سئمنا الحديث عن المصالحة.. ولكننا سنتحدث
بقلم المستشار/ أسامة سعد
ربما من أكثر القضايا الفلسطينية إثارةً للضجر والسخرية بين أفراد المجتمع الفلسطيني هي قضية المصالحة، تلك القضية الوطنية الكبرى التي أصبحت على أهميتها لا تلقى اهتمامًا من المواطن الفلسطيني إلا بعضًا من السخرية أو التهكم أو اللامبالاة، ذلك أن تَكرار الحديث فيها واللقاءات والمشاورات والتنقل بين العواصم دون فائدة جعل المواطن الفلسطيني لا يلقي بالًا لكل ما يدور في أروقة السياسة بشأن قضية المصالحة، فأصبحت قضية باهتة مضجرة ومملة.
وعلى الرغم من ذلك أجد نفسي مضطرًا إلى الحديث عن هذه المسألة المصيرية وطنيًّا المضجِرة شعبيًا فأقول : كثير ممن يتحدثون حديث المصالحة يكررون عبارة أن الشيطان يكمن في التفاصيل ، لذلك عند الخوض في التفاصيل يحدث الخلاف رغم الاتفاق على القضايا العامة والخطوط الأساسية للمصالحة ، أما أنا فأخالفهم الرأي فوجهة نظري أن اتفاقات المصالحة كلها لم تتناول القضايا العامة أصلًا، فأثّر ذلك كله في التفاصيل ولأوضِّح ذلك أقول إن كل اتفاقات المصالحة التي عُقدت فيما سبق كانت تنص على بعض الإجراءات التي يجب على كل طرف من الأطراف التزامها، فيتفق مثلاً على تشكيل حكومة سواء كانت وطنية أو تكنوقراطية حسب الاتفاق، ثم النظر في قضية تحديد موعد للانتخابات، ثم النظر في قضية الموظفين سواء العـسكريين أو المدنيين وتشكيل لجان لبحث هذه القضايا ثم عند التنفيذ يتضح أن كل طرف فهم بنود الاتفاق فهمًا يختلف عن الطرف الآخر، لذلك كانت الأطراف تفشل في تنفيذ ما اتفقوا عليه ويلقي كل طرف اللوم على الآخر حسب وجهة نظره ، ولست في وارد لتحليل موقف كل طرف الآن .
وربما كان الأطراف يحرصون على إرضاء راعي المصالحة، فيُبدون موافقةً شكلية على كثير من الأمور التي يرفضونها في قرارة أنفسهم، ثم لا يلبث هذا الرفض أن يجد سبيله للخروج في شكل عقبات عند التنفيذ تحول دون إتمام المصالحة.
وحتى أكون واضحًا أكثر فإن كل طرف يسعى إلى أن يحقق من اتفاق المصلحة هدفًا يتعارض تمامًا مع هدف الطرف الآخر، وقاعدة هذه المشكلة الوطنية أن عقلية التفرد والإقصاء ما زالت هي الحاكمة والمسيطرة إذ أزعم أن الفصائل والقوى الفلسطينية لم تصل بعد إلى حالة من التعايش الديمقراطي تعبر عن قبول الآخر مهما كان مختلفاً في برامجه ومعتقداته السياسية والفكرية، فالفصيل الذي يحكم يسعى لاستئصال المعارضة والعكس صحيح، لذلك تكون اتفاقات المصالحة شكلية دون مضمون فتفشل عند أول عقبة تعترضها.
لذلك أرى حسب وجهة نظري المتواضعة أن الانقسام الفلسطيني ليس انقسامًا إداريًّا يُعالَج بإجراءات تهدف إلى توحيد مؤسسات الدولة، ولكنه انقسام فكري أيديولوجي سبَّب شرخًا في مفهوم العمل الوطني؛ الأمر الذي ظهرت آثاره في انقسام المؤسسات وتعطيل السلطات وغياب الحياة الدستورية التي تحكم عمل أي دولة في العالم، وبالمناسبة لسنا -الشعب فلسطيني- أول من يعاني هذه المشكلة؛ فقد سبقنا عدد من الدول والشعوب لمثل هذه الحالة، بعضها استطاع التغلب على هذه المعضلة وبعضها الآخر ما زال يعانيها. ومثل الحالة الأولى ألمانيا التي توحدت في عام 1990 بعد سقوط جدار برلين، إذ كانت ألمانيتين إحداهما غربية والأخرى شرقية، أما الغربية فكانت تتبع الفكر والمعسكر الغربي الرأسمالي، في حين أن الشرقية كانت تتبع الفكر والمعسكر الاشتراكي، وهذا ما أدى إلى انقسام لما يزيد على 46 عامًا.
أما الحالة الثانية، فمثالها كوريا التي ما زالت منقسمة منذ عام 1945 بعد انسحاب قوات الاتحاد السوفيتي من الجزء الشمالي منها، وكذلك قوات الولايات المتحدة من الجزء الجنوبي منها، بعد أن قررت كل قوة من القوتين العُظميين إقامة حكومة موالية لها أيديولوجيا وسياسيا، وما زالت الحكومتان في صراع مستمر منذ ذلك الوقت، وما زالت الجزيرة منقسمة حتى اللحظة.
إذن الشعب الفلسطيني أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن يتغلب على الانقسام كما فعل الألمان عام 1990، وإما استمرار الانقسام إلى ما شاء الله، مثلما هو حادث في الجزيرة الكورية، ولا يمكن أن تفلح مساعي المصالحة إذا لم تبحث في أصل المشكلة، وهي الخلاف الأيديولوجي السياسي في النظر إلى القضية الوطنية الكبرى، وهي قضية الاحتلال، الأمر الذي يستوجب الاتفاق بشكل أساسي ومبدئي على برنامج وطني عام يُخاطب به العالم والإقليم وكذلك الاحتلال، ومن ثم تصبح القضايا الإجرائية بعد ذلك سهلة حتى لو كانت كل شياطين الأرض تكمن في تفاصيلها.
أما القفز عن هذه الحقيقة والذهاب نحو قشور حلول فاشلة مكررة فهي وصفة سحرية لبقاء الانقسام قائمًا.
كنت آمل من الجزائر أن تسعى إلى إقناع الأطراف بالاتفاق على البرنامج الوطني الذي يلبي الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين الفصائل…