حتى تحتضنك البيئة!!

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

يعتقد البعض أنه لمجرد مقاومته للعدو يجب على البيئة المحلية أو ما يسمى (بالحاضنة المجتمعية أو الشعبية) أن تشكل له ردءاً وحامياً ومعيناً في مواجهة هذه المحتل الذي يقاومه، أو المستبد الذي يكافح لرفع استبداده، كما تحضر في العادة عند مثل هذا الحديث مقولة السمكة والماء وجدلية العلاقة بينهما، وأن المقاومة أو المقاوم، أو الناشط السياسي والحزبي إنما هو سمكة تسبح في ماء المجتمع الذي تنافح وتدافع عنه.

وهنا يقع البعض في مغالطة أن الماء فُطر على تقديم العون للسمكة، وأن السمكة فطرت على السباحة فيه، وأن ليس هناك من أمور تفرضها طبيعة الأشياء ومبدأ العلائقية لتستقيم علاقة السمكة مع بيئتها والمقاوم أو النشاط السياسي مع مجتمعه!! وأن أمر تقديم الخدمة والدعم  من قبل البيئة الحاضنة الشعبية للمقاومة تحصيل حاصل، ولا يتطلب مقدمات ولا متطلبات!

هذه المغالطة -مقاومة يعني احتضان من البيئة- هي التي جعلت كثيراً من المراقبين لا يستطيعون تفسير كثيرٍ من الظواهر والمشاكل التي تجعل البيئة (تلفظ) المقاومة -مطلق مقاومة- أو العمل السياسي والحزبي، الذي يفترض أولئك المراقبون أنه يجب أن يُحتضن ويدافع عنه من قبل بيئته!

وهنا تحضر سلسلة من الأسئلة التي لا تجد أجوبة مقنعة ولا تفسيرات شافية، كأن يسأل المراقب المتابع:

• ما الذي يجعل العدو يصول وجول في المناطق المحتلة دون رادع وبلا وجل أو خوف؟  

• لماذا يؤثر البعض العمالة والارتباط  بالعدو الذي يضيق عليه عيشه وينغص عليه حياته؟

• ما الذي يجعل المجتمع لا يقف في وجه التنسيق الأمني الذي يصاحب كل احتلال، والذي يعد أحد أهم مصادر التجنيد والعمالة وضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة أو النشاط الحزبي والسياسي؟  

• ما الذي يجعل العمر الافتراضي للمقاومين -في الضفة الغربية مثلاً- قصير نسبياً؟  

• هل أن الحاضنة الشعبية غير موافقة ولا متفهمة ولا راضية عن أي مكون -أهداف، وسائل، طرق عمل-  من مكونات المقاومة؛ لذلك لا توفر لها البيئية الصحية للولادة والنمو والحركة؟  

وأسئلة يطول سردها ولا يتسع المقام لتعدادها ولا تفصيل ما ينبني عليها، فهذا بحث طويل يتطلب فهمه ورش عمل وحلقات نقاش يشارك فيها مختصين وباحثين وخبراء مهنة في علم الاجتماع و النفس والعلوم الأمنية.    

المقالة هذه ستتطرق -بما يسمح به المقام- للحديث عن البيئة الحاضنة للعمل المقاوم أو العمل السياسي والحزبي، استناداً إلى فرضية تقول أنه ما لم تكن هناك علاقة سليمة ومنطقية تربط المقاومة أو العمل السياسي والحزبي مع البيئة التي تتحرك فيها هذه الأجسام والأطر والهياكل، قائمة -العلاقة- على  قاعدة أن المقاوم أو الناشط السياسي، إن كان يرى أنه إنما يقوم بما يقوم به من أعمال ونشاطات إنما يقوم به نيابة عن مجتمعه، لذلك فهو (وكيل) يعمل عند (أصيل)، وما لم يكن هذا (الأصيل) يرى أن هناك مصلحة في علاقته مع هذا (الوكيل)؛ فإن علاقة غير سوية ستسود بين هذين الطرفين، سيخدم مردودها العدو أو الخصم الذي يرى (الوكيل) أنه ما قام إلا لانتزاع حقوق (الأصيل) منه.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن من أهم مهام (الوكيل) أن يقوم بإيجاد وتطوير علاقة مع هذا (الأصيل)، تصب في أصل الهدف الذي يُنشد، والغاية التي تقصد؛ علاقة تتميز بصفات ومواصفات من أهمها:  

1. تفهم كلا طرفي هذه العلاقة  مخاوف بعضهم البعض.  

2. أن تكون هناك قناعة مشتركة بجدوى هذه العلاقة وأهميتها لكلا الطرفين.  

3. أن تقوم على مشتركات الحد الأدنى، وليس بالضرورة أن تتطابق مصالح كلا الطرفين ليسيرا معاً في بناء هذه العلاقة وتطويرها .  

