بالرغم من أن ما يصدر عن الأمم المتحدة بكل هيئاتها، من قرارات وتوصيات وتقارير لجان تحقيق خاصة بالقضية الفلسطينية غير ملزمة، بمعنى: "أنه لا يلتزم بها الكيان الصهيوني، ولا تتوفر آلية دولية لفرضها، تبقى الأمم المتحدة منصة أو فضاء دولي مفتوح لطرح المظلومية الفلسطينية والتواصل مع قادة العالم، كما أن قراراتها وتوصياتها تساعد على كشف زيف الرواية الصهيونية، وتؤثر -ولو نسبياً- على الرأي العام العالمي.
ولكن من الخطورة بمكان رهن القضية الفلسطينية بالأمم المتحدة وقراراتها، أو بمحكمة الجنايات الدولية وتحقيقاتها، فهذه كلها عوامل مساعدة، والأصل ما يجري على الأرض من نضالات الشعب لاستعادة حقوقه المشروعة، وهناك علاقة طردية ما بين فعالية وقوة النضال الوطني وتأثيره على الأمن والاستقرار في المنطقة من جانب، ودرجة الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، وقوة وفعالية القرارات الدولية من جانب آخر.
الأمم المتحدة أصدرت عديد القرارات والتوصيات لصالح الشعب الفلسطيني، ولكنها لن تقاتل نيابة عن الفلسطينيين أو الى جانبهم لاستعادة حقوقهم، سواء بسبب ضعفها، أو ازدواج المعايير عندها، أو لهيمنة واشنطن عليها، كما أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه محكمة الجنايات الدولية من قرارات هو طلب مسؤولين إسرائيليين لمحاكمتهم على جرائم تم ارتكابها بحق الفلسطينيين، ونضيف إلى ما سبق، أن بعض القرارات والتوصيات والتقارير الدولية حمالة أوجه، إن كان الطرف الفلسطيني يفسرها كإنجاز وانتصار للحق الفلسطيني فقد تفسرها "إسرائيل" عكس ذلك، أو تحوِّر وتؤول معناها، وأحيانا تكون القرارات ملتبسة وتزيد من خلط الأوراق، والأخطر من ذلك أن تكون أطراف أو جهات نافذة في الأمم المتحدة تلجأ لتوظيف قرارات وتوصيات وتقارير مكررة، وأحياناً أقل فاعلية من سابقاتها؛ للتهرب من ممارسة مسؤوليتها بإجبار "إسرائيل" على تنفيذ القرارات السابقة، بمعنى أن تكرار صدور قرارات وتوصيات وتشكيل لجان تحقيق هو نوع من التسويف ومحاولة تسكين الأوضاع عندما تكون الأمور متوترة في الأراضي المحتلة، بينما الوضع الصحيح في التعامل مع صراع ممتد منذ عام 1947 أن تصدر المنظمة قرارات ملزمة كما فعلت في حالات صراع دولية كالعراق وأوكرانيا مثلاً.
رجوعنا للحديث عن الأمم المتحدة والشرعية الدولية هو التقرير الأخير للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ففي أعقاب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو العام الماضي شكل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لجنة تحقيق دولية مستقلة تابعة للأمم المتحدة، وفي 21 أكتوبر الجاري صدر تقرير اللجنة والذي جاء في 28 صفحة، وخلُص التقرير إلى: "وجود أسباب معقولة تدعو للاستنتاج أن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية بات غير قانونياً بموجب القانون الدولي، نظراً لاستمراره وسياسات الحكومة الإسرائيلية للضم بحكم الأمر الواقع".
ودعت اللجنة الجمعية العامة إلى إحالة طلبٍ عاجل إلى محكمة العدل الدولية لتقديم فتوى بشأن الآثار القانونية الناشئة عن استمرار "إسرائيل" برفضها لإنهاء احتلالها للأرض الفلسطينية المحتلّة".
هذا التقرير وجد ترحيباً من جهات عديدة عربية وفلسطينية منها وزير الخارجية والمغتربين الفلسطيني رياض المالكي، حيث أشار إلى أهمية ما خلصت إليه اللجنة "من وجود أسباب معقولة تدعو للاستنتاج أن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية بات غير قانوني"، وإلى "أهمية دعوة اللجنة لإصدار قرار عاجل يطلب من محكمة العدل الدولية تقديم فتوى بشأن الآثار القانونية الناشئة عن استمرار رفض "إسرائيل"، السلطة القائمة بالاحتلال، إنهاء احتلالها غير القانوني للأرض الفلسطينية المحتلة".
وهنا نتساءل: هل يوجد احتلال قانوني واحتلال غير قانوني؟ وهل كان الاحتلال الإسرائيلي قانونياً قبل صدور تقرير اللجنة؟ أليس إعادة القضية للجمعية العامة للأمم المتحدة مجدداً لتقرر في الأمر وإحالة الموضوع لمحكمة العدل الدولية يثير التساؤل عن جدوى هذه التوصية؟
نطرح هذه التساؤلات لأن التقرير يتجاهل عشرات القرارات الدولية السابقة الصادرة من مجلس الأمن والجمعية العامة، والتي تتعامل مع الضفة وغزة والقدس كأراضي محتلة، وهنا نذكر بقراري مجلس الأمن 242 و 338 اللذين يطالبان "إسرائيل" بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، كما أن كل مشاريع التسوية كانت لإنهاء الصراع الناتج عن الاحتلال الإسرائيلي، كما يتجاهل التقرير أن فلسطين (الأراضي الفلسطينية المحتلة) عضو في عديد المنظمات الدولية، حتى "إسرائيل" كانت تعترف بأنها تحتل الضفة وغزة، ولكنها كانت تبرر احتلالها باعتبارات أمنية، وفي سياق حقها بالدفاع عن النفس، كما تزعم و لم يتغير موقفها إلا مع وصول الأحزاب اليمينية للحكم، وأن تعود لجنة دولية لتطالب بإحالة الموضوع للجمعية العامة للأمم المتحدة للبحث في قانونية أو عدم قانونية الاحتلال أمر مثير للقلق، وخصوصاً أن الجمعية العامة نفسها أصدرت عديد القرارات التي تؤكد أن "إسرائيل" تحتل الأراضي الفلسطينية والجولان السورية بعد حرب 1967، والجمعية العامة نفسها اعترفت بغالبية أصوات أعضائها بدولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة!!.
أما الطلب بإحالة الأمر لمحكمة العدل الدولية لإصدار فتوى عن الآثار القانونية المترتبة عن الاحتلال، فنذكر أيضاً بالرأي الاستشاري الصادر عن المحكمة يوم الثالث من ديسمبر 2003 حول بناء الجدار العنصري، وكان رأي المحكمة من أفضل المرافعات القانونية، حيث أكد على عدم شرعية بناء الجدار لأن الأراضي الفلسطينية تخضع للاحتلال، ولكن هذا الرأي الاستشاري بقي حبيس أدراج المحكمة.
مع تقديرنا واحترامنا لقضاة لجنة التحقيق وهيئة الأمم المتحدة، فإن طلب إعادة طرح مسألة قانونية أو عدم قانونية الاحتلال فيه تنّكُر لقرارات سابقة تؤكد عدم شرعية الاحتلال، كما أن طرح الموضوع على الجمعية العامة الآن في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية والعربية وحالة التطبيع العربي فيه مجازفة كبيرة، وكان من الأفضل التأكيد والعمل على تطبيق القرارات الدولية السابقة.