دراسات عبد الناصر عيسى .. المعاينة قبل الأخيرة للحرية

رضوان قطناني

كاتب وصحفي

لماذا نكتب؟ عن الكتابة خلف القضبان


في إطلاق كتابه "دراسات محررة" الذي عُقد في قاعة حمدي منكو بنابلس، كان عبد الناصر عيسى يطلّ على الناس إطلالةَ رجلٍ أدرك طرفًا من حريّته، وهو يمنحُهم قبسًا من روحه وعقله. يستبشِرُ الرجلُ بأنّ ثمرةً جديدةً من ثمار عقله تنطلق إلى الحرية ستقوده إليها عن قريب.

اجتمع الناس، على اختلاف بينهم، إلى حفل الإطلاق، في مشهدٍ يذكّر بالتفافهم حول وثيقة الأسرى، التي طُوّرت فيما بعد لتصبح وثيقة الوفاق الوطني، والتي أطلق نسختها الأولى الأسرى من قبل، وكان لعيسى يدٌ مهمةٌ في صياغتها.

وقد كان اجتماعُهم يوم إطلاق الكتاب على "عيسى" الاسم والتاريخ من جهة، وعلى "عيسى" الفكرة والرمزِ من أخرى، على الوحدة المنطلقة من التاريخ المقاوم، والمتطلعة لإعادة إحيائه، والساعية إلى صفٍّ ملتحم لمواجهة العدو، والباذلة لتحصيل هذا كلَّ جهدٍ ممكن.

أطلق "عبد الناصر" على كتابه اسم "دراسات محرّرة"، ولمفردة "محرّرة" معنيان، أولهما وأقربُهما الذي من "الحرية"، فدراسات الأسير أدركت حرّيتها مرةً إثر مرة، مرةً يوم اختطّها بقلمٍ وكتاب تحصّل عليهما إثر نضالات طويلةٍ للأسرى، ومرةً يومَ غلبَ الافتقار إلى الأداة التي تمنح رجلًا محاطًا بأسوار القمع والمنع والحصار والنكاية؛ الإمكانيةَ الحقيقية للكتابة والتأليف، ومرةً يومَ هزمَ القلقَ المتوقّع عند أسيرٍ يغلبُ على ظنّه أن عدوّه سيحرم كلماته من الاكتمال والانطلاق إلى فضاء العالم الحقيقي، ومرةً يومَ قهرَ إرادة الاحتلال وأطلق كلماته في الدنيا، فصارت دراساته، التي هي بعضه، "محرّرةً" حقيقةً لا مجازًا.

اجتمع الناس، على اختلاف بينهم، إلى حفل إطلاق الكتاب، وقد كان اجتماعُهم على "عيسى" الاسم والتاريخ من جهة، وعلى "عيسى" الفكرة والرمزِ من أخرى، على الوحدة المنطلقة من التاريخ المقاوم، والمتطلعة لإعادة إحيائه، والساعية إلى صفٍّ ملتحم لمواجهة العدو، والباذلة لتحصيل هذا كلَّ جهدٍ ممكن.

أما المعنى الثاني لـ "محرّرة" فمأخوذ من التحرير، الذي هو الإنشاء والتأليف، ولك أن تبحرَ في نفسيةِ رجلٍ امتلكَ القدرةَ النفسيةَ والقدرة المعرفية على الإنتاج الأدبي والعلمي المتتالي، في ظلّ غياب أيّ أرضيةٍ تمنحُ الإنسان هذه الإمكانية، غيرَ أن عبد الناصر عيسى ليسَ أي رجلٍ، إنه الشاب الذي أشعل أرض انتفاضة الحجارة بالمولوتوف، والأسير الذي نَزَع المعنى عن عقوبة الاحتلال وعاد بعد كلّ حريةٍ إلى ميدان الفعل والقتال، والرجل الذي يصنع الوعي المقاوم في أروقة جامعة النجاح أميرًا لكتلتها الإسلامية، و"المطلوب الثاني"، رفيق يحيى عياش ورجل القسام وصانع خلاياه وعملياته، والمقاتل من خلف السور وهو يسهم في سجنه بتشكيل خلية "شهداء من أجل الأسرى"، والأسير الذي تصدّر لقيادة نضالات الأسرى وتأسيس هيئة أسرى حماس القيادية العليا، ثمّ هو المفكّر والمؤلّف وصاحب الرأي والكلمة والحضور في مجال القلم والأسفار.





