها في الوقت القصير المخصص لها.
الرأي العام الإسرائيلي خلال حرب لبنان الثانية
في بداية الحرب، كان هناك دعم واسع النطاق من السكان اليهود، ولم تكن هناك خلافات تقريبًا حول خوض الحرب، أظهرت استطلاعات الرأي باستمرار، دعمًا شعبيًا قويًا لرد قاسٍ، ودعمًا لتبرير الحرب، ولقادتها السياسيين، وقبل كل شيء للجيش الإسرائيلي، طوال الحرب، كان هناك إجماع قوي (90٪ أو أكثر)، على تبرير الهجوم على لبنان، هذا الاستقرار بقي على حاله، على الرغم من حوادث متعددة الضحايا، في الجبهة الداخلية وجبهة القتال، الخسائر الأولى في صفوف المدنيين نتيجة الهجوم الصــ ـاروخي لحــ ـزب الله، وكذلك الخسائر الأولى في صفوف الجنود، نتيجة القتال البري في جنوب لبنان، لم تسفر عن تغيير في الدعم الكاسح للحرب، أظهر استطلاع أُجري في 31 تموز (يوليو)، و 1 آب (أغسطس)، أن 93٪ من المدنيين اليهود، يعتقدون أن المعركة في لبنان مبررة، وأن 79٪ من المدنيين اليهود، يؤيدون استمرار القتال حتى تتحقق جميع أهدافه، حتى الآباء الذين فقدوا أبنائهم خلال القتال، أعربوا عن دعمهم لاستمرار العمل العسكــ ـري.
أظهرت استطلاعات الرأي، التي أُجريت خلال الحرب، أن الجمهور يؤيد استخدام القوة أكثر من قبل الجيش، رغم أنه خلال القتال الذي استمر أكثر من شهر، أُجبر العديد من السكان، على العيش في ملاجئ في ظروف قاسية، بينما تُرك آخرون بدون حماية من الصــ ـواريخ. والمثير للدهشة أن سكان الشمال، الذين كانوا الضحايا الرئيسيين في الحرب، أبدوا أيضًا استعدادهم لحرب طويلة، أظهر استطلاع أجرته قيادة الجبهة الداخلية في 19 يوليو / تموز، أن 80٪ من سكان الشمال الذين شملهم الاستطلاع، يعتقدون أن الجيش الإسرائيلي، يجب أن يواصل عمليته العسكــ ـرية في لبنان، كما تبين أن 94٪ من سكان الشمال، قالوا إن بإمكانهم الاستمرار في إظهار الصمود، حتى لو استمرت العملية في لبنان، لفترة طويلة.
بالإضافة إلى ذلك، لم يحث رؤساء المستوطنات الشمالية الجيش الإسرائيلي، أو وزير الدفاع، إنهاء العملية العسكــ ـرية، وأوضحوا أن السكان سيكونون على استعداد للاستمرار في الاستيعاب، طالما أن الواقع على طول الحدود الشمالية، سيتغير مرة واحدة وإلى الأبد.
حتى في نهاية الحرب، كان هناك استعداد لدى سكان الشمال لمواصلة التحمل، بشرط أن يكون هناك مقابل لذلك، على سبيل المثال، في 10 آب (أغسطس)، أعلن رئيس بلدية كريات شمونة، التي استوعبت حوالي ألف كاتيوشا خلال الحرب، حوالي ربع مجموع الكاتيوشا التي تم إطلاقها، أن المدينة تمر بفترة صعبة، لكنها مع ذلك تدعو إلى عدم وقف القتال، حتى تتحقق الأهداف.
حتى بعد انتهاء الحرب، كان من الواضح أن معظم الجمهور، كان يفضل الاستمرار على الرغم من خطر حدوث المزيد من الخسائر، نظرًا لندرة الإنجازات: أظهر استطلاع أُجري في 16 أغسطس، بعد يوم من سريان وقف إطلاق النار، أن 81٪ من المستطلعين راضون عن أداء الجيش الإسرائيلي خلال الحرب، دعم 62٪ قرار دخول لبنان برياً، وأيد أكثر من 50٪ استمرار القتال، دون قبول وقف إطلاق النار، و 67٪ يؤيدون أن تنهي "إسرائيل", نصــ ـرالله, ولو على حساب استئناف القتال.
بدأت هذه الصورة تتغير خلال الأسبوع الأخير من الحرب، في نهاية الأسبوع الأول من آب (أغسطس)، كانت هناك مؤشرات واضحة على خيبة أمل الجمهور الإسرائيلي من نتائج الحرب، مصحوبة بانخفاض في الدعم للجيش الإسرائيلي، وخاصة القيادة السياسية، الجو العنيف الذي اتسمت به وسائل الإعلام، والجمهور الإسرائيلي، والدعم الذي أعطوه للحكومة، تغير مع اقتراب نهاية الحرب، إلى شعور من القلق إزاء عجز الجيش الإسرائيلي عن هزيمة حــ ـزب الله، وفشل الحكومة في إنهاء الحرب، بإنجازات سياسية تشير إلى النصر.
