بقلم المستشار/ أسامة سعد
أسعد الشعوب تلك التي تحظى بحكومات وقيادات ترتقى بالبلاد التي تحكمها لتبلغ بها مصاف الدول المتقدمة، ولا يختلف إثنان على أن معيار التقدم يقاس بمدى انعكاسه على الشعب رفاهيةً وحضارةً وتقدم، وكذلك لا يختلف اثنان على أن أساس التقدم يبدأ بالتقدم الاقتصادي الذي ينعكس بدوره على باقي المجالات من صحة وتعليم وبنية تحتية، الأمر الذي يؤثر بلا شك في مستوى الثقافة التي تبدأ بالانتشار بين الأوساط المجتمعية كلما زادت البلد تطوراً حضارياً واقتصاديا، وهذا الأمر يؤثر تأثيراً عميقاً بالأبعاد القيمة والأخلاقية للشعوب.
كل ما سبق لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال قيادة واعية ذات رؤية واضحة تتقدم وفق مسار مرسوم بدقة ينتهي حيث الأهداف والغايات المنظورة، قد تعتري هذا المسار صعاب وتحديات فلا يعقل أن تكون مسارات التقدم الحضارة مفروشة بالورود وإلا لكانت الشعوب كافة على مستوى واحد من التقدم والرقي، ولكنها قدرة القيادة على تجاوز الصعاب والعقبات واستمرار السير قدماً نحو الأهداف المنشودة.
تجارب الشعوب التي تجاوزت فترات التخلف وانطلقت نحو ركب الحضارة تشير بوضوح إلى أنه لا إعجاز ولا مستحيل في الانتقال من حال التراجع والتخلف إلى حال التطور والرقي إذا وجدت الإرادة المصحوبة بالرؤية الحكيمة التي تتسع أفاقها لتتجاوز صغائر ما يقف عنده الأغلب الأعم ممن يتحكمون بزمام الأمور، فيستزفون أعمار الشعوب في الدوران في حلقات مفرغة غير متناهية من الوهم المشوب بالوعود والأمنيات التي لا تدعمها أي حقائق سوى شعارات أنيقة مصحوبة باستعراضات تافهة تسمى في عرف الفاشلين إنجازات.
ولو أن بعضنا أحصى ما لدى حكومات الفاشلين من إنجازات تعرض في الاحتفاليات والمناسبات لوجدها أكثر بكثير من تقارير إنجازات الدول المتقدمة، غير أن طبيعة تلك الإنجازات تختلف من مكان إلى مكان، ففي الوقت الذي تحسب فيه إنجازات الفاشلين بعدد اللقاءات والورش والخطط وعدد الاتصالات والمكاتبات والمراسلات كإنجازات تحصى وتسجل، نجد هناك عالم أخر من الإنجازات تتمثل في درجة النمو الاقتصادي ومقدار زيادة دخل الفرد وحجم الصادرات نسبة إلى حجم الواردات ومستوى جودة التعليم وخدمات الصحة والرفاه الاجتماعي ومدى تطور البنية التحتية، إحدى الحكومات العربية التي أسقطها ربيع العرب كانت تسمى فيما مضى حكومة الأرقام لكثرة ما كانت تصدر للإعلام تقارير فيها أرقام كثيرة عن مدى "الإنجازات التي حققتها تلك الحكومة" في الوقت الذي لم يكن الشعب يلمس أي من نتائج هذه الإنجازات المزعومة على الأرض، لذلك لا سبيل للخروج من حالة الانحطاط التي تعاني منها الحكومات إلا بسلوك طريق واضح المعالم نحو الهدف المنشود، وذلك لا يعد مستحيل إلا في نظر الفاسدين الفاشلين الذين أسسوا حياتهم وزعامتهم على مآسي الشعوب وآلامها.
في سنغافورة التي كانت في العام 1970م مجرد جزيرة للصيادين تعد واحدة من أبأس بقاع الأرض لا يجوز فيها أي نوع من الموارد حتى التربة -أجل حتى التربة- لم تكن تمتلكها سنغافورة، فقد كانت تنقلها مراكب الصيادين من ماليزيا لبناء بعض البيوت والأكواخ لإيواء سكانها المحليين الذين كانوا مجموعة من ثلاثة أعراق متناحرة، تجاوزت سنغافورة تلك الفترة المظلمة بقوة الإرادة الواعية الحكيمة فأصبح دخل الفرد فيها في العام من2013م حوالي أربعة وستون ألف دولار لتحل في الترتيب الثالث على مستوى العالم.
دولة روندا التي عانت في فترة التسعينات من الصرعات العرقية بين قبائلها المتناحرة تسير اليوم بخطى حثيثة نحو التقدم والحضارة، بعد أن قضت على مسببات الصراع العرقي وذلك بسن قوانين تجرم استخدام الخطاب العرقي ومن ثم الانطلاق نحو البناء من خلال وحدة مجتمعية لا تفتتها الصراعات، ووجهت الحكومة طاقتها نحو التنمية وتطوير الاقتصاد ووضع رؤية تشمل أربعة وأربعين هدفاً في مجالات مختلفة، فتمكنت هذه الأهداف من تحقيق رؤية القيادة الحكيمة فتضاعف متوسط دخل الفرد ثلاثين ضعفاً عمّا كان عليه قبل عشرين عاماً.
تجارب الدول كثيرة ويطول الحديث فيها، وهي تجارب ملهمة لكل شعب يرنو للانعتاق من حالة القهر والذل التي فرضت عليه.
ما دفعني للكتابة حول هذا الأمر خصوصية الحالة الفلسطينية التي تعاني ظلماً مركباً حيث الاحتلال الاستيطاني والحكومات الفاشلة التي ما زالت تعدنا بالحرية والاستقلال والدولة الحضارية منذ ثلاثين عاماً دون أن نلمس أي نتاج على الأرض سوى الشعارات الزائفة والوعود الباطلة التي لم تعد تغني عنها شيئاً، ولذلك أصبح واضحاً لكل ذي لب أنه لا يمكن لشعب أن يحقق طموحه بالتحرير والاستقلال ثم السير في ركب الحضارة من خلال حكومة فاشلة فاسدة، ولا يمكن أن تتحقق الأهداف الوطنية في ظل حالة من التشرذم والانقسام، ولا يمكن أن تقوم لنا قائمة في ظل حالة الاقتتال والتناحر وسنظل ندور في هذه الحلقة المفرغة الكئيبة طالما بقيت الحالة الفلسطينية لم تبرح هذه الحلقة الحديدية التي استدارت حول أماني وطموحات شعبنا فكبلتها.
لم تعد تنطلي على شعبنا إنجازات وهمية وبيانات فارغة وقفزات بهلوانية لحكومات فاشلة ولم يعد شعبنا يطيق الارتهان إلى سياسات خرقاء لم تجلب له سوى مزيد من الألم والمعاناة التي فاقت قدرته على الاحتمال، فلنكسر هذه الحلقة ولتنطلق كوامن القوة لدى شعبنا لتحقيق حريته استقلاله، ومن ثم بناء دولة حضارية يستحقها شعبنا من خلال قيادة حكيمة واثقة واعية تعرف طريقها نحو تحقيق أهدافها.