سألَ "عيسى" نفسه في مقدّمة كتابه: "لماذا نكتب؟"، وهذا السؤال الذي يبدو بالغ البساطة يتلبّس في واقع الأسر بالكثير من التعقيدات التي تجعل الإجابة عنه بعد الانخراط في قضيته (الكتابة)، أمرًا شائكًا وصعبًا. غيرَ أنّ الرجل الإنسان الكاتب عبد الناصر عيسى أجاب إجابةً بسيطة المبنى كثيفة المعاني: لـ "الشعور بالحياة". يعرف عيسى أنّ السجن الإسرائيلي هو فعل عدائيٌّ مصمّمٌ لانتزاع الأسير من الزمان والمكان الطبيعيين، من الحياة كما هي، إلى مكانٍ آخرَ خارج الزمان، يعيشُ فيه الإنسان بيولوجيًا، ولكنّه لا يحيا. ولأنه يريد أن يحيا، ولا يجد لحياته سبيلًا سوى هزيمة سجّانه، فقد اختطّ الكتابةَ سبيلًا من سبل الحياة. يعرف الزمان والمكان الحقيقين فيحيا أول مرة، ويتملّى بالمعرفة من شتّى طرقها الشّاقة فيحيا مرةً أخرى، يكتب فيحيا ثالثةُ، ويحرّر كتاباته فيحيا الحياة قبل الأخيرة قبل الموعد الكبير مع الحياة الكاملة .. الحرية.

يتضمن الكتاب 6 دراسات محقّقة منشورة في مراكز دراسات متخصصة، بالإضافة إلى عدد من الدراسات غير المكتملة التي وجد الأسير بعضًا من أوراقها إثر مصادرة الاحتلال لها، وعددٍ من الأوراق والمقالات التي ينشر بعضها للمرة الأولى.

وفي هذه المادة نستعرض ملخصًا لدراسات الكتاب الست المحكمة، وندعو القارئ إلى الاطّلاع على متن الكتاب، إذ لا يغني التلخيص عن التفصيل، كما أنّ في الكتاب كما أشرنا سابقًا أوراقًا ومقالاتٍ أخرى مهمة. 






الدراسة الأولى: تأثير المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على العلاقات المصرية الإسرائيلية 2021

تقوم هذه الدراسة على فرضية مركزية هي أنّ القدرات العسكرية المتزايدة للمقاومة في قطاع غزّة، ولا سيّما حماس، تمنح مصر هوامشَ أوسع من إمكانية تحقيق مصالحَ لها من علاقتها مع "إسرائيل"، من خلال امتلاك مصرَ الإمكانَ الأكبر للعمل مع غزة. وبعبارة الكاتب فإنه "كلّما زادت قدرة المقاومة في قطاع غزة، زادت الحاجة الإسرائيلية لمصر". ومع يقين الحاجة الإسرائيلية لمصر، وغياب إمكانية تحقق هذه الحاجة من خلال منفذ آخر، ومع فشل الحلول الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، تتأكّد الفرضية التي تعني ضمنًا أنّ قوة المقاومة مصلحةٌ مصريةٌ في آخر الأمر.

يشير الكاتب إلى أنّ "كامب ديفد"، مع كونه أوّل اتفاق عربيٍّ مع "إسرائيل" فقد حقّقت به "إسرائيل" مصالح متعددة على مستوى كسر العزلة، وتحصيل الشرعية، وفتح الباب للمزيد من الاتفاقيات المشابهة، والنزول بمحددات الرفض على المستوى الفلسطيني. بينما كانت المصالح المصرية من العلاقة أقلّ بكثير، نظرًا لظروف داخليةٍ وعالمية متعددة. وعليه فإنه يقترح "تكتيك" الاستفادة من علاقة مصر [شبه الحصرية] مع المقاومة في غزة، وقدراتها في الساحة الغزية، لتحصيل مكاسب مصرية، خصوصًا، مع تصاعد دفء العلاقات بين مصر والاحتلال خلال سنوات حكم السيسي، استنادًا إلى تبني رؤىً مشتركةٍ من قضيتي إيران والمنظمات الإسلامية "الراديكالية".

