طنجرة الضغط .. قراءة في الموقف والإجراءات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً: استهلال:  

طنجرة الضغط؛ وسيلة الطبخ التي لم تكن كثيرٌ من بيوتنا تملك ترف امتلاكها، ولم تتوفر إلا لذوي الحال الميسور، والبيوت التي لا ينطفئ فيها تنور، بيت المختار أو كبير العائلة، وسيلة لم تكن تنزل عن رفوف المطابخ إلا عندما تكون قطع اللحمة كبيرة الحجم والسن (جاج عتاقي)، قيل أن الدهن (اقرأ الخبرة والجرأة والشجاعة والإقدام) فيها، عندها كانت أمهاتنا تستعين بتلك الوسيلة، علّها تنضج لحماً أوتذيب شحماً.

هذه هي "طنجرة الضغط" التي يضع عدونا مقاومينا فيها، فإن كان حجم هذه (الطنجرة) في الضفة الغربية صغيرة على مقاس شقة في بناية أو غرفة في مجمع سكني أو مغارة في جبل، فهي في غزة العزة بسعة ثلاثة مئة وستين كيلو متراً مربعاً، ينضغط فيها شعبنا وأهلنا حتى (النضج)؛ ثم تُفتح صمامات تلك (القِدر) حتى لا تنفجر وتتشظى فتحرق أخضر المحتل وأعوانه ووكلائه قبل يابسهم، وحيث أن ظرف نار (قِدْر) غزة وإجراءات عملها تختلف عن (طنجرة) الضفة لأسباب ذاتية وموضعية، وحيث أن أثر تلك (القِدْرِ) وضررها في الضفة أكبر وأكثر، ونراه بشكل يومي؛ فإننا سنخصص المقال هذا للحديث عن (طنجرة) الضفة الغربية، فنشخص الموقف، ونعرض للفكرة والهدف منها، ثم نتحدث عن إجراءات بناء وتشغيل هذه (القِدر)، ثم كيف يمكن أن تُنَفّس ويُحدث فيها ثقب أو ثقوب، فلا تجمع بخاراً ولا تضغط لحماً، علّنا نكون بذلك قد قدمنا فكرة تفيد،أو نصيحة تسعف، فيصدق فينا قول الشاعر:  

لا خيل عندك تهديها ولا مال ــــ فليسعف القول إن لم يسعف الحال


ثانياً: الموقف:

لجوء العدو الصهيوني في بعض أعمال "الأمن الجاري" التي يمارسها بشكل شبه يومي في مناطق الضفة الغربية إلى محاصرة الشخص المطلوب في بناية أو شقة حتى يستسلم أو يستشهد، بعد نفاذ ذخيرته أو وصول العدو إلى المكان الذي يتحصن فيه.


ثالثاً: فكرة المناورة:  

تتم محاصرة الهدف ثم يبدأ العدو تضييق الخناق عليه من الخارج باتجاه الداخل، وقضم المساحة التي لجأ إليها، عبر القصف والتدمير المتدرج، واستخدام وسائل الضغط النفسي من قبيل الاستعانة بأهل المطلوب للضغط عليه لتسليم نفسه، حتى تنفذ ذخيرة المحاصر؛ فيستسلم أو يُستشهد.  


رابعاً: الهدف:

يهدف إجراء " طنجرة الضغط " إلى إجبار الهدف على الاستسلام أو (التحييد) بأقل الخسائر.


خامساً: إجراءات التنفيذ:  

1. الإطباق المعلوماتي على الهدف: إن أول متطلبات هذا التكتيك هو الإطباق المعلوماتيّ على الهدف عبر استخدام الوسائل البشرية أو الالكترونية -رصد وتنصت وتتبع إلكتروني من خلال ما يستخدمه المقاوم من أجهزة وهواتف ذكية-، بحيث يتم تحديد مكان الهدف بشكل دقيق لا يرقى له الشك، فيعبّيء العدو قواته ويحشدها، ثم يبدأ بالتسلل إلى مكان العملية بشكل أمني مستعيناً بوسائل النقل المدنية وغيرالمدنية.

2. حشر الهدف في مكان يصعب فيه المناورة أو الحركة: يفرض العدو على الهدف حالة من الإرباك وعدم الاستقرار بحيث يلجئه إلى أفضل مكان يمكن أن يحاصره، فيه بحيث تنحصر مساحة تحرك الهدف في أفضل مكان يستطيع فيه العدو أن يمارس فيه تكتيك "طنجرة الضغط" فلا يستطيع أن ينفذ من حلقات حصاره التي ضربها عليه.

