عبد الناصر عيسى .. همةٌ تناطح السحاب

في ليلةٍ قمرية، تسلّل شعاعٌ من نور من نافذة الزنزانة التي تغوص في ظلام محيق؛ لتدبّ الحياة في روح صاحبي عبد الناصر، ويقوم منتفضًا من سريره يبحث عن قلمه وبعض قصاصاتٍ من ورق، ليسجّل عليها أفكارًا قد جالت في خاطره لرسالته في الدكتوراة التي تناقش سرّ التقارب في العلاقات الإسرائيلية التركية!

تعجبت من أمره وقد تحوّل لخلية نحلٍ تفكّر وتخطّط وتنفّذ بلا كللٍ ولا ملل، بعد مشوارٍ طويلٍ من النضال ومقاومة المحتـ ـل اعتقل على إثرها وحوكم بـ مؤبدين وستِ سنوات.

وفي حالة إنهاكٍ بعد رجوعي من غرف التحقيق مغربًا، وقد فقدت القدرة على النطق من هول ما عايشت، ومُسحت من ذاكرتي أبجديةُ الحروف، اللهم من أنينٍ ساحق أو تأوهٍ من جوفِ جسدٍ قد مزقته الآلام شرّ ممزّق؛ في تلك الحالة رأيته منهمكًا في كتابة بحثه، فحادثته متسائلًا: يا أبا حذيفة .. ألا أخذت قسطًا من الراحة تريح به جسدك، "يا حنظلة ساعة وساعة"؟

فوضع علامةً عند الصفحة التي وصل إليها، مبيتًا النية أن يستأنف كتابته، ثم نظر إليّ بابتسامةٍ حانيةٍ وعينين لامعتين تنمُّ عن طاقةٍ متفجّرة، ثم قال:

يارفيقي .. الوقت ضيقٌ بعد المغرب، فبالكاد سأستطيع إنجاز رسالتي الدكتوارة في موعدهما المحدد، وبعد صلاة العشاء لديّ جلسة مع الأخوة نتشاور فيها عن تطوير المناهج الدعوية لترقية الأخوة إيمانيًّا، وفي الصباح أُدير مركز حضارات بكل أقسامه وفروعه في غزة وتركيا وبريطانيا، وكما تعلم قد أصدرنا بالأمس كتابي الأسير أمجد السايح "بسمة وداع" و"حكايات مراش"، وفي وسط النهار نخوض المعارك مع إدارة السجون الإسرائيلية لتحقيق مطالب الأسرى وانتزاع جميع حقوقهم.

انتهى من ردّه عليّ سريعًا ثم انكبّ على كتبه وأوراقه مستكملًا أبحاثه.

استصغرت نفسي حينها وأنا أتأمل جسده الهزيل وآثار التعذيب عليه ومع ذلك يملك همةً تناطح السحاب، بل وصلت لسدرة المنتهى تنهل من خيرها وبركتها.




هذه الهمّة التي لطالما يحاول السجان الصهيوني أن يكسرها فينا، بأساليب التعذيب الجسدية والنفسية، وبمحاولة تجريدنا من آدميّتنا وكرامتنا.

لكنّنا مع كل لحظة ألمٍ نحيا بالأمل، نسمو بأحلامنا ونسبح بمخيلاتنا بين وجوه من نحب، نسمعهم ولا يسمعوننا، نراهم ولا يروننا، هم الأحياء ونحن الأموات.

ننتظر بلهفة، كل خبر عن أي صفقة تبادلٍ جديدة، بين المقاومة وبين المحتل، علها تبعثنا من مرقدنا هذا، نجتمع بأحبابنا، نتنفس نسيم الحرية، نرى خيوط الشمس في إشراق يومٍ جديد، نطرب آذاننا بلحنٍ موسيقي لأبي راتب السوري وهو يغني:  

خيوط الشمس دايمات المد ... والحصادة ما تنحد بعد..



هذه الأوراق والكتب التي يلازمها صاحبي عبد الناصر، ماهي إلا حطبٌ نُشعل به نارًا تُضيء لنا هذا النفق المظلم، علّنا نجد على النار هدىً، أو نقتات منها دفئًا لأجسادنا المتجمدة على أقل تقدير.



تقدمت لصاحبي عبد الناصر طالبًا منه كتابًا يُسلّي قلبي المهترئ، فقال لي:

- أرى أنك قد حدت عن عزلتك وتريد ركوب سفينتنا.

- يبدو أنه لا مفرّ من ذلك يا صاحبي.

- إذن عليك بشراء تذكرة سفر لتلتحق بنا.

- من أين تغذّي هذه الروح المرحة! لا تقلق سأحاول الحصول عليها بعد الإفراج.

- هههه أمازحك فقط يا أخي، يتوجب عليك أن تتخيّل أنك ستحضّر لنا كوبين من القهوة التركية.

- هذه مقدور عليها، ولا يهمّك، هل تريدها سادة أم مع سكر؟

- هههه الآن قد اطمأننت عليك ما دامك قد سايرتني في الكلام.

- ماذا ستقدم لي؟

- سأعطيك كنزًا يحاول الكثيرين أن يستعيروه مني، كتاب مقاومة الاعتقال الذي ألفته مع إخواني مروان البرغوثي وعاهد أبو غلمة.

قام من مكانه وأزال جزءًا من الجدار ليخرج منه الكتاب، مدّه لي وربّت على كفتي وقال:

- الآن يمكن التحليق..

لا نملك رفاهية اختيار ما نريد أن نقرأ، ولا مع من أن نقرأ، ولا أين أن نقرأ، لكنّنا نأمل أن ننهل من نور هذه الكتب، ونغذّي وجداننا، ونؤنس وحدتنا، نستهلّ حريتنا ونبتدأ القراءة بـ .. "اقرأ وربك الأكرم".



تذكرت مقولة الفيلسوف الفرنسي مونتاني: "ليس ثمة أجمل من القراءة والتفكير لانتشال أرواحنا من الظلام"، أو كلمات كافكا التشيكي الذي نهش داء السل رئتيه: "الكتاب هو الفأس الذي يكسر البحر المتجمّد فينا".

وها أنا أرى صاحبنا عبد الناصر عيسى وقد مضى على اعتقاله 32 عامًا، وقد خرّج الآلاف من الطلبة بعدد أيام اعتقاله، وقد ألّف عدّة كتبٍ من أهمّها "وفق المصادر" و "مقالاتٍ حرة"، وقد أكمل في الأسر درجة الماجستير وقدّم درجة الدكتوراة في أطروحتين!

ومازالت الهمّة تحلّق ومازال الجرح غائرًا ...









معتز حافظ

19/08/2022









جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023