لا ينطلقُ عيسى من أرضيّة براغماتية في التعامل مع الاحتلال نفسه، بل يؤكد في دراسته على توصيف "إسرائيل" بالعدو، والدولة الاستعمارية الإحلالية، ولكنّه يحاول فتح بابٍ للبراغماتية المصرية، أي أنّه يريد أن يقول لمصر إن مصالحها الوطنية والخاصة، هي في مقاومةٍ فلسطينيةٍ قويةٍ تمنحها هامشًا أكبر للمناورة والاستفادة في علاقتها مع الاحتلال.

وتخلص الدراسة إلى التوصية بتعزيز التعاون المشترك بين مصر والمقاومة في غزة، وإلى عدّ دعم تزايد قدرات المقاومة، مهمةً وطنيةً فلسطينيةً، ومهمةً مصريةً وعربيةً وإسلاميةً، من جهة كونها تخدم المصالح الوطنية للفلسطينيين والمصريين والعرب.

يمكن تقديم نقدٍ أساسي لهذا الدعوة من جهة إغفال الحديث عن بنية النظام المصريّ، وارتباطاته الدولية والإقليمية، ومنطق تفكيره، وطريقة نظره إلى مقاومة غزة، ثمّ مدى حضور عوامل أخرى سوى المصلحة الوطنية في صنعه قرارَه. إضافةً إلى أنّ حضور المصلحية في بناء العلاقات، ومع كونه ممكنًا مرحليًا، فإنّه يفتح الباب للانقلاب على العلاقة في حال غياب المصلحة، ويسهم في تراجع المقولات الأخلاقية الأساسية التي يجب أن ينهض الدعم استنادًا إليها.





الدراسة الثانية: الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية: الدوافع، والسيناريوهات، والتداعيات

حاولت هذه الدراسة أن تنظر في توجهات الضم الإسرائيلية التي انطلقت من خطة ترمب/ صفقة القرن، والتي تمنح الاحتلال حق ضمّ 30% من أراضي الضفة الغربية بما يشمل الأغوار، والكتل الاستيطانية الكبرى، وعددًا من المستوطنات المعزولة.

ورغمَ أنّ الكثير من المياه قد جرت أسفل جسر السياسة في "إسرائيل" والولايات المتحدة، لم يحدُث معها الضمّ بشكله المنصوص عليه في الخطة، كخسارة ترمب انتخابات الرئاسة، واستمرار حالة القلق والاضطراب في الحياة السياسية الإسرائيلية التي منعت دوام الحكومات، وأثّرت على قدرتها على اتخاذ قراراتٍ كبرى؛ فإنّ إعادة النظر في الدراسة من جديد يبدو مفيدًا، مع صعود نتنياهو ومعسكر اليمين "الأكثر استقرارًا" مع انتخابات الكنيست الأخيرة، ومؤشرات انتخابات التجديد النصفية الأمريكية التي منحت الجمهوريين التفوق على الديمقراطيين في مجلس النواب، ثمّ مع كون الولايات المتحدة وإن تغيّر رؤساؤها داعمًا "على بياض" لتوجهات الاحتلال.

ترى الدراسة أنّ دوافع نتنياهو نحو الضم متنوعةً، بعضها شخصيٌ متعلّق بصفقته مع اليمين الديني التي يضمن معها حصانته من المحاكمة، ورئاسته للوزراء مقابل تمرير بعض المخططات والمطالب لهذا التيار، ومتعلقٌ برغبتهِ في دخول التاريخ من جهة كونه رئيسَ وزراءٍ أضاف مساحةً لأرض "إسرائيل"؛ وبعضها الآخر أيديولوجي، فمع كون نتنياهو شخصيةً علمانيةً على مستوى الفكر والممارسة، فإنّه يمكن وصفه بأنه "يميني قوميٌّ محافظ" وهو على طريقة الحركة الصهيونية مستخدمٌ للموروث التوراتي لخدمة المشروع الإسرائيلي، كما أنّ حلفاءه الأهم في اليمين متدينون؛ بالإضافة إلى دوافع سياسيةٍ متعلقةٍ باستثمار لحظة ترمب في حينها، وهي لحظةٌ قابلة للتكرار، أو الاختلاق.