تصور المجتمع الإسرائيلي على أنه حساس للضحايا، كما تم التعبير عنه في جولات المواجهة مع حمــ ـاس ،كجزء من دروس حرب لبنان الثانية، صرح رئيس الأركان أشكنازي، أن المناورة ستكون مرة أخرى قيمة أساسية، وهذا التحديد راسخ في مفهوم أساسي جديد، وافق عليه قيادة القوات البرية. ومع ذلك، وعلى الرغم من أنه خلال عملية الرصاص المصبوب (2009)، كان هناك قتال بري محدود في ضواحي غزة، إلا أنه برز عدم وجود تصميم لدى صناع القرار، للتوصل إلى حسم عن طريق المناورة البرية في عمق القطاع، تمت عملية الرصاص المصبوب، بشكل مشابه لما حدث في حرب لبنان عام 2006، بالرغم من أن الدرس تم تعلمه والأهداف المحددة في إطار "الرصاص المصبوب"، كانت محدودة منذ البداية: الهجوم على الجناح العســ ـكري لحركة حمــ ـاس، وردعها من الاستمرار في إطلاق النار على "إسرائيل".
بدأت مرحلة الهجوم البري، بعد أسبوع من الضربات الجوية، عندما انتهى سلاح الجو من معالجة جميع بنك أهدافه, بعد المعركة، في عام 2010، بدأ الجيش الإسرائيلي دراسة، بقيادة رئيس قسم القوى البشرية آنذاك، الجنرال أهارون زامير، الذي كان الغرض منه فحص العلاقة بين الحساسية للضحايا، واستخدام القوة العسكرية، وجدت هذه الدراسة أن الرغبة في تجنب الإصابات، تُرجمت إلى استخدام واسع النطاق، والذي تجاوز التخفيف المقبول، في المدفعية والقوات الجوية قبل إدخال المشاة، من أجل تقليل عدد الضحايا بين المقاتلين, كما وجد أن الحساسية للضحايا، أثرت حتى على أنماط استخدام القوة في القتال.
عندما تصاعدت وتيرة الهجمات من غزة مرة أخرى، بدأت "إسرائيل" عملية "عمود السحاب" (تشرين الثاني / نوفمبر 2012)، والتي اكتفت بالغارات الجوية، في "الرصاص المصبوب"، كما في "عمود السحاب"، تحققت الإنجازات الرئيسية في الساعات الأولى، من خلال الضربات الجوية المفاجئة والدقيقة، أيضاً الجرف الصامد "تسوك إيتان"، أكبر عملية عسكــ ـرية للجيش الإسرائيلي، منذ حرب لبنان الثانية، أنجر الجيش والحكومة، بلا إرادة واضحة، بعد أن أدركوا أن هذه العملية ستتطلب استخدام نيران عدوانية، لتقليل الخطر على جنود الجيش، وستعرض "إسرائيل" لانتقادات دولية شديدة, جرت محاولة أخرى للاكتفاء بالضربات الجوية فقط، ولكن بعد حوالي عشرة أيام، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى الأمر باستخدام القوات البرية، لتدمير أنفاق حمــ ـاس الهجومية، والتي تبين أنها محصنة ضد الضربات الجوية، ومع ذلك، حرص صناع القرار على تعريف العملية البرية، على أنها محدودة.
الرأي العام الإسرائيلي خلال جولات المواجهة مع حمــ ـاس
على غرار حرب لبنان الثانية، من الواضح أنه حتى أثناء العمليات في غزة، أعطى الجمهور الإسرائيلي، الحق لصناع القرار أبعد من ظاهرة "الوحدة حول العلم", المعروفة ببداية الأعمال القتالية, كما أنه ليس من الواضح أن الوفيات أدت إلى تراجع التأييد الشعبي خلال "الرصاص المصبوب"، حيث كان النشاط البري محدودًا للغاية، وأثناء "الجرف الصامد"، وهكذا،في استطلاع أجري في اليوم الخامس لـ "الرصاص المصبوب"، (31 ديسمبر 2008)، 79 في المائة من المستطلعين "أيدوا العملية بقوة"، تم الحفاظ على هذا الدعم، حتى بعد بدء العملية البرية، في استطلاع أجري في 6 يناير 2009، أجاب حوالي 80 بالمائة من المستجيبين بأن العملية يجب أن تستمر، أدى استمرار النشاط البري إلى زيادة الدعم للعملية.
