تجد تركيا نفسها أمام حرج وتحد كبيرين بسبب تصاعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، وارتقاء عدد كبير من الضحايا المدنيين والأطفال، بالتزامن مع تصاعد الانتهاكات والاقتحامات للمسجد للأقصى من قبل المتطرفين الإسرائيليين، وذلك في الوقت الذي تسعى فيه أنقرة لإعادة تطبيع العلاقات مع تل أبيب، وفتح آفاق تعاون بين الجانبين في مجالات مختلفة، لا سيما ملف الطاقة ونقل الغاز إلى أوروبا.
وبينما أدانت الخارجية التركية “بشدة” الهجمات الإسرائيلية، مُركزة على “رفضها القاطع” لاستهداف المدنيين والأطفال الفلسطينيين، نشرت شخصيات سياسية تركية أخرى إدانات أشد للهجمات الإسرائيلية، في حين لم ينشر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أو مكتب الرئاسة، أي موقف أو تصريح بعد من الهجمات الإسرائيلية المتصاعدة على غزة والانتهاكات المتزايدة في القدس.
وعلى الرغم من أن الموقف التركي الرسمي لم يشهد أي تغيير من حيث مبدأ إدانة الهجمات الإسرائيلية، وتأكيد الوقوف إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني، إلا أن حدة المواقف الرسمية تراجعت مع انطلاق قطار التطبيع بين الجانبين، لا سيما تصريحات أردوغان الذي كان لا يتوانى عن وصف إسرائيل بـ”دولة الإرهاب” و”قاتلة الأطفال” ويهاجم قياداتها السياسية والعسكرية، ويطالب العالم بالتحرك لوضع حد لـ”الإجرام الإسرائيلي”.
ومع التقدم في مسار التطبيع بين الجانبين وبدء الزيارات المتبادلة على أعلى المستويات السياسية، أصدرت السفارة التركية في تل أبيب، والخارجية التركية بداية العام الجاري عدة مرات بيانات إدانة لهجمات نفذها فلسطينيون في تل أبيب، مؤكدة رفضها “الهجمات التي تستهدف المدنيين من الجانبين”.
وشهدت السنوات الماضية أكثر من مرة، سيناريو لانهيار مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب؛ بسبب ردود الفعل التركية الغاضبة على الهجمات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني. وفي أكثر من مناسبة وصل مسار التطبيع لمراحل متقدمة قبل أن ينهار سريعاً بسبب رد الفعل التركي على التصعيد الإسرائيلي، وهو ما دفع المسؤولين الإسرائيليين هذه المرة للتشكيك في “جدية رغبة أنقرة بتحسين العلاقات”، وسط مطالبات بعدم التسرع في تبادل السفراء لحين “التأكد من صدق نوايا تركيا وعدم تبدل مواقفها سريعاً”، وهو ما يمكن أن يفسر التروي التركي حتى الآن في اتخاذ مواقف “أكثر حدة” من العدوان الإسرائيلي.
وعقب ساعات من بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة، أصدرت الخارجية التركية بياناً قالت فيه إنها تدين بشدة الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قطاع غزة، لافتةً إلى أنها “تراقب بقلق عميق التوتر المتصاعد في المنطقة عقب الغارات”، وأكدت أن “فقدان مدنيين بينهم أطفال لحياتهم جراء تلك الهجمات يعتبر أمرا غير مقبول”. كما شددت على “ضرورة التحلي بضبط النفس وإنهاء الأحداث المذكورة مباشرة قبل أن تتحول إلى دوامة من الصراع”.
من جهته، أدان رئيس الشؤون الدينية التركي علي أرباش، الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة. وكتب عبر تويتر: “إن دولة الاحتلال الإسرائيلي بدأت مجدداً باستهداف المدنيين والأطفال في قطاع غزة.. إن عقلية الاحتلال البعيدة عن القانون والأخلاق، تواصل ارتكاب فظائعها تحت اسم السياسة الأمنية أمام أعين العالم بأسره”، مضيفاً: “أدين بشدة هذا الهجوم الذي استهدف أشقاءنا الفلسطينيين، وأسأل الله الرحمة لأرواح إخواننا الذين استشهدوا في الهجوم، وأتمنى الشفاء العاجل للمصابين”.
ورغم المواقف المختلفة التي صدرت عن الخارجية ورئاسة الشؤون الدينية ومسؤولين على مستويات مختلفة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، إلا أنه لم يصدر أي موقف بعد من الرئاسة التركية، ولم ينشر متحدث الرئاسة إبراهيم قالن، ورئيس دائرة الاتصال، فخر الدين ألطون، أي مواقف تتعلق بالتطورات في غزة والقدس، كما لم يعقب أردوغان على هذه الأحداث بعد، وذلك رغم مشاركته في عدد من الفعاليات التي تحدث فيها حول عدد من الملفات الداخلية والخارجية بالإضافة إلى الحوار الصحافي الموسع الذي أجراه في طريق عودته من روسيا إلى تركيا.
أحمد داود أوغلو، زعيم حزب المستقبل المعارض، وجّه انتقادات لاذعة للموقف الرسمي التركي، وكتب عبر تويتر: “إسرائيل تهاجم غزة مجدداً، الحزب الحاكم صامت!، أتساءل عن سبب الصمت في الوقت الذي يتعرض فيه إخواننا المدنيون للظلم. أتمنى الرحمة لإخواننا الفلسطينيين الذين فقدوا حياتهم نتيجة الهجوم الإسرائيلي”.
وفي أبريل/ نيسان الماضي، فجرت الاعتداءات الإسرائيلية المتصاعدة ضد الفلسطينيين في مدينة القدس بشكل عام، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى في شهر رمضان بشكل خاص، موجةً من الانتقادات الشعبية والحزبية في تركيا ضد مساعي إعادة تطبيع العلاقات مع الحكومة الإسرائيلية.
ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا عام 2003، بدأت العلاقات التركية الإسرائيلية بالتراجع بشكل كبير وصولاً لانهيارها بشكل كامل عقب الهجوم الإسرائيلي الدموي على سفينة النشطاء الأتراك “مافي مرمرة”، وعلى مدى سنوات طويلة، جرت مساعٍ مختلفة لإعادة تطبيع العلاقات، انهارت جميعها نتيجة تصاعد الهجمات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وتصريحات أردوغان الحادة ضد "إسرائيل".
ومنذ أشهر، بدأ أحدث مسار لإعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب. وعقب سلسلة اتصالات على مستوى الاستخبارات والدبلوماسية المنخفضة، جرت اتصالات سياسية رفيعة بين أردوغان والرئيس ورئيس الوزراء الإسرائيلي، قبل أن تتوج تلك الاتصالات بزيارة الرئيس الإسرائيلي أسحاق هرتسوغ إلى أنقرة، في أول زيارة رفيعة على هذا المستوى منذ أكثر من 12 عاماً، وسط مساعٍ لإعادة تبادل السفراء والتعاون في ملفات ثنائية وإقليمية ومختلفة.