وضعت الدراسة ثلاثة سيناريوهات للضم، أوّلها الضمّ الكليّ المباشر لـ 30% من الضفة، وهو ما استبعدته لما قد يحمله من تداعيات خطيرة، وثانيها الضمّ المتدرّج بأن يبدأ الضمّ بمناطق معينة محدودة، حتى الوصول إلى مناطق الضمّ الكاملة وفق الخطة، وهو السيناريو الذي رجّحته الدراسة، وثالثها الضمّ المحدود، أي ضمُّ جزءٍ من أراضي الضفة الغربية ثمّ التوقف عند هذا الحد.

رأتِ الدراسة أن المضيّ في الضم يحمل تداعيات خطيرة على عدة مستويات، فعلى المستوى الأمنيّ سيؤدي الضمّ إلى احتجاجات فلسطينية واسعةٍ أو محدودةٍ، وقد يصل الأمر إلى حربٍ على جبهة غزة، أمّا على المستوى السياسيّ فإنّ الضمّ يعني عمليًا القضاء على حلّ الدولتين بشكل كامل، وانتهاء أوسلو، وتعزيز موقف اليمين المتطرف في "إسرائيل".

يرى الكاتبُ أنّ هذا التوجهُ مسبوق بسياسة "الضم الزاحف" التي عزّزت الاستيطان ووسّعته وكثّفت بناه التحتية، وهي سياسية مستمرةٌ وغير خاضعةٍ للنقاش في "إسرائيل"، وهي وإن لم تكنْ ضمًّا بالمعنى القانوني، فهيَ صورةٌ من صور الضم من ناحية عملية.

ولمواجهة أخطار مخططات الاحتلال فقد دعت الدراسة إلى الوحدة الفلسطينية، ووقف أشكال التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال، وإعادة الاعتبار للمقاومة الفلسطينية.  






الدراسة الثالثة: دور الهيئة القيادية لأسرى حماس في سجون الاحتلال الإسرائيلي بتعزيز مكانة الأسرى 2005 -2017

تنبع أهميّة هذه الدراسة من كون كاتبها، الأسير عبد الناصر عيسى، لا شاهدًا على مرحلة تأسيس الهيئة القيادية العليا ومراحل عملها التالية فحسب، بل من كونه عضوًا مؤسسًا للهيئة، والمنسقَ العام الذي صيغت تحت إشرافه لوائحها التنظيمية، وأُرسيت مسارات انطلاقتها.

يقدّم الكاتب شهادته لمرحلة انطلاق الهيئة عام 2005، والتي تلت النتائج غير المرضية للأسرى بعد إضرابهم في 2004. سعت قيادات أسرى حماس إلى إنشاء جسم جديدٍ أكثر تمثيلًا وقدرةً على التنسيق، لضمان وحدة الموقف وزيادة جدوى الفعل النضاليّ للأسرى، وهو ما تمّ بعد حراك داخليٍّ انطلق من "سجن إيشل"، وانتهى بانتخاب أول هيئة قيادية عليا كان عبد الناصر عيسى واحدًا من أعضائها، ومنسقًا لها تاليًا.

نجحت الهيئة، وفق الدراسة في تمتين وحدة موقف أسرى حماس على مستوى مختلف السجون، ما أسفر عن تراجع الإجراءات التعسفية التي تمارسها إدارة السجون بحقهم، وتعاطيها بجدية أكبر مع مطالبهم، وهو ما تجلّى في نتائج إضراب 2012.  كما نجحت الهيئة كذلك في تعزيز التواصل بين أسرى حماس وقيادة الحركة خارج الأسر، ثمّ تعزيز حضور الأسرى في صنع قرار الحركة، كما ظهر من دورهم في صفقة وفاء الأحرار، وفي عدّ رئيس الهيئة عضوًا في اللجنة التنفيذية للحركة.

لم ينحصر تأثير الهيئة على مستوى حماس التنظيمي، بل تجاوزه للمستوى الوطني العام، وهو ما جلّته بوضوح الأهميّة التي اكتسبتها وثيقة الأسرى (التي طوّرت فيما بعد لتصبح وثيقة الوفاق الوطني)، والتي كان للهيئة دورٌ مهمٌ في إنضاجها، لم يكن ليتمّ لولا تبلور هذا الجسم، وهو ما أفضى إلى تعزيز الأهميّة والقيمة الوطنية للأسرى.