وفي استطلاع أجري في 9 كانون الثاني (يناير)، أجاب حوالي 90 بالمائة من المستجيبين، بأن العملية يجب أن تستمر، كذلك، اعتقد 70٪ أن إدخال قوات برية إلى غزة كان ضروريا، أما بالنسبة لتقييم نتيجة العملية، في استطلاع أجري في 13 كانون الثاني (يناير)، فقد تبين أن 78 في المائة من الجمهور، يعتقدون أن "العملية كانت ناجحة"، علاوة على ذلك، وفي استطلاع للرأي أجري في اليوم التالي، لدخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، عارض 50 بالمائة من المستطلعين وقف إطلاق النار، واعتقدوا أن العملية يجب أن تستمر.
أما بالنسبة لـ "تسوك إيتان"، فقد وجد استطلاع أجري في 22 تموز / يوليو، أن 73 بالمائة من المستطلعين يعتقدون أن "إسرائيل", يمكنها الإشارة إلى إنجازات العملية", وجد استطلاع آخر أجري في 27 يوليو أن 65 في المائة من المستطلعين, يعتقدون أن "إسرائيل" انتصرت.
ومع ذلك، في نهاية العملية البرية، تآكل هذا التقييم، أظهر استطلاع أُجري في 6 آب (أغسطس)، بعد يوم من انسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، أن 51٪ فقط من المستطلعين يعتقدون أن "إسرائيل", قد انتصرت, بلغ عدم الرضا عن نتائج العملية ذروته في استطلاع أجري في 27 أغسطس، وجد فيه أن 59 في المائة من المستجيبين يعتقدون أن "إسرائيل", لم تنتصر في الصراع.
يمكن تفسير الدعم من قبل الجمهور، طوال معظم أيام العملية، من خلال حقيقة أن أهداف العملية كانت مبررة، حتى بعد انتهاء العملية البرية، كان لا يزال هناك إجماع واسع (92 بالمائة)، على أن العملية البرية كانت كذلك مبررة، يكمن تفسير آخر للدعم في حقيقة أن مدة النشاط البري، كانت محدودة، حوالي أسبوعين فقط، وبالتالي كان عدد الوفيات خلالها منخفضًا نسبيًا أيضًا.
بينما لو كانت مدة النشاط البري أطول وزاد عدد الوفيات، واقترن ذلك بقلة الإنجازات، لكان هناك احتمال أكبر لتشكيل احتجاج عام.
بالإضافة إلى ذلك، ساهم إدخال نظام "القبة الحديدية"، المستخدم في عام 2011، بشكل كبير في تقليل عدد الضحايا في الجبهة الداخلية، مما أثر أيضًا على الدعم الشعبي الكبير والمطول للعملية، إن معدلات الاعتراض المرتفعة، لم تؤد فقط إلى زيادة إحساس الجيش الإسرائيلي، بالأمن الشخصي والثقة العامة، وقللت من العواقب الاقتصادية للعملية على المواطنين الإسرائيليين، ولكنها أتاحت أيضًا مجالًا للمناورة للمستوى السياسي، من خلال منحه الوقت للتصرف دون الحاجة إلى ردود سريعة.
ملخص
طوال تاريخ دولة "إسرائيل"، كان الخوف من القدرة المنخفضة, على تحمل الضربات للمجتمع الإسرائيلي, أحد الاعتبارات المهمة في عملية صنع القرار, في الأمور العسكرية, وقد اشتد هذا الخوف منذ منتصف التسعينيات، عندما أدى مزيج من سلسلة من الحوادث، التي أسفرت عن إصابات متعددة وتكثيف إحساس الجمهور، بأنه لا جدوى من استمرار بقاء الجيش الإسرائيلي، في المنطقة الأمنية، إلى زيادة الضغط الجماهيري من أجل الانسحاب أحادي الجانب من لبنان.
تظهر المراجعة أعلاه، أن صناع القرار في العقود الأخيرة، يعتقدون أن الخسائر في صفوف المقاتلين ستؤثر سلبًا على الرأي العام، وتؤدي إلى ضغوط عامة لوقف القتال، وتؤثر على مكانتهم العامة.
من الواضح أن هذا القلق، يُعطى وزنًا في قراراتهم، والتي تنعكس في كل من الجهود المبذولة لتقليل عدد الضحايا في النشاط العملياتي، وفي جهد الوعي الهادف لتأطير القتال على أنه مبرر وبفرص عالية للنصر، وبالتالي المساعدة في استيعاب الجمهور للإصابات بسهولة أكبر خلال الحرب.
