شهــ ـيدٌ فَوق حِراب القَيد

يقول الفيلسوف الألماني (نيتشه): "عندما أتحفّز لِركوب أشدِّ جِيادي جُموحاً، فلا أجِدُ أصدَقَ مِن رُمحي أتّكِئ عليه".

وعندما تحفّز "بسّام", لِركوب جَوادِ التّحرير, لم يجِد أصدقَ مِن بندقيّته يرمي بها، وعندما تحفّز لقَهر القَيد والسّلسلة, لم يجِد أصدقَ مِن صُموده وصَبره يتسلّح بهما، وعندما خذلَته الثّورة مِن التّحرّر, لم يجِد أكثرَ نقاءً ووفاءً مِن المرضِ كفَنَاً للشّهــ ـادة..!!

في زاويةِ الشّمس، من باحةِ سِجن (إيشِل)، كان يقتَعِدُ كُرسيّاً بلاستيكياً، مُرتَشِفاً شَايَهُ بِتذوّقٍ على مَهلٍ مُلفِت؛ كأنّه يَمتصُّ مَذاق الحريّة المفقودة مِن رَحيق الكأس، يتمَلملُ بِجسدِه الهشّ، كأنّه نسيمٌ يتثنّى بين خيوطِ الشّمس النّادية، ثمّ يبتسِم عريضاً كالوردِ يُغالب الشّوك والرّيح، ثمّ ينتفضُ في فَمِ المَرض مُترجِماً، وَخَزاتِ الألم إلى بَسماتٍ صريحاتٍ، تتراقصُ على أجراسِ قُيودِه، كنتُ أرمي بِطرفِي ناحيَتَه، مُستَرِقاً وَصْفَاً شافياً، لذلك الهيكَل الهزيل، القادِر على ميلادِ البَسماتِ، مِن رَحِم المَرضِ المُمِيت..!!

كنتُ أُجاهــ ـد فَهمي، مُحاوِلاً قراءة أبجَديّات التّحدي، مِن قاموسِ لُغته المُحتَكَرِ بكِبرياءه وعُنفوانِه؛ فللشّــ ـهداءِ لُغةٌ مِن نظراتٍ وأحاسيسَ وتجلّياتٍ، لَن نفهمها نحنُ المُتَخلِّفُون، ولَهم سِيمَاءُ أشبه بِسِيماءِ السّماء، شفّافةٌ وطاهرةٌ مِن لَوثاتِ أُمنياتِنا العاصِية، وبَعيدةٌ عن أحلامِنا الدُّنيا المُنتفِخة بِأُبَّهَةِ الفَناء، كنتُ مِن ناحية الباحةِ الأخرى، مِن زاويةِ الظِّلِ المُعتِم، أستَرِقُ نظرائياً شهــ ـيداً مُقيّداً بالحديدِ، يقفُ على حافّة الوداعِ الأخير، يبتسمُ بنداوةٍ أجلَى مِن إشراقةِ شمسِ الضُّحى، ولِعَينيهِ همسٌ ناعِسٌ كَتَفَتُّقِ الورودِ يُدغدِغُها دِفء الشّمس، أنفَاسُه يَغليها المرض، فتخرُج مُلتهبةً كحنينِ الشّوق، ثُمّ يقِف كأنّه النّخلُ باسِقُ النّضيد ثُمّ يمشِي كَجَبلٍ يَميدُ ولِلأرضِ مِن تحتِه أنّاتُ شوقٍ لِشهــ ـيد ، يتكلّمُ فصيحاً كقهقهةِ الرّعد، في أعماقِ النّواحي، وعندما يَشخَصُ بَصَرَه مُمعِناً، فإنّه الشُّهُب المُشِّع في لاحِبِ السّماء..!!