وبالإضافة إلى هذه الإنجازات، وسواها (فتح أبواب التعليم الجامعي للأسرى على سبيل المثال) فقد عرضت الدراسة لبعض الانتقادات التي وُجهّت للهيئة، كمحدودية دورها في بلورة صفقة جديدة، وضعف تنسيقها مع مكونات العمل الوطني الأخرى داخل السجن، وهي انتقادات تعاملت معها الدراسة بالتفنيد أو التحليل.






الدراسة الرابعة: تراجعات الديمقراطية الإسرائيلية 2015-2017

لا تسلّم هذه الدراسة للدعاوى الإسرائيلية بكونها دولة ديمقراطية، بل هي ترى أنّ "إسرائيل" وإن اشتملت على مظاهر ديمقراطية في بنيتها، كالانتخابات الدورية، وتداول السلطة، فإنّها غير كافية للحكم على "إسرائيل" بأنها دولة ديمقراطية، بل إن ديمقراطيتها أقرب إلى الشكلانية والتظاهر منها إلى الرسوخ. بل إنّه يمكن وصف "إسرائيل" بأنّها "إثنوقراطية" أي أنّها دولة تحكمها إثنية معينة بمظهر ديمقراطي، في تناقض عميق مع أساسيات الدعاوى الديمقراطية. 

ترى الدراسة أنّ مجموعة من المشكلات البنيوية التاريخية في النظام الإسرائيلي تشير إلى هذه الشكلانية، وهي البعد الاستعماري الكولنيالي، وعلاقة الدين بالدولة، وعدم وجود دستور، والتمييز الممارس ضد الأقليّات، لا سيّما العرب.

تشير الدراسة إلى أنّ هذه المشكلات البنيوية، ومع تعزّز حضور اليمين الصهيوني الجديد، الأقل اهتمامًا بالمظاهر الديمقراطية، تعزّزت في السنوات الأخيرة، ما أفرز العديد من التمظهرات التي تعني المزيد من التراجع في الديمقراطية الإسرائيلية غير الكافية، ومن أهمّ هذه التمظهرات:

-التشريعات اللاديمقراطية: كقانون القومية، وقانون منع الأذان، وقانون الولاء في الثقافة.

-تراجع حريّة الإعلام: ومن أبرز الأمثلة عليها سيادة تكتيك "خذ وأعطِ" الذي استخدمه نتنياهو مع شركة "yes"، وصحيفة يديعوت أحرنوت، والذي يقوم على منح هذه الوسائل الإعلامية امتيازات ما، مقابل تغطية إيجابية لنتنياهو وحكومته.

-إضعاف القضاء، وشيوع لغة عدائية ضدّه لدى اليمين وأنصاره.

-زيادة مستوى الفساد: كقضايا الفساد المتعددة التي تلاحق نتنياهو، وقضايا الرشى المتعلقة بكبار قيادات حزب "إسرائيل بيتنا"، وقضايا فساد أخرى لكبار ضباط الشرطة.

تخلص الدراسة إلى أنّ التراجع الحاصل في المظاهر الديمقراطية الإسرائيلية يرجَّحُ تزايده، غير أنّ هذا لن يؤدي إلى تراجع الدعم الأمريكي لـ "إسرائيل" لأنّ الدعم، وإن تغطّى بدعاوى الديمقراطية والحرية، فإنّه في حقيقته قائم على تحقيق مصالح استعمارية.






الدراسة الخامسة: الليبرالية الجديدة للاقتصاد واحتجاجات 2011 في "إسرائيل"

شهد العام 2011 احتجاجاتٍ شعبيةً في "إسرائيل" كان قوامها الرئيسي من أبناء الطبقة الوسطى المطالِبين بالعدالة الاجتماعية، والرافضين للمسار الاقتصادي النيوليبرالي الذي تنتهجه دولتهم.

توضح الدراسة أنه ورغم كون "إسرائيل" دولةً قامت على أكتاف قوىً اشتراكية في بدايتها، إلّا أنّ صعود اليمين العلماني المتبني لسياسات اقتصادية ليبرالية منذ منتصف السبعينيات، ثمّ تعزّز سياساته الاقتصادية بعد "الانقلاب الليبرالي" في 1983، و"خطة إنعاش الاقتصاد" في 2003، والتي تبنت توجهات اقتصاد السوق الحر إلى آخره، أدّى إل تكرّس النظام الاقتصادي في "إسرائيل" بوصفه نظامًا اقتصاديًا ليبراليًا، قائما على أقل قدر من تدخّل الدولة، ومنح الحريّة للسوق.