كل هذا، على الرغم من وجود دعم شعبي واسع، وعلى الرغم من أن الحرب، تنطوي بطبيعتها على خسائر مدنية وعسكــ ـرية، يتضح من المراجعة السابقة أن الائتمان الممنوح من الجمهور الإسرائيلي، لصانعي القرار لم يستخدم، وبدلاً من ذلك اختاروا التصرف بحذر شديد، مما قد حال دون إمكانية تحقيق إنجازات حقيقية
في النهاية، كان الافتقار إلى الإنجاز، هو الذي أدى إلى تراجع الدعم الشعبي في نهاية المواجهات، التي تورطت فيها "إسرائيل", منذ عام الألفين، وإلى الشعور بخيبة الأمل والفشل لدى الجمهور، الذي غالبًا ما طالب بالنصر حتى على حساب الخسائر.
أصر أريئيل شارون، على ذلك خلال حرب الاستنزاف، عندما ادعى في جلسة هيئة الأركان في أواخر أبريل / نيسان 1969، أن "الناس على استعداد لقبول الخسائر في حرب لها إنجازات، لكن الخسائر الناتجة عن استمرار الوضع القائم، فخسائر من هذا النوع ستكون صعبة جدا".
من المهم التأكيد، على أنه على الرغم من أن الجمهور الإسرائيلي، يُظهر مرونة رائعة في وقت الحرب، ومستعد للتضحية، بشرط أن ينظر إليها على أنها ملتزمة بالواقع وتحقق إنجازات، إلا أنه يتوقع أن يتم ذلك في عدد قليل من الضحايا قدر المستطاع.
يسعى صانعوا القرار، إلى الحفاظ على توازن دقيق بين المطلبين، ولكن في بعض الأحيان يتم تحديد الحد الأقصى، نظرًا لمزاج الجمهور، الذي يقيس أهدافه وإنجازاته طوال فترة الحرب، في مواجهة عدد الضحايا.
وتجدر الإشارة إلى أن الخوف المفرط، لدى متخذي القرار من وقوع إصابات، له عواقب سلبية عديدة على شن الحرب ونتائجها، عدم الرغبة الشديدة في المناورة البرية، (عندما يكون من الواضح أن هذا أمر حتمي)، والقيود القتالية المفروضة على القوات، من أجل تقليل الخسائر، مثل تجنب القتال في وضح النهار، ومنعهم من إكمال مهامهم بنجاح، وأحيانًا تكون النتيجة سقوط المزيد من الضحايا، وتراجع مستوى تحفيز المقاتلين، الذين غالبا ما يجادلون، ضد الحد من النشاط الهجومي.
يبدو أن صناع القرار في "إسرائيل"، في العقود الأخيرة، يعتبرون عدم وقوع إصابات إنجازًا في حد ذاته، والسعي لتقليل الخسائر, هو الذي يؤدي إلى قلة الإنجازات.
من الواضح أن اعتبار الضحايا ليس مظهرًا لكل شيء، وأن توقيت ونطاق رد "إسرائيل", يعتمدان على طبيعة الاستفزاز, ومدى الضرر وعدد الضحايا، والرأي العام والداخلي، وموقف المجتمع الدولي، بالإضافة إلى ذلك، فإن الرغبة في تقليل الخسائر أمر مرغوب فيه وواضح بذاته، بل إنه التزام أخلاقي على الحكومة تجاه مواطنيها، ومع ذلك، عندما يشكل النظر في الضحايا قيدًا، تنحسر عنه الاعتبارات الاستراتيجية والعسكــ ـرية، فإنه يصبح "رهابًا للضحايا"، تنبثق عنه العواقب الإشكالية الموصوفة أعلاه.
منذ انتهاء عملية "الجرف الصامد"، شهدنا عدة جولات من التصعيد مع حمــ ـاس، ظهرت خلالها أنباء صباحية، حول موضوع إطلاق معركة أخرى في غزة، إنه ليس قرارًا سهلاً، لكن دروس التاريخ تُظهر أن تأجيل التعامل مع تهديد عسكــ ـري، على الرغم من أنه اتجاه مفهوم لدى صانعي القرار، يمكن أن يؤدي إلى مواجهة أكثر صعوبة في المستقبل، بتكلفة أعلى في حياة الإنسان.
على أي حال، يجب على صانعي القرار أن يتذكروا، أن حماية أرواح المدنيين لها الأسبقية على حماية أرواح الجنود، وأن المجتمع الإسرائيلي عقلاني ومرن وصامد، كما ثبت في النزاعات المتكررة، التي كانت نصيبه، بالطبع يجب على المرء أن يسعى لخفض عدد الضحايا قدر المستطاع، ولكن ليس لجعل تجنب الإصابات هدفاً للحرب في حد ذاته.