بقلم المستشار/
أسامة سعد
27/07/2022م
تصور أن يعقد أحدهم مؤتمراً علمياً ليناقش مسألة عليمة دقيقة ويدعو لذلك مائة عالم بعد أن جهز القاعة ووسائل الإعلام والضيافة اللازمة، ثم يبدأ المؤتمر فلا يحضره إلا عشرون عالماً ممن يتبنون رأياً واحداً في المسألة التي سيناقشها المؤتمر، ورغم ذلك يصدر بيان المؤتمر بأن المؤتمرون قد ناقشوا المسألة محل الخلاف وأصدروا رأيهم بالأغلبية فيها بالموافقة على الرأي الذي تبناه من عقد المؤتمر. لا شك بأن أي عاقل سيقول إن هذا تدليس وليس حقيقة، رغم أن شكل المؤتمر كان أنيقاً وكل الاحتياجات اللوجستية كانت معدة على أكمل وجه ونقلت وسائل الإعلام وقائع ذلك المؤتمر، إلاّ أن مضمون المؤتمر لم يكن له أي تأثير وذلك بسبب عدم حضور العدد الأكبر من العلماء المراد سماع آراءهم.
هذه ببساطة فكرة الشكل والمضمون في القانون تلك الفكرة التي تتلخص بأن الشكل والمضمون يجب أن يتوافرا كي يكون الإجراء صحيحاً وإلا اعتراه البطلان.
ما حدث في استفتاء تونس هو ببساطة انعقاد شكل الاستيفاء دون مضمونه وذلك بوجود هيئة انتخابات وصناديق ومراقبين وأوراق انتخابية لكن دون أن يكون هناك ناخبين، لأن مضمون عملية الاستفتاء هي معرفة رأي الشعب المستفتى فيما هو معروض عليه، فإن لم يكن الشعب أو الأغلبية المعتبرة على الأقل حاضرة للإدلاء برأيها فلا قيمة لهذا الاستفتاء ويبقى عبارة عن شكل دون مضمون.
الرئيس التونسي قيس سعيد كأستاذ في القانون الدستوري يعلم هذه القاعدة جيداً، ولكن رغم ذلك احتفل هو وأنصاره بما اعتبروه نصراً لهم في الاستفتاء الذي لم يحضره إلا حوالي 25% من الناخبين، ويبدو أن من حضر هي الشريحة المؤيدة لقيس سعيد وغابت الغالبية التي استجابت لدعوة المعارضة بالمقاطعة.
قيس سعيد اعتمد على شكل الاستفتاء في الاحتفال بما سماه انتصار وهو يعلم أن البطلان يعتري هذا الاستيفاء لغياب غالبية الشعب التونسي الذي نادى كثيراً جداً قيس سعيد بأنه مصدر السلطات.
فأي سلطة يمكن أن تمنح من 25% من الشعب التونسي فيما يدار الظهر ل 75% ومن يمثل مصدر السلطات هنا؟
الأمر الذي يطرق بقوة الأذهان والأفهام أحقاً هذه الوسيلة " الاستفتاء" عبرت عن نبض الشعب التونسي؟ والجواب هو لا، فلماذا يُقدم أستاذ في القانون الدستوري على مثل هذه الخطوة التي تعتبر خروجاً على أبسط القيم الدستورية التي تعلي دائماً من شأن الشعب وتضع ما دون ذلك تحت قدميه، فإذا كانت سيادة للشعب أفلا يكون مثل هذا الاستفتاء قد غطى جريمة سرقة سيادة الشعب التونسي الذي سُرقت سيادته وهو غائب؟ ولماذا تنتزع السلطات من الشعب رغماً عنه ثم يُدَّعى أن الشعب مصدر السلطات.
محاولات التدليس والتزييف لإرادة الشعوب من خلال صور باهتة وأشكال جامدة بلا روح أو مضمون هي لعبة مكشوفة مارستها الأنظمة الدكتاتورية لعقود طويلة زيفت من خلالها إرادة الشعوب ومنحت نفسها حق حكمه وإذلاله، ولكنها على الأقل كانت تدعى أن نسبة نجاحها في الاستفتاءات تتجاوز 99.9 بالمائة وذات مرة وصلت النسبة في استفتاءات أحد الأنظمة إلى 100%، ورغم أنها كانت محاولات سمجة لتزوير إرادة الناخبين إلا أنها كانت تسعى إلى إكمال المشهد المزيف حتى نهايته، إلا أن قيس سعيد قد تجاوز في مصادرة إرادة الشعب التونسي تلك الأنظمة، ولم يأبه حتى لإكمال المشهد بذات الطريقة وإنما اعتبر بكل صلف أن ال 25% الذين ذهبوا للاستفتاء هم الشعب التونسي وأن الشعب التونسي وافق على دستوره الذي صنعه على عينه، بعد أن ضرب بعرض الحائط مشروع الدستور الذي وضعته اللجنة التي كلفها بنفسه لصياغته وغير وبدل فيه بإرادته الشخصية، الأمر الذي دفع رئيس لجنة صياغة مشروع الدستور للإعلان أن النسخة التي قدمتها اللجنة لقيس سعيد ليست هي النسخة التي أُعلنت للشعب التونسي.
قيس سعيد يمارس الدكتاتورية بثوب جديد غير معهود للشعوب، فهو يمارس الدكتاتورية من خلال تغيير المفاهيم الثابتة والراسخة للقواعد والقيم والأعراف الدستورية المستقرة، فأصبح في عرف قيس سعيد الحكم للأقلية وليس للأكثرية وأصبحت السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية مجرد وظائف يتحكم فيها الرئيس، وأصبح الرئيس آلهة خارج نطاق المساءلة.
بمثل هذه المفاهيم المشوهة يسعى قيس سعيد لحكم تونس التي أطلقت ثورة في 2011 سميت ثورة الياسمين فعبق شذاها ليعم العالم العربي بأسره.
رائحة الياسمين التي انتشرت من تونس أزكمت أنوف الطغاة فحاربوها ونجحو في ذلك إلى حين فسادت رائحة الدم والبارد
الشعب التونسي أراد الحياة يوماً فاستجاب له القدر، فهل يخبو شذا الياسمين في تونس أم أن للشعب التونسي رأي آخر؟