ترى الدراسة، استنادًا إلى الكثير من المعطيات والأرقام، أن هذه السياسة الاقتصادية أسفرت عن تضرّرِ الطبقتين الوسطى والفقيرة، وتكدّس الأموال في يد الطبقات الأكثر ثراءً، وزيادة معدلات الفقر، وانخفاض مستويات الإنفاق الحكومي على الرفاه الاجتماعي، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ما يعني في آخر الأمر تضرّر منظومة العدالة الاجتماعية في "إسرائيل".

انطلقت احتجاجات 2011 المرتكزةِ إلى هذا الواقع، والمتأثّرة بجوٍّ احتجاجيٍّ عام يسود المنطقة التي كانت تشهد حراكات الاحتجاج العربية، غيرَ أنّ الدراسة ترى أنّ هذه الاحتجاجات، رغم اتّساعها مقارنةً بتاريخ الحركة الاحتجاجية في "إسرائيل، كانت محدودةً، ثمّ لم تستطع أن تحدث تغييرًا حقيقيًا على مشهد السياسة الاقتصادي في "إسرائيل"، فعاد الليكود بقيادة نتنياهو إلى الحكم، واستمرّ في تطبيق سياساته الاقتصادية النيوليبرابية.

تشير الدراسة إلى عوامل كثيرةٍ منعت احتجاجات 2011 من النجاح، من أبرزها: علوّ صوت الأمن، فالأمن –الذي يستحوذ على نسبةٍ عالية من الإنفاق الحكومي- كانَ حجةً لرفض فكرة الاحتجاج من حيث هي، بوصفها عملاً ضارًّا بأمن دولة تعلو فيها أصوات النيران، وتقاتل من أجل الحفاظ على حياة مواطنيها، أي أنّ الأمن في "إسرائيل" يُستخدم ذريعةً لإضعاف قدرة المجتمع على التغيير، ومنعه قواه من الحراك؛ ويضاف إلى ذلك عاملٌ آخر هو غياب البديل السياسي الذي يمكن أن يتبنى مقولات مناقضة للتوجه الاقتصادي النيوليبرالي، مع انخراط كافة الأحزاب الإسرائيلية في هذا التوجه، إما إيمانًا به، أو تقديمًا لأولويات أخرى (كالأمن مرةً أخرى) عليه؛ ومن بين هذه العوامل كذلك التذرّع بضرورة الحفاظ على "الإجماع المجتمعي" الذي يمكن أن يُقال إنه "الإجماع اليهودي"، الذي "تضرّه" حركة الاحتجاج.

تمتلأ الدراسة بالأرقام والشواهد المهمّة التي تدعم توجهاتها، وتعطي صورةً جيدةً لجوانبَ مهمةٍ من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في "إسرائيل"، ما يمنحها أهميةً إضافيةً غير متعلقةٍ بموضوعها حصرًا، بل بمعرفة "إسرائيل" من منظور أشمل.


الدراسة السادسة: الثقافة والتغيير .. "مساهمة الثقافة في اندلاع الثورات العربية – مصر وتونس"

حاولت هذه الدراسة مقاربة الثورات العربية التي انطلقت في 2011 من زاوية مهمة، وهي مدى تأثير الجانب الثقافي في اندلاعها، ومدى إمكانيّة أن تتسّع الثقافة العربية والإسلامية الكلاسيكية لمقولة الثورة.

يرى الكاتب أنّ اندلاع الثورات مثّل تحدّيًا لمقولات استشراقية وحداثية انطلقت من نمذجة المثال الغربي، ووصم الثقافة العربية والإسلامية بأنّها المسؤولة عن تخلّف المسلمين، وأنّها ثقافة جبرية متواكلة مفتقرة إلى أدوات التغيير، بالإضافة إلى كونها ثقافة مفتقرة إلى التنوع، والديناميكية وإمكانية التطوير. وعلى النقيض من هذه المقولات، بدت انطلاقة الثورات العربية ردًّا على هذه الدعاوى "التعميمية الساذجة".