3. عمل حلقات حصار متعدد الطبقات على الهدف تبدأ من الخارج باتجاه الداخل: بعد أن يتأكد العدو من أن الهدف قد وصل إلى النقطة -شقة، بناية، مغارة،...- التي لا يمكن أن ينسحب منها؛ يبدأ ببناء حلقات حصارٍ متعدد الطبقات عليه، بدءاً من الخارج باتجاه الداخل، بحيث يحاصر الحيّ الكبير، ثم الشارع أو المربع السكني الذي تحصن فيه الهدف، ثم الشقة أو المنزل الذي لجأ له، محققاً بهذا التكتيك عدة أهداف، أهمها: وضع المقاوم في "طنجرة الضغط" التي تحرمه من التفكير المنظم الذي يساعده على تقدير الموقف والتعامل معه بشكل صحيح، ومن جهة أخرى يحرم المقاوم المتحصن من أن تصل له أية إمدادات أو دعم من الخارج لفك الحصار عنه.

4. السيطرة على الهدف بالنار والرؤية: بعد أن يُحكم العدو حلقات حصاره على الهدف؛ يسيطر على مكان تحصنه بالنار والرؤية، بحيث يحصره في أصغر بقعة جغرافية في المربع أو المنزل الذي تحصن فيه، تحقيقاً لهدفٍ نفسي وتعبوي، أما النفسي فهو حرمانه من التفكير المنظّم والتقدير السليم، وإشعاره أن لا مناص من التسليم أو القتل، أما الهدف التعبويّ الثاني فيتمثل في حرمانه حرية الحركة والمناورة التي تمكنه من منع حالة الإطباق الفيزيائي -الحصارالفعلي- الذي يحاول العدو تضييق حلقاته عليه، عبر قواته العاملة على الأرض، والتي تتقرب من المكان خطوة خطوة، كما أن العدو من خلال السيطرة على الهدف؛ يمنعه -المقاوم المحاصر- من محاولة منع العدو استخدام بعض وسائطه القتالية التي يشغلها لتضيق الحصار، و خنق المحاصر.

5. منع حدوث أي (تنفيس) في حلقات الحصار عبر السيطرة النارية على المكان: بعد أن يشد العدو طوق حصاره على المقاوم المتحصن؛ يمارس ما يستطيع من طرق العمل التي تحرم الهدف من إحداث أي (تنفيس) في جدار تلك (القِدر) التي وضعه فيها، فيسدّ جميع منافذ الهروب، من أبواب وشبابيك ومناور أو طَلّاقات هواء، وصولاً إلى بعض الطرق المتصور الخروج منها، في حال كانت معابر الوصول للمكان تتشكل من الزقاق والشوارع المحيطة بمكان استقرار الهدف.

6. بدء عملية (التسخين) بالوسائل الخشنة من نار وعمليات القضم الهندسي للمحيط أو الطرق الناعمة عبر استدعاء الأهل إلى بؤرة العمليات: ثم تبدأ بعد ذلك عملية (إشعال) النار تحت الهدف وتسخين المحيط الذي تحصن فيه، تسخيناً تستخدم فيه كل وسائل النار التي جُلبت إلى مكان العملية، ولا يسقط العدو من تلك الوسائل الناعمة منها، فيجلب الأب والأم وحتى الزوجة والأولاد للضغط على المحاصَر وطلب تسليم نفسه، كما لا يسقط العدو من طرق عمله ما  يستخدمه من الضغط غير المباشر على الهدف، عبر التهديد بضرب المحيط السكني والمدني الذي يتحصن فيه المقاوم، فيقع بين حجري رحى وفكي كماشة، أحدها ذاته وأهله ومن يعول، والأخرى المحيط الذي لا يريد أن يسبب له الأذى والضرر.

هذه بعض الإجراءات التي يقوم بها العدو لصناعة "طنجرة ضغطه" التي يريد أن (ينضج) المقاوم فيها، فيستسلم أو يستشهد.

أمام هذا "الموقف" هناك بعض الإجراءات التي تساعد على تنفيس "قِدر" الضغط هذه، نأتي على بعضها في العنوان الآتي:


سادساً: إجراءات التنفيس:  

1. التفوق المعلوماتي الظرفي على العدو: عبر السيطرة المعلوماتية على محيط العمل، ومعرفة كل شاردة وواردة عنه، والتقليل من استخدام وسائط الاتصال الحديثة، والتقليل من الظهور الإعلامي والمجتمعي، يجب أن يستشعر المقاوم أنه يواجه آلة حرب تحصي على المقاومين أنفاسهم، وتتغذى على ما نقدمه لها من معلومات، عبر الهواتف والصور والاستعراضات ووسائل التواصل الاجتماعي، على المقاوم إن لم يكن قادراً على التنصت على عدوه وجمع معلومات عنه؛ عليه على أقل تقدير حرمانه من جمع ما نتركه خلفنا من "فتات" المعلومات التي يصنع منها العدو طبقاً ناضجاً، وجدران (قِدره) التي يريد وضعنا فيها.