وحتى (نغمس في الصحن) مباشرة ولا نطيل الحديث ونتشعب فيه، فإننا نعتقد أن مجرد أنك مقاوم أو نشاط سياسي، هذا لا يعطيك (شكاً) على بياض تفعل ما تشاء كيفما تشاء ومتى تشاء! كما أنه لا يجعل لك على الناس (ضربة لازم) أن يتفهموا سلوكك وأن يغفروا زلاتك!، كما أن صفة مقاوم أو الناشط، لا تفرض على البيئة أن تقدم ما يرده هذه المقاوم أو ذلك الناشط، وإنما تنهض البيئة الحاضنة بما هو مطلوب منها تجاه المقاومة أو العمل السياسي والحزبي الذي يقدم نفسه على أنه (وكيل) عنها يقوم بما لا تقدر عليه، تنهض هذه البيئة بما هو مطلوب منها إن توفرت الظروف البيئية والشروط العلائقية المناسبة والصحية بين كلا الطرفين، والتي من أهمها:  

1. أن تمثل أهداف وغايات المقاومة أو العمل السياسي، أهدافاً للبيئة الحاضنة أو تتقاطع معها: إن أهم ما يبني البيئة الحاضنة للمقاومة أو العمل السياسي والحزبي، ويوفر له الظروف الصحية للولادة والنمو والحركة؛ هو تشارك وتقاطع كلا الطرفين مجموعة أهداف وغايات يرون في تحقيقها مصلحة مشتركة، وغاية سامية مرجوة، حيث إن تباعد الغايات يؤدي إلى تنافر المسارات، وعدم تشارك الأهداف يعني عدم الموافقة على الوسائل، فضلاً عن الإجراءات، لذلك يجب أن تجتهد المقاومة أو العمل السياسي في تطوير هذه الأهداف وتلك الغايات وتقديمها للبيئة الحاضنة على أنها أهداف للجميع، وفي تحقيقها خير ومصلحة عامة، وفي غير هذه الحالة، فستسبح (سمكة) المقاومة أو العمل السياسي والحزبي في مياه غير صحية لا يتوفر فيها الحد الأدنى من متطلبات الحياة والنمو، فلا تلبث أن تختنق وتذوي وتموت.  

2. أن تشارك البيئة الحاضنة في وضع الأهداف ورسم الرؤى والتطلعات: فلا يعقل أن يطلب من جهة ما المشاركة في تحمل أعباء عمل ودفع أكلافه وهي غير مشاركة في وضع أهدافه وتصور مآلاته، فكيف إن كانت هذه الجهة هي البيئة الحاضنة للعمل المقاوم أو النشاط الحزبي، وهي في مقام الأصيل الذي فوض الأمر لوكيل، فهل يعقل أن يتصرف الوكيل في شؤون الأصيل دون موافقته أو استمزج رأيه أو مشاركته في وضع المسارات الكلية للحركة المستقبلية؟ لذلك فكلما زادت مشاركة البيئة الحاضنة في وضع التصورات الكلية للعمل المقاوم أو النشاط الحزبي؛ كلما زادت مشاركتها في تحمل الأكلاف والمصاعب عن طيب خاطر ورضاء نفس، ولا يستقيم أن يفطن لهذه البيئة فقط عند الملمات أو المخاطر الداهمات، فتعرف أيها المقاوم وأيها الناشط السياسي على بيئتك في الرخاء تتعرف عليك في الشدة.

3. أن لا تكلف البيئة فوق طاقتها ولا يطلب منها ما لا تقدر عليه: فكما أن للمقاومة أو العمل السياسي أولوياته واهتماماته، فإن للمجتمع أولويات واهتمامات، وليس بالضرورة أن تتطابق أولويات الأول مع الثاني، فأولويات المقاومة أو العمل السياسي توفير متطلبات عملٍ ووسائل فعلٍ -بشرية ومادية- تخدم أصل هدفه الذي قام من أجله، ولا تتقدم على هذه الأولوية أولوية أخرى، أما أولويات المجتمع المدني وأفراده فتتمثل في توفير متطلباتهم اليومية التي توفر لهم سبل العيش الكريم، ولا تلجئ أفراده إلى العوز والمسألة، ويبحث أفراد المجتمع عن إثبات ذواتهم وكسب الاحترام وتحصيل المكانة، وهي أولويات وإن كانت جزءاً من أولويات العمل المقاوم أو السياسي فإنه ليست على رأس هرم الأولويات، فرأس هرم أولويات العمل المقاوم أو النشاط السياسي توفير السلاح والعتاد، وكسب المؤيدين والأنصار ومراكمة القوة وسبل الاقتدار، ورأس أولويات المجتمع المدني توفير الغذاء والدواء، والأمن والأمان -الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف- لذلك فمن المهم أن تقف المقاومة أو نشطاء العمل السياسي والحزبي على سلم أولويات البيئة التي يتحركون فيها ويعملون من أجلها، فكلما اقتربت حاجات ومتطلبات الطرفين من بعضها البعض؛ كان المجتمع أقدر على النهوض بالدور المطلوب منه تجاه المقاومة أو النشاط السياسي، تعبوياً ومعنوياً.      

