المملكة البريطانية هي أعظم وأعرق الممالك على وجه الأرض، والبرلمان البريطاني هو البرلمان الأول الذي تشكل في العالم ليكرس تمثيل الشعب في الحكم إلى جوار الملك، ولقد بدأت أولى مراحل العملية الديمقراطية في بريطانيا منذ عام 1215 عندما أُجبر الملك جون على توقيع ما عرف "بالماغنا كارتا أو الميثاق العظيم" الذي تقلصت فيه صلاحيات الملك، وبعدها استمرت الإصلاحات في النظام الملكي البريطاني حيث سن البرلمان البريطاني وثيقة الحقوق لعام 1689 ثم قانون التسوية 1701 حيث شكلت هذه التشريعات مجتمعة أهم الوثائق للدستور البريطاني غير المكتوب، وحولت ميزان القوى من السيادة الملكية إلى البرلمان وصولاً إلى الملكية الدستورية البرلمانية حيث تقلصت صلاحيات الملك التنفيذية إلى أقصى حد وبقيت في إطار العمل البروتوكولي.
يُعد الملك في بريطانيا (حاليًا إليزابيث الثانية)، رأس الدولة والسيادة، إلا أنه ليس رئيس الحكومة، لا يقوم الملك بدور مباشر يُذكر في حكم البلاد ويظل مُحايدًا في الشؤون السياسية، ومع ذلك، فإن سلطة الدولة المخولة للملك، والمعروفة باسم التاج، تظل مصدر السلطة التنفيذية التي تمارسها الحكومة.
على الرغم من الصلاحيات الرسمية التي تعرف "بالامتياز الملكي" التي بقيت بيد الملك شكلا، ولكنها عمليا بيد رئيس الحكومة والوزراء وذلك وفقا لما نشرته الحكومة البريطانية عام 2003 لم يحدث أن تدخل الملك بشكل مباشر في السلطة التنفيذية أو التشريعية منذ عهد الملكة آن عام 1708م.
مر على بريطانيا 114 رئيس وزراء قبل أن يعلن عن فوز "ليز تراس" رئيسة جديدة للوزراء في بريطانيا بعد شهر واحد من استقالة بوريس جونسون، وهي ثالث امرأة تتولى هذا المنصب بعد كل من "مارغريت تاتشر" "وتربزا ماي".
رئاسة الوزراء في بريطانيا وهو المنصب التنفيذي الأعلى الذي يتولاه السياسيون البريطانيون بعد معارك انتخابية طاحنة ومرهقة تبدأ بالانتخابات الحزبية الداخلية ومن ثم الانتخابات العامة؛ ليتمكن الحزب الفائز من الحكم لمدة خمس سنوات وفقاً للتعديل الدستوري الذي تم في عام 2011، ووفقاً للعرف الدستوري البريطاني تكلف الملكة أحد أعضاء البرلمان الذي يمكن له أن يحظى بثقة البرلمان بتشكيل الحكومة وليس شرطاً أن يكون من حزب الأغلبية إذا أن التكليف لا يتم على أساس حزبي ولكن جرى العرف الدستوري على أن يُكلف زعيم الأغلبية بهذا المنصب.
العدد الكبير للأشخاص الذين تبوؤا منصب رئيس وزراء بريطانيا العظمى يدل بشكل واضح أن زعامة الحزب التي تتولد عنها رئاسة الحكومة هي زعامة وظيفية وليست زعامة أبوية، أي أن الزعيم الذي ينتخب لقيادة الحزب ومن ثم رئاسة الحكومة يحظى بالزعامة بناءً على برنامج يقدم للناخبين ومن ثم يفاضل أعضاء الحزب بين البرامج والأشخاص ليختاروا من يتوسمون فيه القدرة على قيادة الحزب والدولة نحو تحقيق الأهداف والبرامج التي تهدف إلى الارتقاء بالدولة وتحقيق الرفاهية للمواطن.
وفي حال فشل زعيم الحزب في تحقيق الأهداف المعلن عنها أو فقدان التأييد من أعضاء الحزب أو ارتكاب أخطاء أثناء رئاسته للحكومة والحزب فإن بقائه على سدة الحكم يصبح محل نظر وغالباً ما تؤدي تلك الأمور إلى فقدان المنصب، وهذا ما حدث مع الرئيسين السابقين للحكومة البريطانية على الأقل "فتريزا ماي" اضطرت إلى تقديم استقالتها بعد ثلاث سنوات من توليها عندما فشلت في إقناع نواب حزبها بخطة الخروج من الاتحاد الأوروبي التي عرضتها على مجلس العموم، فتركت منصبها لخليفتها "بوريس جونسون" الذي اضطر إلى تقديم استقالته هو الآخر بعد ثلاث سنوات من توليه المنصب بسبب تجاوزه بعض القوانين التي فرضتها حكومته على المواطنين البريطانيين أثناء تفشي مرض كورنا بالتباعد الجسدي، وذلك عندما أقام حفلة شاي مع عشرين عضواً من حكومته في الساحة الخلفية لمقر رئاسة الوزراء لمدة 20 دقيقة إضافة إلى بعض التجاوزات الأخلاقية من قبل اثنين من وزرائه.
بالأمس أعلن عن فوز "ليز تراس" ذات الـ 47 عاماً برئاسة حزب المحافظين الحاكم ووفقاً للتقليد الملكي توجهت إلى مقر إقامة الملكة لتكلفها الأخيرة برئاسة الوزراء خلفاً لسلفها "بوريس جونسون".
ما يثير الإعجاب في المملكة البريطانية هو سهولة تخلي رئيس الحزب ورئيس الحكومة عن المنصب ولأسباب نراها نحن في العالم العربي أسباب بسيطة أو تافهة، وربما ينبع هذا الاعتقاد من رسوخ مشاهد دموية في الذاكرة الجمعية العربية لعلميات انتقال السلطة في دول العالم العربي وما صاحبها من دمار كبير للبلدان العربية وتشريد الملايين ناهيك عن قتل الألاف بسبب التشبث بالسلطة، وهذا الأمر يشي بشكل واضح أن السلطة في العالم العربي سلطة مغنم رغم أن كل من تولوا السلطة يرفعون شعار الزهد فيها...