حرب الاستنزاف .. قراءة في المتطلبات والإجراءات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

حرب الاستنزاف 

قراءة في المتطلبات والإجراءات 

أولاً: التعريف بالمصطلح: 

لنخرج من خلاف المصطلحات، وتعدد التعريفات؛ رأينا أن نبدأ هذه الورقة بتعريف مصطلح "حرب الاستنزاف "، لاعتبار ما ينبني على هذا التحديد من إجراءات، وكون منبع الخلافات يأتي بالعادة من عدم الاتفاق على تعريف المصطلحات وضبطها، وحيث أننا لا نريد الحديث عن أصل الحرب وتعاريفها وأصولها، ولا عن أهدافها الكلية وغاياتها النهائية ــ حتى لا يطول بنا المقام  ويُنسي آخر الكلام أوله ــ رأينا أن نعرّف هذا المصطلح تعريفاً سريعاً مستوحاً ومشتقاً من صفتها ـ الحرب ـ الاستنزافية؛ فـ " حرب الاستنزاف " أو "معارك الاستنزاف " هي نوعٌ من أنواع القتال الذي تدور رحاها بين خصمين أو عدوين لا يريد، أو لا يملك، أو لا تساعد الظروف الداخلية والإقليمية والدولية أي منهما، أو كليهما على حسم المعركة لصالحه، وختمها كما يريد ويرغب، فيعمدان إلى إبقاء جذوة نار المعارك غير منطفئة، حتى لا ينتهى النزاع أو الصراع لغير صالح أي منها، كما أنهما يحرصان على عدم اشتداد أوار هذه الحرب أو تلك المعارك لتحرق أخضرها قبل اليابس، لذلك تبقى المناوشات والمناورات والتعرضات مضبوطة ضمن سقف (لا يموت الذيب ولا تفنى الغنمات)، هذا باختصار شديد ودون الدخول في أي تعقيد لتعريف مصطلح "حرب الاستنزاف"، وحيث أننا نتحدث عن المقاومة وكيف تحول حربها إلى حرب استنزاف لعدوها؛ فتبقي جروحه مفتوحة وغير ملتئمة، وتنزف دماً، وتفقده صحته، فــ (تلتهب) تلك الجروح المفتوحة؛ مؤثرة على سائر البدن بالسهر والحمى، لأجل ذلك جاءت هذه الورقة التي ستتحدث عن " حرب الاستنزاف " بناءً على العنوان التالية: 

ثانياً: هدف المقاومة:

تُختصر الأهداف التعبوية التي تحرص المقاومة على ترتيب أولوياتها وتخصيص قدراتها من أجل تحقيقها والوصول لها، بالآتي: 

  1. إيقاع أكبر كم من الخسائر البشرية والمادية في المحتل.
  2. فرض حالة من عدم الاستقرار على العدو.
  3. فرض حالة من الاستنفار الدائم عليه.
  4. بناء معادلة رعب مع المحتل.
  5. تحرير الأرض والإنسان.

هذه هي أهداف المقاومة باختصار، ودون الإسهاب في التفاصيل والخوض في الإجراءات، كوننا تحدثنا عن هذه الغايات في كثير من الأوراق والمقالات، ذكرنا هذه الأهداف في سياق هذه المقالة لأن في التمعن فيها والتدقيق في نتائجها إن هي تحققت؛ يوصل إلى فرض حالة من الاستنزاف على العدو؛ استنزاف في القدرات البشرية والمادية والنفسية، تفضي في نهايتها إلى إبقاء جرح الاحتلال دام غير ملتئم، معرضاً لكل أنواع الميكروبات الحشرات التي ستقضي عليه نهائياً، بقضائها على بعض أجزائه مرحلياً. 

ثالثاً: مهمة حرب الاستنزاف وأهدافها: 

بناء على ما تقدم فإن المهمة الرئيسية لـ " حرب الاستنزاف "وباختصار شديد هي جعل جروح العدو نازفة غير ملتئمة أو متماثلة للشفاء، معرضة للهواء (اقرأ ضربات المقاومة) بحيث لا تبرأ ولا تتعافى. أما عن الأهداف الجزئية لهذا النوع من المعارك والحروب؛ فيمكن التحدث مطولاً، ولكن سنختصر التحديث بذكر أهم هذه الأهداف وهي على النحو الآتي: 