4. أن تتفهم المقاومة مخاوف وهواجس البيئة التي تتحرك فيها ومستوى تحملها للمخاطر: فتعريف البيئة المدنية للمخاطر ليس بالضرورة كتعريف المقاومة لها، ومستوى تحمل الحاضنة الشعبية أو المجتمعية للمخاطر أقل بكثير من مستوى تحمل المقاومة أو نشطاء العمل السياسي والحزبي له، فتلك جبلت على طلب السلامة والدعة، وهذه ـ المقاومة ـ فطرت على طلب المشقة والبحث عن التحدي -وإلا لما كانت مقاومة- لذلك أن يظن كوادر العمل المقاوم ونشطاء العمل السياسي والحزبي أن البيئة المجتمعية المدنية قادرة على تحمل ما يتحملون، وتفهم ما يتفهمون؛ يعني بداية انفضاض الحاضنة عنهم، وتنكبها لمسيرهم، وبالقدر الذي يظهر الحزب السياسي أو الحركة المقاومة تفهماً لهذه الهواجس وتلك الملاحظات وتراعيها وتجعلها جزءاً من حساباتها؛ بالقدر الذي تظهر له البيئة الحاضنة المودة والقرب وبذل المستطاع في توفير ما يقيم الأود ويسند الظهر.  

5. أن يكون هناك أمل في تحقيق التغيير -مكاسب سياسية أو عسكرية- المنشود: ومما يجعل البيئة تحتضن المقاومة أو العمل السياسي والحزبي؛ وجود ما يفيد أن هناك أمل في التغيير، وأن ما ينشد من أهداف وغايات قابل للتحقيق، وليس ضرباً من ضروب المستحيل، فمثل هذه القناعة تساعد في تحمل الأعباء وتقبل المخاطر والأكلاف، وكلما كانت الأهداف والغايات منطقية قابلة للرؤية والقياس وضمن الإمكانات المتاحة لكلا الطرفين ومتحقق فيها مصلحة للشعب كـ (أصيل) والمقاومة أو الحزب السياسي كـ (وكيل)، كلما كانت كذلك؛ وفرت البيئة الحاضنة ما هو مطلوب منها في سبيل تحقيق تلك الأهداف والوصول إلى تلك الغايات، ولن تقصر في بذل ما تستطيع في ردم هوة الموارد البشرية والمادية للوصل بين الواقع والمستقبل.    

6. أن تتشارك البيئة مع المقاومة تخوفاتها والتهديد الذي يتربص بها: فقاعدة التحالفات أو العلاقات هي المصالح المشتركة أو التهديدات المتصورة، لذلك على الجهات التي تنهض لمقارعة محتل أو ردع ظالم مستبد أن تجهد في تظهير أن التهديد يتربص بالمجموع، وليس فقط بالمقاومة أو العمل الحزبي والسياسي، فالعدو يفعل كل ما في وسعه ليظهر أن التهديد والمخاطر إنما منشأها تلك المجموعات التي تعطل مصالح المجتمع ولا تحمل هم راحته وأمنه، وأنه -العدو- شريك في القضاء على مصادر التهديد تلك، لذلك فمن مصلحة البيئة أن تلفظ تلك الظواهر المخلة بالأمن والنظام العام، وهنا تلعب وسائل الحرب الناعمة لعبتها، ويكثر (الجَزر)، ليحيل العدو هذه البيئة إلى جُزر تسهل محاصرتها والسيطرة عليها، وخنق مصادر التهديد فيها.

7. أن تتحدث إنجازات المقاومة أو العمل السياسي عن نفسها: فالناس تبحث عن النموذج الذي تقلده، والقدوة الذي تقتدي به، وما لم تكن هناك إنجازات حقيقية قابلة للرؤية، ومن ضمن المسار الكلي الذي يوضع من أجل تحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات، ما لم تتحقق مثل هذه الأهداف؛ فإن اليأس والقنوط والإحباط سوف يدب في صفوف البيئة المجتمعية والحاضنة الشعبية، وسوف تنبت المقاومة أو الحزب السياسي عن الفضاء المجتمعي الذي تتحرك فيه، ولا يلبث أو تلبت أن تنزوي تلك المقاومة وذلك الحزب، ويعتريه النسيان، ويذوي وتنطوي صفحته، فيغدو أثراً بعد عين.  

هذه بعض العناوين الرئيسية، جئنا على ذكرها بشكل سريع، علها تكون فاتحة نقاش عند أهل الاختصاص للبحث في كيف يمكن أن تشكل الحاضنة الشعبة للمقاومة أو الحزب السياسي؟ مشيرين إلى الفرضية التي كتب على أساسها المقال، وهي: أن تكون مقاومة أو مقاوم أو نشاط سياسي أو حزبي؛ هذا لا يعني أن تجذب البيئة إلى صفك بشكل تلقائي، وإنما هناك مقدمات ينبني عليها إجراءات تفضي إلى (خلق) بيئة حاضنة للمقاومة، تقوي ضعفها، وتشد من عضدها، وتستر أثرها، وتكمل نقصها، وتعمي عين عدوها عنها.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  

عبد الله أمين  

29 08 2022

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023