يسيحُ "السّائح" في ثنايا السّجن، كَغيمةٍ سابحةٍ في نواحِي الفضاءاتِ البَعيدة، لكنّ الغيمَ لها مُستقَرٌّ في الأقاصِي المُرتفِعات، ومُستَقَرُّ "السّائح" سِجِلٌّ في جارورِ الثّورة المُتخَم بالعَجز، لكنّه يُكابد ألَم العجزِ الثوريّ، كما يُجاهد السّرطان السّاري في عُروقه، ويمشي بكبرياءٍ فوقَ جُغرافيَّةِ السّياسَة وتارِيخها، تَشُدّه السّلسلة إلى لازبِ السّجنِ وسآمته، لكنّه يُقاوِم فيُحلّق بأجنحةِ العِناد، إلى مُستقَرِّ طَهارةِ السَّماء، يحاصِره القَيد بصَلابة الحَديد في زنزانةِ الحجر، فيتحرّر عُنوةً وغِلاباً بنقاءِ الكلمات، (لنْ تستطيعَ حصار فكريَ ساعةً، أو نزعَ إيماني ونُورَ يَقيني)، إلى مُحيطِ لُغة الأنبياءِ والصِّديقينَ والشّــ ـهداء..!!

في مقامِ هذه الهالةِ النّورانيّة، لشهــ ـيدٍ يرتحلُ إلى السّماء بِبُطء، كُنّا نحن مَن أسمَونَا "عَمالِقة الصّبر"، كنّا نتقزّمُ وينذوي صبرُنا في وجهِ آهاته وعذاباته، وكانت أنفاسُنا تذوبُ بحرارةِ أنفاسِه، التي غَلَت في قِدْر المَرض المُتّقِد؛ فإذا بنا نتساءلُ عن أولئك النّاكِصونَ عن الدّربِ، الضّالونَ سُبُلَ حُريّتِنا، والعاجِزونَ عن أداءِ الرّسالة، وأولئك اللذين خانوا أمانة الشّهــ ـداء: ماذا بقيَ لكُم في رِحاب الشّــ ـهادة، مِن مقام إذا كُنّا نحنُ، قد تلاشَينا أمام طهارتها؟!

"بسّام"، أيّها السّائح في رِحاب الجِنانْ.. الوارِدِ حَوضَ نبيّ السّماء.. ما كانَ لكلماتي أنْ تستَندَ على حُروفِها، وما كانَ لها أنْ تقِفَ على معانِيها، لولا اصطفاؤها مِن قاموسِ شهادتِكم، وما كانَ عقلي ليَعِيَ الأسطورةَ، لولا مُعاشرَتي إيّاكَ زمناً، في حضنِ القَيد البارِد، وما كانَ لقلميَ ليَذرِفَ مِدادَه مِدراراً، لولا أنّ {مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}.

فهنيئاً لكَ أيّها الشّهــ ـيد لُغةَ الأفعالِ الخالِصات، وهنيئاً لكَ حقيقةَ وسِيمَاءَ ما فوقَ الأسطورةِ والخَيال، واعذُرني أيّها الحبيبُ فقد كُنتُ قد أمَّلْتُ بعد استــ ـشهاد "عويسات"، ألّا يحدث الأمرُ في السّجن مجدداً، فقد صَحَتْ الثّورةُ، وانتفضَ القائدُ المُبَجَّل، والرّئيس والجُندُ والخَدم، وقالوا:

لن يحدث الأمرُ مرّةً بعد المرّةِ.. بالمرّة..!!

فقد أنذَرْنَا السّجّانَ أنّ الخطأ يُغفَر مرّةً والخَلَلْ..

وإنْ كانَ لا بُدّ فسنُفهِمه مِن غير وَجَل..!!

ولمّا استشــ ـهَدتَ أنتَ يا بطل,

علِمتُ أنّ المرآة قد انكسرت..

وفاضَت المِحبرة وانفَجر القَلَم!!

وقُلتُ مُرتعداً في بِدلة السّجن والقفلِ،

والغازِ والبُسطارِ والهراوةِ وعَدِّ الصُّبح وقمعةِ النّقم:

أينَ الرّئيس؟ أينَ القائدُ والجُند والخَدم..؟!

أخبِروهم بما صنَعَ السجّانُ.. كيفَ انتقم..!!

فقد نقضَ عهدَكم وعادَ يُمارس الزّلَل..!!

قولوا للرّئيسِ إنّا لا نخشى الموتَ،

شريطةَ أنْ لا نُحبَس بعدَ الموتِ

في الثلّاجة, فالأمرُ جِدٌ جَلَل..!!

وإذا غضِبَ الرّئيس فإنّا نعتذر..

فقد أغرانا الأمَلُ واستَبَحْنا الخَجَل..!!

عذراً بسّام .. أخوك جمال..

1 /رجب /1442

14/2/2021

سجن شطّة

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023