  1. إبقاء جراح العدو نازفة غير ملتئمة: إن أول أهداف " حرب الاستنزاف " هو إبقاء جراح العدو نازفة تسيل منها الدماء، الأمر الذي يستنزف منه القدرات والأوقات، ويخرجه من حالة الهدوء المطلوبة للتفكير المنظم الذي يعد الركيزة الأساسية لمواجهة إجراءات المقاومة وأعمالها.
  2. منع وصول أسباب الشفاء والتعافي له: ومن الأهداف التي تسعى لتحقيقها " حرب الاستنزاف" ما يمكن أن يعبر عنه بقطع سلاسل التوريد المطلوبة للتعافي؛ فتضرب خطوط الامداد ومقرات التجمع، وغرف القيادة والسيطرة ـ الدائمة والظرفية ـ، كل هذه الإجراءات والعمليات تبقي العدو في حالة من النزف الدائم الذي يقضي على القدرات البشرية والمادية والنفسية ويستنزفها.
  3. صرف العدو عن حشد وتخصيص قدراته: كما أن منع العدو من حشد قدراته وتخصيصها بما يخدم أهدافه ـ القريبة والبعيدة ـ يعد أحد أهداف حرب الاستنزاف، حيث أن تكرار الضربات وفتح جروح جديدة في بدن العدو يفرض عليه النظر في كيفية حشد القدرات وتخصيصها مع كل جرح مستجد أو حديث، وهذا في حد ذاته هدفٌ مطلوبٌ للمقاومة، يمكّنها من منع العدو من الاستفادة المثلى من قدراته وطاقاته.
  4. حرمان العدو من الوقت اللازم لاستخلاص العبر والدروس التعبوية من عملياته الميدانية: حيث أن ما هو أهم من القيام بالعمليات وتسديد الضربات؛ إنما هو تطوير الأداء ورفع الإشكالات، وهذا أمرٌ يتطلب توفر الأوقات وعدم العمل تحت الضغوطات، و" حرب الاستنزاف " بذاتها تحرم العدو من هذا الوقت المطلوب للتفكير الهادئ واستخلاص العبر والدروس.
  5. منع العدو من إعادة تنظيم قواته لتواكب تطور عمل قوات المقاومة: كما أن" حرب الاستنزاف" تعني مواقف تتطور بشكل سريع، وعمل خارج عن الخطط والمخططات المسبقة، أو التوقعات والتقديرات المعدة، مما يعني ضمناً موقفاً قتالياً لا يستطيع معه العدو إجراء إعادة لتنظيم قواته؛ فتقاتل بارتجال، وتناور بما يفرضه واقع الحال، مما يفقدها عناصر قوتها، ويسارع في كشف مكامن ضعفها؛ فتؤتى منها.
  6. فرض مكان وزمان العمل على العدو: كما قلنا فإن " حرب الاستنزاف " وإن كان مخطط لها ومعروفة الأهداف والإجراءات من قبل من يبادر بها، إلّا أنها تبقى إلى حد ما، أمر ـ من حيث الشكل والمضمون ـ يُفرض على الطرف الآخر فرضاً، فلا هو الذي يحدد المكان ولا هو الذي يحدد الزمان، وأخطر موقف يمكن أن يجد القائد العسكري أو المقاتل نفسه فيه؛ هو القتال في الزمان والمكان الذي يفرضهما عليه عدوه، الأمر الذي يعني التفكير غير المنظم، والارتجال والتصرف برد فعل، وكلها مسارات تؤدي إلى خسائر وفتح جراح!!

هذه بعض الأهداف التي يمكن أن تُشتق من أصل مهمة " حرب الاستنزاف " والتي ـ الأهداف ـ يمكن أن يزاد عليها الكثير، ولكن المقام لا يسمح، فنكتفي بما ذكرنا، لنكمل الحديث في العنوان الأخير في هذا الورقة والمرتبط بالمتطلبات والإجراءات. 





رابعاً: متطلبات والإجراءات:

لقد قررنا أن تكون المتطلبات والإجراءات تحت عنوان واحد، كون عدم توفر فائض قدرات لدى المقاومة يفرض عليها ألا تبحث إلا عما يخدم الإجراءات من متطلبات، والتي ـ المتطلبات ـ في بعضها تأخذ طابعاً مادياً ملموساً، وفي جزء منها تتصف بالطابع الإداري والتنظيمي. وعليه فإن من أهم هذا المتطلبات والإجراءات لـ " حرب الاستنزاف " ما يأتي: 

