نظام التاريخ في الوجود والثقافة

1

    التاريخُ لَيس مجموعةً مِن الشظايا المتناثرة في العلاقات الاجتماعية، وإنَّما هو نظامٌ وُجودي يَشتمل على مركزية الزمن في الذات والآخَر، ومُمَارَسَةٌ واعيةٌ تَحتوي على فلسفة النشاط الإنساني، ومجالٌ ثقافيٌّ مفتوح على الروابط بين تأثيرات السُّلطة وإنتاجات المعرفة وإفرازات اللغة.

والنظامُ الوجودي ليس انعكاسًا للتاريخ الذي يحتاج إلى تحليل، أوْ رَدَّةَ فِعل لمصادر المعرفة التي تحتاج إلى اكتشاف.

إنَّ النظام الوجودي هو الفِعلُ الاجتماعي المُستمر الذي يَدفع اللغةَ إلى تحرير الواقع مِن هَيمنة الأحلام الضائعة، التي لَم تستطع التوفيقَ بَين الوَعْي والمصلحة في ظِل المنظومة الحضارية القائمة على توليد التاريخ وإنتاج المعرفة.

ووظيفةُ الحضارةِ لَيْسَتْ مُمارسةَ الهيمنة المنهجية على الأحداث اليومية، وإنَّما مُساءلة الأنساق الفكرية التي أنتجتْ هذه الأحداثَ، وجَعَلَتْهَا كِيَانًا مُتَشَظِّيًا في الطبيعة الزمنية والبيئة المكانية، وأكْسَبَتْهَا صِفَةَ الدَّيمومة والاستمرارية.

وإذا كان مفهومُ التاريخ يَقُودنا إلى ماهيَّة النظام، فإنَّ ماهيَّة النظام تَقُودنا إلى آلِيَّات صناعة الواقع، وانعكاساته على فلسفة المنهج الاجتماعي المُرتبط بالحاضر، باعتباره فضاءً إبداعيًّا لا فِكرةً تائهة في الخَيَال.




2

    الوَعْيُ بالتاريخ يُمثِّل تاريخًا جديدًا، ومرجعيةً لِسُلطة المعرفة، وتحليلُ التاريخ المُرتبط بالوَعْي والمعرفة سَيُصبح -بشكل مِن الأشكال- نظامًا لإزالة الهَيمنة على الأنساق الفكرية، وكُلُّ نظام سَيُنتج أدواته الخاصَّة به، التي تَعمل على رَدْم الفَجْوة بين الأفكارِ كَمُمَارَسَة واعية، والبُنى المجتمعية كشرعية عقلانية.

وهذه الأدواتُ تستطيع -اعتمادًا على المعرفة واللغة- إعادةَ الخَيَال الذهني إلى العَالَم الواقعي، بحيث يَصِير العقلُ الجَمْعِيُّ طريقًا إلى اكتشاف المُجتمع بِكُلِّ تَحَوُّلاته، ولَيس طريقةً للهُروب مِن الأزمات الروحية والتحديات المادية.

وطبيعةُ العقل الجَمْعي مُتجاوزة للتاريخ، لأنَّها طبيعة مُتَحَرِّرَة غَير مَحصورة في دوائر زمنية مُغلَقة، وغَير خاضعة لقوالب فكرية جاهزة.

وتجاوزُ التاريخِ لا يَعْني السُّقُوطَ في الفراغ، بَلْ يَعني الانطلاقَ نَحْو فضاءات معرفية جديدة، ومُحاولةَ الوصول إلى أرض بِكْر لَمْ تُلوِّثها الأنماطُ الاستهلاكيةُ الماديَّةُ، والتكنولوجيا المُتَوَحِّشَة المُضَادَّة للقِيَم الأخلاقية.




3

    التاريخُ لَيْسَ ماضيًا نُحاول استعادته، أوْ حُلْمًا نَسعى إلى الذهاب إليه.

إنَّ التاريخ يتشكَّل في أعماق الفرد، وتظهر آثارُه على شخصيته الإنسانية، والإشكاليةُ الفلسفيةُ في البُنية الوجودية للفرد، أنَّه يبحث عن شرعية لحياته في الخارج، معَ أنَّها كامنة في داخله، ويُحلِّل تاريخَ العناصر المُحيطة به، ولا يُدرِك تاريخَ نَفْسِه التي بَين جَنْبَيْه.

وكُلُّ تاريخٍ سواءٌ كانَ فرديًّا أوْ جَمَاعِيًّا سَيُكَوِّن نظامَه الفِكري الخاص به، وهذا يُؤَدِّي إلى فهم التاريخ، باعتباره ولادةً فِكرية مُستمرة، ولَيْسَ مُعطى ثابتًا ونهائيًّا وحاسمًا -وأيضًا- باعتباره زمنًا وجوديًّا مفتوحًا على الظواهر الثقافية والتجارب الحياتية والسلوك الإنساني.

وإذا كانَ الوَعْيُ فاصلًا بين الخيال والواقع، فإنَّ التاريخ فاصل بين الإبداع والاتِّبَاع.

وهذا لا يعني إقامةَ قطيعة معَ الماضي بِحُجَّة بناء الحاضر كجسدٍ مُكتمل بِنَفْسِه، وكهدفٍ قائم بذاته، لأنَّ الزمن في الإطار النَّفْسِي (كِيَان الفرد) والإطارِ التاريخي (كِيَان العَالَم) يستمد مَعناه وجَدواه من المعرفة واللغة.

والمعرفةُ واللغةُ مِن أهم أُسُس شخصية الفرد الإنسانية، ولا يُمكن للفرد أن يُقيم قطيعةً معَ نَفْسِه، أوْ يَخلع وَجْهَه، أوْ يُبدِّل جِلْدَه.




4

    إذا أصبحَ التاريخُ زمنًا مُتَجَمِّدًا، أوْ فِكرةً مُحَنَّطَةً، فهذا يعني أنَّ الفرد والمجتمع فَقَدَا القُدرةَ على معرفة حُدود البناء الاجتماعي، وعَجَزَا عَن تَتَبُّع آثار العقل الجَمْعي في البُنى الوظيفية المُسيطرة على الأحداث اليومية والسلوك الإنساني، وهذا يُؤَدِّي إلى فَصْلِ الحقيقة الاجتماعية عن الرمزية اللغوية، وتَحَوُّلِ الواقع إلى عِبْء ثقيل على كاهل الفرد، وبالتالي، يَفقد المجتمعُ معاييرَه الأخلاقية، ويُصبح غير قادر على تحقيق شُروط وجود المَعنى في المراحلِ التاريخية والظواهرِ الثقافية، وهذا يَجعل اللامَعنى هو الهُوِيَّةَ الوُجوديةَ المُتَجَسِّدَةَ في الفِعل الاجتماعي العاجز عن التغيير.

وحُضُورُ اللامَعنى هو غِيابُ التجانس في العلاقات الاجتماعية، واختفاءُ القُدرة على تفسير الأنساق اللغوية الكامنة في تفاصيل المجتمع، مِمَّا يَدفع الفردَ إلى الشُّعورِ بالاغتراب، والعَجْزِ عن حَمْلِ تُراث الجَمَاعة التي ينتمي إلَيها، وعدم القُدرة على تحقيقِ أحلامها، ونقلِ هُويتها مِن الحاضر إلى المُستقبل.

لذلك، ينبغي على الفرد أن يَتَّخِذ مِن اللغة سلاحًا لحمايةِ المَعنى مِن الانكسار، وحِراسةِ التاريخ مِن الانهيار.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023