عاطفةٌ من بين فرث السياسة ودمها
خالصةً سائغةً للمحبين
مسترِقةً إياه من حسابات السياسة المعقدة تحاول هذه الخاطرة أن تلتقط من زاوية القلب، لا من جهة الفكر لقطة المشهد الصعب!
متفهّمَةٌ هي اعتبارات السياسة والمصالح والحسابات الدقيقة والمعقدة للفاعلين: دولا وحركات، حين يُعتدى عليهم، فيلتزمون الصمت حينا أو أحيانا، أو يكون ردّهم بما لا يوازي الجريمة حينا آخر. وبلغة السياسة والتحليل يمكن الكتابة حول الأسباب التي تجعل غزة اليوم في موقف أقوى وأفضل أمام عدوان مماثل، وما هي نقاط قوتها التي ليست لغيرها من الحلفاء في خندق المعاداة للكيان قولا وفعلا. لكن ما عن المقارنة بلغة السياسة والمصالح هذه الكلمات، فذلك شأن المحللين السياسيين، ولا تريد هذه الأسطر أن تكون أكثر من نبض مشاعر مسترق من خضم هذا المعمعان. وتحب عين هذا القلم أن تقرأ المشهد هكذا، كما يحب قلبه أن ينبض به هكذا.
عن هذه المحاصرة المجوّعة الحافية المعدومة من كل أسباب الحياة المادية إلا أن يحفروا الصخر ليفجروا منه رمق الصمود، أكتب..
بالأمس تقول غزةُ ( خاوتَها) فتكون ( خاوتُها) التي تريد. كانت أربعة حروف، لكن دونها من زخرف البيان الباهت من الكلمات ألوف وألوف. عاميةً كانت لكنها أفصحُ من خطباء المنابر، وبلغاء البيان. كانت مجرد كلمةً عامية لكنهم رأوها بسطار السطوة فوقهم كي يدفعوا بالقوة، مستذكرين الجبل فوقهم كأنه ظلة كي يأخذوا حينها ما أوتوا بقوة. أفيكون مستغربا على الذين جعلوا من ( نقطة الصفر) الرقمَ الصعبَ مِن قبلُ، أن تبدو من بعدُ عاميتُهم أفصحَ من كل بلاغة؟ هي غزة التي جعلت للصفر معنىً أول الأمس، هي التي تبدو العامية من فمها بالأمس أبلغ خطاب.. وتمضي الأيام، وتسوّل للعدو نفسُ وهمِه أن همَّ قوتِها سيحيّد بأس فعلها فلا يضعها في حسابه وهو يخطط لسرقة العمر، فما هو إلا أن ظهر الملثم وألقاها على مسمعِ ذعرِهم كلماتٍ معدودات، فصل خطاب: ( هذا إعلان حرب.. وستعضون أصابع الندم) ثم مضى، وما مضت حتى اللحظة تفاعلات رعبها! ألقاها بكل ثقة المؤمن بربه وبعدالة قضيته وبأس رجاله، وما إن فعل حتى تنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى! فصبّ على نار شتات قلوبِهم زيتَ الذعر الذي خبروا ويعرفون، وزاد المرتبِكَ حيرةً، والسارقَ قلقا، والمذعور توجّسا. ولما اقترب يوم الزينة، وقبل أن يحشر الناس ضحى، كانت رادارات قبرص تختصر المشهد وهي ترصد وتسجل، ثم أقلعت الطائرات تبحث عيون رجائها عن بقايا حديد يسكت ذعرَ ترقّبِهِم. فكأنما رصدت رادارات الحقيقة ما يكرهون! أو لكأنهم سمعوها تصرخ بهم:" ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين" [ يونس:81]
يحدثنا الله عز وجل في سورة طه عما امتن به على سيدنا موسى عليه السلام من نعم فيقول سبحانه: " ولقد مننا عليك مرةً أخرى. إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى. أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليمّ فليلقه اليمّ بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبّةً مني ولتصنع على عيني. إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفُلُه فرجعناك إلى أمك كي تَقَرَّ عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغمّ وفتنّاك فتونا..." [ طه: 37- 41]. واللافت في جو تعداد النعم هذا قوله سبحانه" وفتناك فتونا" : أي اختبرناك اختبارات كثيرة ومتنوعة، فما تخرج من واحد إلا دخلت في آخر. فأين النعمة في هذا ؟ إن الآيات تعدد نعم الله على عبده ورسوله عليه السلام، فما بال الفتون؟! بلى، إن المهمةَ التي رشحت الأقدارُ لها موسى عليه السلام مهمةٌ ضخمة: ( إنهاء ملك المتجبر الطاغية الذي قال أنا ربكم الأعلى، ومعالجة أنكد جبلة بشرية). فكيف سينجح في أداء هذا الدور الكبير والمهمة الضخمة إن لم يفتن فتونا؟
أكتب هنا متحدّثا بنعمة الله عز وجل على أطهر المجاهدين، وأطهر مشروع، وأطهر قضية. وكيف يأبى الله عز وجل إلا أن يمايزه عمن سواه، حتى عمن هم معه في خندق العداء الواحد للعدو المشترك. ويأبى الله عز وجل بين الحين والحين إلا أن يرينا آية تلو آية على أن في أكناف بيت المقدس أحبابَه الذين يحبهم ويحبونه، وأولياءه الذين يصنعهم على عينه، وجنده الذين سيغير بهم وجه الأرض. وكلما غطى ضباب التآمر مع ما يحمله من غبار الألم والمحن على أفق الخلاص، يرينا الله عز وجل شعاعا من نور الأمل أن ها هنا الطريق ولا سواه. أقول هذا تحدثا بنعمة الله عز وجل أولا، ثم ذكرى تنفع المؤمنين حتى لا نصغر في أنفسنا عن دورنا الكبير الذي ينضجنا الله في قلب المحن لتسنّم ذرى مجده.
وأنتم يا فتية الله في البقعة المباركة، يا فتيةً يمنحوننا من حصارِهم حريتَنا، ومن آلامِهم آمالَنا، ومن ظمئهم ريَّ عزِّنا، ومن تدثُّرِهم بالموت يبيت في فُرُشِهم وينامون في حضنه حياةَ أملِنا ومجدِنا وكرامتِنا. لست أشك - والله- أنكم الفجر القادم للأمة كلها يعدّكم ربكم الحكيم لإشعال جذوته، ليبدأ بقيادتكم عالمية الإسلام الثانية.
ويأبى الله عز وجل – كلما امتدت الأيام، أو بلغت القلوب الحناجر وظُنّ بالله الظنون- إلا أن يرينا أنكم في الناس لا كالناس، وبين المجاهدين الأطهرُ قضيةً، والأنقى سريرة، والأقوى شكيمة، والأهدى ىسبيلا. وأن مسرى حبيب الحق وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم أكرمُ على الله من أن تعلي راية حريتِه إلا أياديكم الطاهرة.
وبعد فهذه مجرد عاطفة، وذلك حتى لا تولّي وجوهُ قلوبِنا إلا شطرَ قِبلةِ حبِّكم، يوم تضطرب بوصلة الولاءات.