ليلية كسوف الشمس الفلسطيني غابت فيها ستة أقمار عن سماء الوطن، ولكن متى كانت الأقمار تغيب إلى الأبد فما إن تغيب الٌأقمار حتى تبزغ من جديد أشد نوراً وأكثر بهاءً.
عرين الأسود في نابلس لم تكن حالة عابرة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني الممتد منذ مائة عام، ولكنها حالة فداء ذابت تفاصيلها في عشق الوطن فلامست شغاف قلوب أبناء شعبنا، الشباب الفلسطيني الثائر الذي لفظ الحزبية في نابلس وانطلق ليقاتل العـدو موحداً اجترع معادلة جديدة حطمت نظريات العدو الأمنية التي صاغتها عقول خبراء الأمن الاستراتيجي، تلك النظريات التي اعتمدت أساساً على بث الفرقة بين مكونات الشعب الفلسطيني، فكان هذا العرين الذي تأسس في جبل النار حالة ملهمة علَّمت ساسة فلسطين درساً في المقاومة، وقبل ذلك درساً في الوحدة الوطنية التي فشل السياسيون في تحقيقها منذ خمسة عشرا عاماً مضت.
عرين الأسود صاغت الوحدة بالدم الذي امتزج على تراب الوطن ولم تفرقه النزعة الفصائلية المقيتة التي أنهكت الشعب الفلسطيني ومزقت نسيجه الاجتماعي، عرين الأسود ما هم إلا شباب في العشرينيات من العمر، لكنهم امتلكوا جرأة الشباب وحكمة الشيوخ؛ فعقدوا عروة الوحدة الوثقى التي أعجزت شيوخ السياسيين الذين ادعوا الحنكة والحكمة ففشلوا المرة تلو المرة في تحقيق الوحدة الوطنية، حتى تجلت مأساة اتفاقيات المصالحة بأبشع صورها في عقول الفلسطينيين.
شباب نابلس جعلوا من الوطن عريناً وجعلوا من أنفسهم أسوداً، والأسود لا تجيد إلا الانقضاض، فهي لا تراوغ ولا تساوم ولا تتراجع ولا تقبل الهزيمة، تلعق جراحها النازفة، ثم تقف بعزة وكبرياء لترصد العدو وتلاحقه من جديد، ولا تفرقهما مؤامرات الثعالب، ولذلك أصبح عرين الأسود قبلة الثوار التي ذابت فيها الفصائلية والفئوية المقيتة، وحازت رضى الشعب الفلسطيني وتقديره واحترامه وحبه، هذه التجربة الشبابية الخلاقة الإبداعية لهى أجدر بالإتباع من قبل الساسة الذين تفرقت بهم السبل وكادت أقدامهم تزل بعد ثبوتها، فأصبح لزاماً عليهم أن يلزموا درب عرين الأسود، فالوطن بأمس الحاجة إلى عرين أسود سياسي تذوب فيه القبيلة الحزبية والفصائلية ويعلو فيه شأن الوطن.
وإنني أدعوا منذ اللحظة لأن تبدأ النخب السياسية، والإعلامية، والمثقفين، والحقوقيين، وكل من أحب فلسطين، بالتجمع تحت راية واحدة ورؤية واحدة بعيداً عن كل تعقيدات الحياة الحزبية والفصائلية؛ ليشكلوا معاَ وسوياً عريناً سياسياً مرادفاً للعرين العسكري، وأظن أن هذه الفكرة ستحظى بترحيب أبناء شعبنا بكافه أطيافه وتوجهاته، بل ستعيد لشعبنا اللحمة الوطنية الشعبية الغائبة منذ الانتفاضة الشعبية الأولى التي انطلقت شعبية فعبرت عن التلاحم الوطني الفلسطيني في أبهى صورة.
ودعوني أقولها وبالفم الملآن أن شباب فلسطين سبقوا شيوخها، ولطالما كان لشباب فلسطين فضل السبق، فلقد بدأت الثـورة الفلسطينية المعاصرة بجيل من الشباب الذين قادوا العمل الوطني حينما فشل الساسة الذين عاصروا النكبة في قيادة الشعب الفلسطيني لتحقيق حريته واستقلاله وفرقتهم الحزبية والعائلية وتنازعهم الفئوية، وكان لهذه الُفرقة دور معزز للمؤامرة الاستعمارية التي نسجتها القوى الكبرى وما زالت تمسك بخيوطها حتى الان، وكان للشباب فضل السبق في قيادة الانتفاضة الأولى بعد أن ظن العـدو واهماً أنه قضى على الثـورة الفلسطينية بإخراجها من لبنان، وكان للشباب أفضل السبق مرة أخرى في إطلاق الانتفاضة الثانية، حينما توهم العـدو أنه سلب الشعب الفلسطيني إرادة القتال بعد كارثة أوسلو.
وها هو الشباب الفلسطيني يعود للسبق مرة أخرى بتشكيل عرين الأسود في جبل النار ولسان حاله يقول: لن تفرقنا السياسة لأن فرقة الساسة هي الوصفة السحرية لتمرير المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية، ولذلك أصبح عرين الأسود عريناً للوطن وتعزيزه ودعمه وإسناده مصلحة وطنية كبرى تحمى الحلم الفلسطيني من الضياع، وتحمى الأمل الذي عاشت عليه أجيال مرت بهم السنين الطوال وهم يتشبثون بمفاتيح العـودة، فلا أقل من أن يلتحق الساسة بالثوار في طريق الوحدة إكراما للدماء التي نزفت واحتراما للأرواح التي ارتقت موحدة.
الوطن اليوم كله توحد خلف شـهداء عرين الأسود فلا تتفرقوا من بعدهم مرة أخرى، ولتتشرق شمس الوحدة لتبدد غيوم الانقــسـام التي تلبدت في سماء الوطن.
غزة في 26/10/2022م