  1. الإشراف والمواكبة المعلوماتية: مرة أخرى؛ إنها المعلومات ثم المعلومات ثم المعلومات؛ بشقيها الدفاعي والهجومي، لتحديد عناصر قوة وضعف العدو، فنتجنب الأولى، ونسدد ضرباتنا للثانية، كما تعرّفنا هذه المعلومات على مراكز ثقل العدو؛ فنتجنب الاحتكاك بها في هذه المرحلة من القتال، فالهدف هو الجرح والخدش، الذي يُشغل ويلهي ن ويؤخر الأعمال ويضرب حالة التفكير المنظم، والدفع للعمل برد فعل ورأس حامي، وما تستخدمه المقاومة من قدرات في مثل هذه المواقف لا يمكّنها من إنزال خسائر ذات قيمة في مراكز الثقل المعادية والمحمية بشكل جيد من قبل العدو، فيكفي أن تُستنزف القدرات المحشودة في مراكز الثقل تلك حتى نبقي جراح العدو نازفةً.
  2. حفظ الذات والقدرات: ومن متطلبات الحرب تلك؛ المحافظة على الذات والقدرات، بعد كل احتكاك بالعدو؛ حيث أنه وبعد كل عملية تقع ضده فإنه سيبادر على أعمل انتقامية وإجراءات (تأديبية)، الأمر الذي يتطلب من المقاومة القدرة على امتصاص الصدمة الانتقامية المعادية، ثم استيعابها، ثم التعامل مع نتائجها؛ وهذا لا يمكن أن يتم ما لم تتم المحافظة على الذات، وعدم التضحية في القدرات، فلا نُجر إلى مربع يستنزف فيه العدو قدراتنا وإمكانياتنا.
  3. تركيز وحشد القدرات وتخير الضربات والمواجهات: فحشد القدرات وتركيز العمل بها ضد هدف محدد يعني أن ما ستحدثه هذه القدرات من آثار وجراحات سوف يكون من نوع الجراح الغائرات التي يطول شفاؤها، ويعظم خطرها، وتَستنزف الأوقات والقدرات ـ المادية والبشرية والنفسية ـ في التعامل معها، والتغلب على آثارها، فكلما كان الحشد والتركيز في المكان والزمان المناسب؛ كان الأثر أكبر، والجرح أخطر.
  4. بنك الأهداف: فحربنا مع عدونا في هذا المرحلة حرب تجميع للنقاط؛ وليست من النوع الذي تنتهي فيها المواقف بالضربات القاضيات، لذلك فإن امتلاك المقاومة لبنك أهداف دسمٍ يعني أنها قادرة على المناورة وتخير ساعة العمل، وإكثار الجروح في بدن هذا العدو، وزيادة نزفه المادي والمعنوي والنفسي، الأمر ـ امتلاك بنك أهداف ـ يعيدنا إلى النقطة الأولى ألا وهي المعلومات، فهي من تصنع بنك الأهداف الحقيقي، وهي من تحدد المكان الموجع للعدو.
  5. إدامة زخم العمليات: حيث أن الهدف العام لـ "حرب الاستنزاف " منع العدو من التقاط الأنفاس والتفكير المنظم، والحشد المناسب للقدرات، وهذه أمور تتطلب إدامة زخم العمليات، وتسديد الضربات، فلا يرفع العدو رأسه من موقف إلّا وقد استجد عليه موقف آخر، ولا يخرج من مواجهة إلى وقد دخل في أخرى، عندها سنخرجه من مربع الفعل إلى مربع رد الفعل، ومن مربع العمل الروتين اليومي (الأمن الجاري) إلى مربع الأزمات، وحل المعاضل والمشكلات.
  6. المرونة والمناورة والمراوحة العملياتية: وهذا يعني امتلاك زمام المبادرة، والتصرف في المكان والزمان المناسب لنا، ومنع عدونا من أن يفرض علينا زمان ومكان العمل، والمناورة والمرونة العملياتية تعني أن العدو متحفز دائماً، مستنفرٌ طول الوقت،متوقع للخسائر مع كل حركة أو فعل، غير قادر على حشد قدراته وتركيز ضرباته؛ لتوقع الخطر في كل زمان ومن كل مكان، في مثل هذ الموقف؛ فإن العدو لا يمكن أن يحقق حشداً للإمكانات، أو تخصيص للقدرات، وهذا أمر ـ الحشد والتخصيص ـ  يسلب من العدو أهم نقاط قوته، وهي الحشد في الزمان والمكان المناسبين.
  7. الحاضنة الشعبية: ومن الأمور التي تمكن المقاومة من شن " حرب الاستنزاف " على عدوها حيازتها حاضنة شعبية تمثل لها السند والستر عن الحاجة، وتوفر لها ما ينقصها من قدرات وإمكانات مادية وبشرية، فالمرونة والحركية والمعلومات وبناء بنك الأهداف؛ كلها أمور لا يمكن أن تنهض بها المقاومة مالم تكن محتضنة من قبل حاضنة شعبية تمثل لها أهم جزء من أجزاء سلاسل التوريد التي تسد النقص وتجبر العجز.

هذه أفكارٌ ومفاهيم تحدثنا عنها مرتبطة بما يعرف بــ " حرب الاستنزاف " نضعها بين يدي ذوي الحاجة والاختصاص، لتناقش؛ فيزاد عليها أو ينقص منها، ثم يترك أمر العمل بها إن هي لاقت استحساناً أو جاءت لتجيب على احتياج، يترك العمل بها لمن أيدهم في النار، فلا يَفرض عليهم موقفاً أو فعلاً قِبَل من هو آمن في سربه وجالسٌ في الدار. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

عبد الله أمين 

07 11 2022

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023