بقلم المستشار/ أسامة سعد
يقول شُراح العلاقات الدولية إن العلاقات الدولية تنشأ من خلال مدرستين هما: المدرسة المثالية والمدرسة الواقعية، أما المدرسة المثالية فهي المدرسة التي تنادي بأن تنسج العلاقات بين الدول من خلال الامتثال للقانون الدولي، ومبادئ العدالة والإنصاف والقيم والمبادئ والمثل العليا التي تمثل الضمير الإنساني، أما المدرسة الواقعية فتذهب إلى أن العلاقات الدولية لا تنسج إلا من خلال مصالح الدول؛ تلك المصالح التي هي مناط عمل الحكومات، وهذه المصالح تتركز في محورين، هما: الحفاظ على الاستقلال الوطني ومد النفوذ السياسي والإقتصادي لأبعد مدى ممكن، والسعي إلى تحقيق النمو الاقتصادي بما يحقق الرفاه للمواطن.
وربما ليس خافيًا على أي مواطن فلسطيني أو عربي أو مسلم، أن قضية فلسطين على وجه الخصوص قد تجلت فيها ملامح المدرستين، من خلال توجهات الدول في مناقشات المحافل الدولية، ومآلات هذه المناقشات من القرارات التي صدرت، ومصير هذه القرارات.
وربما كانت المدرسة النموذجية المثالية تلقي بظلالها دائمًا على الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يتجلى الضمير الإنساني الجمعي في المناقشات التي تدور في أروقتها، ولذلك كانت تحظى قضايا فلسطين بنسبة تصويت عالية لصالحها، ولا أظن أن هناك توصية أو قرارً عُرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة يخص قضية فلسطين، لم يحظَ بموافقة الجمعية العامة، بل كان دائمًا يحظى بنسبة تصويت عالية كما أسلفت، إلا أن المدرسة الواقعية كانت تبرز بأبشع صورها في مجلس الأمن الذي تسيطر عليه الدول الخمس دائمة العضوية، التي يوجد منها 3 دول على الأقل هي أمريكا وفرنسا وبريطانيا دائمة الدعم لدولة الاحتلال (إسرائيل)، وذلك أن وجود (إسرائيل) بصفتها دولة في المنطقة هي مصلحة حيوية لهذه الدول، وقد عبر عن ذلك صراحة معظم الرؤساء الأمريكيين أو كلهم، وكان آخرهم الرئيس بايدن الذي صرح بوضوح خلال لقائه "بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ"، في البيت الأبيض في أكتوبر الماضي، أنه لو لم تكن (إسرائيل) موجودة لكان علينا اختراعها.
ولذلك لم تكن القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو حتى قرارات مجلس الأمن التي تنص على حق الشعب الفلسطيني بالاستقلال وتقرير المصير، وضرورة انسحاب (إسرائيل) من الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس، تجد طريقها للتنفيذ، بل إن الرئيس الأمريكي الذي ينادي علنًا بحل الدولتين لم يقدم من أجل هذا الحل أي رؤية؛ ناهيك بالضغط من أجل تنفيذ هذا الحل، الأمر المهم في هذا السياق أن الآليات القانونية التي تستطيع دولة فلسطين اتخاذها -بصفتها دولة مراقب في الجمعية العامة- كثيرة ومتعددة، ومن شأنها أن تضع الاحتلال الصـهـيوني في مأزق قانوني كبير، صحيح أنه لن يصل إلى حد إجبار الاحتلال على تنفيذ القرارات الدولية التي يرفض تنفيذها، ولكن ربما ستكون هذه الآليات ضاغطة على الدول التي تتعامل مع الاحتلال، بما يجبره على التخلي ولو جزئيًّا عن تعنته في تنفيذ القرارات الدولية، ولذلك كانت الخطوة التي أقدمت عليها دولة فلسطين من خلال طلبٍ قُدِّم للجنة مكافحة الاستعمار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك لطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية في لاهاي، يحدد التبعات القانونية الناشئة عن انتهاك (إسرائيل) المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، واحتلالها طويل الأمد، واستيطانها وضمها للأراضي الفلسطينية، واعتمادها تشريعات وإجراءات تمييزية، وكذلك الطلب من المحكمة تحديد أثر السياسات والممارسات الإسرائيلية في الوضع القانوني للاحتلال والتبعات القانونية بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة.
هذه الخطوة التي أقدمت عليها دولة فلسطين بمنزلة تحطيم لجدار حديدي فرضته اتفاقية أوسلو على القيادة الفلسطينية، كان يمنعها من القيام بأي خطوة دولية تهدف إلى انهاء الاحتلال إلا من خلال عملية المفاوضات، التي جعلت منها (إسرائيل) وسيلة لإطالة أمد الاحتلال والاستيطان.
القيادة الرسمية الفلسطينية خطت خطوة بالاتجاه الصحيح، وهي خطوة لا نملك إلا أن تصفق لها، لأنها تعبر عن نبض المواطن الفلسطيني و آماله وتطلعاته في تحقيق حريته واستقلاله، وصحيح أنها جاءت متأخرة، ولكن كما يُقال دائمًا: أن تأتي الخطوة الصحيحة متأخرة خير من ألّا تأتي.
القيادة الفلسطينية نجحت حتى اللحظة في الصمود أمام الضغط الأمريكي لمنع هذه الخطوة، ولكن هذه الخطوة لم تكتمل؛ إذ إن توصية اللجنة الرابعة للأم المتحدة -لجنة انهاء الاستعمار- تحتاج إلى اعتماد من الجمعية العامة، وستعرض هذه التوصية على الجمعية العامة في بداية شهر ديسمبر المقبل، ونأمل أن يستمر صمود القيادة الفلسطينية أمام الضغط الأمريكي حتى إنجاز هذه الخطوة تمامًا، ويبقى هذا.