2. اختيار المأوى بعناية: إن من أهم الإجراءات التي تفشل عمل العدو، وتمنعه من وضعنا في حيز ضيق (يطبخنا) فيه على نار هادئة؛ أن نختار مكان استقرارنا وتموضعنا ولجوئنا، والذي تتوفر بعض المواصفات الآتية:  

 يصعب حصاره: يجب البحث عن المكان الذي لا يمكن للعدو أن يحاصره، أو أن  يضيق عليه حلقات ضغطه، فلا نلجأ إلى بيت أو شقة أو مغارة أو... تسهل محاصرتها بأقل الإجراءات، وهذا أمر يتطلب معلومات وجهد بحثي قبل أن يقرر المقاوم، أو الجهة التي تقدم له الخدمات، أن ينتقل إلى المكان أو الجغرافيا التي يظن أنها ستشكل له مأوى مناسب.

 يمكن الخروج منه بسهولة إلى الفضاء الأوسع: كما يجب أن يراعي المقاوم أو الجهة المسؤولة عن تنقلاته والتي تؤمن له الإسناد والدعم المدني، يجب أن تراعي مسألة سهولة الخروج من المكان الذي تموضع فيه المجاهد في حال فكر العدو بمحاصرته، فلا يطبق عليه العدو في مكان يستحيل الخروج منه قبل إحكام حلقات الحصار عليه، أو بعد أن تغلق تلك الحلقات، تخيل مثلاً أن المقاوم في شقة في بناية في الأدوار العليا منها؛ كيف له أن يخرج ويتخلص من الحصار في حال تمت محاصرته أو الإطباق عليه؟ وعلى هذا فَقِس.

 يمتلك أكثر من مدخل ومخرج: ويقع على عاتق جهة تأمين الأماكن الآمنة للمطاردين والمقاومين أن تختار المكان الذي تتوفر فيه عدة مخارج ومداخل؛ هذا على صعيد الحيز الصغير -الشقة أو البناية- أما على الصعيد الكبير، فيجب أن تتوفر للحيّ أو الحارة التي لجأ لها المقاوم عدة طرق وممرات موصله لها ومخرجة منها، ولا يجب اللجوء إلى الأماكن أو المساكن التي لا تملك إلا شارعاً أو زاروباً واحداً إن أغلق؛ سُدت كل المنافذ وأطبقت حلقات الحصار.

 سهولة فتح مخرج عند الضرورة: وعند الاستقرار في المكان، على المقاوم وجهة دعمه أن تبحث عن أسهل موضع في المكان يمكن معه أن تُحدِث فيه ثغرة أو مخرجاً يُستخدم عند الطوارئ، وأن تحضر أدوات العمل وعدة الشغل التي تساعد في فتح مثل هذه الثغرات، وتوضع في متناول اليد، فتستخدم عند الحاجة، فيحدث تنفيس في "طنجرة الضغط" الذي يظن العدو أنه أحكم ضغطها وأحسن تسكير أقفالها.

 تجهيز مخرج طوارئ بشكل مسبق: كما يجب أن يتم عمل مخرجٍ للطوارئ، يُعمل على تجهيزه بشكل هادئ، فإن كان أسرى السجون يحفرون أنفاقاً للخروج من سجونهم وهم لا يملكون كثيراً من أدوات الفعل وعدة الشغل؛ فمن باب أولى وأوجب أن يعمد المقاوم إلى صناعة ممره السري للخروج إلى العالم الخارجي إن هو حوصر أو (ضغط)، خاصة إن كانت مدة إقامته في المكان واختفائه فيه قد طالت أو ستطول.

3. فتح صمام أمان " طنجرة الضغط ": فإن شعر المقاوم أو المجاهد أنه قد حوصر أو على وشك الدخول في تلك (الطنجرة) فما عليه إلا أن يفتح صمامها ويحدث ثقباً في جدارها عبر إجراءات معدة سابقاً، من قبيل ممر أرضيّ أو تنفسي جانبي، أو عبر إجراءاتٍ آنيّة ككسر حائط في غرفة أو جدار في شقة، أو حبل ينزل به من علٍ، أو سلّم يوصله إلى سقفٍ استُطلع مسبقاً وأعدّ ليكون مخرجاً، أو مرتقىً يسيطر فيه على الموقف، ويمكّنه من الخروج من ضيق الحصار إلى سعة الفضاء، ليستطيع المقاوم التفكير المنظم بعد أن يتحرر من ضغط الموقف الذي يريد أن يضعه عدوه فيه، فيخرج من مخمصة ليس لها من دون الله كاشفة.

هذه أيضاً بعض الأفكار التي تساعد على فتح أفق التفكير للتخلص من الموقف الذي يريدنا عدوّنا أن نكون فيه، ويحرمنا من أهم ميزة يمكن أن تشكل عامل توازن بين قدراتنا المتواضعة، وقدراته غير المحدودة بحدّ، عنينا بالميزة؛ ميزة التفكير الهاديء المنظّم .

نختم هذه المقالة بتوصياتٍ سريعة، تشكل مفاتح الفكاك من لعنة " طنجرة الضغط " تلك، فنقول أن أهم التوصيات للتخلص من تلك القِدر:  

1. لا تدخل نفسك فيها.  

2. لا تدع أحداً يدخلك فيها.  

3. إن كان لا مناص من الدخول فيها؛ فأحدِث ثقباً فيها.  

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  

عبد الله أمين  

05 09 2022

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023