تشير الدراسة، إلى أنّ أهمّ العوامل التي أدّت إلى اندلاع الثورتين في مصر وتونس، هي عوامل غياب العدالة الاجتماعية، ورواج الفساد، وغياب التوزيع العادل للثروة، والقضاء على الحياة السياسية، وقمع الحريات. هذه العوامل تشير إلى حضور الثقافي بوصفه عاملًا مؤسّسا لاتساع الهوّة بين النظامين المصري والتونسيّ وشعبيهما وقواهما السياسية والاجتماعية. فمع نزوع الأنظمة نحو تكريس ثقافة الاستبداد، من خلال سياسات التفريق بين معارضيها، ورفع فزاعة الإسلاميين في الداخل والخارج، وتعزيز قيم الخضوع، برَزَت في المقابلة ثقافة التغيير والنّقد والمشاركة والإيجابية لدى شرائح واسعة، ليكون هذا الاشتباك بين الثقافتين ممهدًا للاشتباك الثوري التالي.

يوضّح الكاتب في داسته أنّ مجموعةً من العوامل أدّت لانتشار ثقافة النقد والتغيير في المجال العربي، وفي مصر وتونس تحديدًا، وهي زيادة انتشار التعليم، وتوسّع وسائل الإعلام، والثورة المعلوماتية، التي أدّت إلى انتشار النقد بوصفه علامةً على الرفض ثمّ الرغبة في التغيير، وساهمت في منح الثوار القادمين المعلومة الأساسية المتعلقة بحجم الضرر الذي يصيب الدولة بسبب هذه الأنظمة من جهة، وإمكانية التغيير وضرورته من جهة أخرى.






أوراق أخرى..

بالإضافة إلى الدراسات المحكّمة التي استغرقت جلّ الكتاب، فإنه عرض مجموعةً من الأوراق البحثية والمقالات التي خطّها الكاتب الأسير، ومن أوراقه البحثية:

-"تجربة العزل في سجون الاحتلال": يروي فيها الكاتب تجربته الشخصية مع العزل بأنواعه المختلفة: عزل التحقيق الذي مكث فيه 14 شهرًا، وعزل عقوبة الزنازين الذي مكث فيه لفتراتٍ متفاوتةٍ وعلى مراحل متقطعة بسبب محاولة الهروب أو إدخال أجهزة خليوية إلى السجن أو غيرها من الفعاليات النضالية، وعزل العقوبة الطويل الذي أمضى فيه ما يقارب الثلاث سنوات بعد اتهام الاحتلال له بالمشاركة في تنظيم خلية "شهداء من أجل الأسرى"، والعزل العام الذي مكث فيه قرابة 10 سنوات.

-"فرص تحرير الأسرى في ضوء قدرات المقاومة والتحديات الإسرائيلية الداخلية": يبيّن من خلالها الكاتب أنه ومع كون المقاومة تمتلك الجديّة الكاملة في مشروع إطلاق سراح الأسرى، فإن الظروف الراهنة على مستوى المقاومة ومستوى الاحتلال تجعل إتمام صفقةِ تبادل جديدةٍ أمرًا معقدًا، مرجحًا أن صفقةً من هذا القبيل بحاجةٍ إلى أن تحقّق المقاومة مكاسبَ جديدةً في مواجهةٍ أخرى مع الاحتلال.

-"أزمة المشروع الفلسطيني ورؤية وطنية للخروج منها": تتجلى أزمة المشروع الوطني حسب الورقة في فشل نضال الفلسطينيين في تحقيق أهدافهم، حتى المرحلية منها، واستمرار تدهور أوضاع السلطة السياسية والأمنية والاقتصادية، واستمرار الانقسام الذي بدأ فعليًا منذ أوسلو 1993، وسوى هذه الشواهد.

وتعزو الورقة هذا التراجع إلى عوامل داخلية: كالمنظومة الفكرية التي يقوم عليها الصراع وتحوّله من فعلٍ تحرّريٍ ضد مشروع كولنيالي إلى صراعٍ بين قوميتين، والوسائل والبرامج النضالية، والمؤسسة القيادية للمشروع الفلسطيني؛ وأخرى خارجية: كطبيعة الاحتلال، والدعم الأمريكي والغربي له، والموقف الرسمي العربي المتراجع باستمرار.

وللخروج من هذه الأزمة يقترح الكاتب برنامجًا يرتكز إلى عدة نقاط منها: بناء الوحدة وإنهاء الانقسام من خلال إعادة بناء منظمة التحرير؛ والاتفاق على برنامج نضالي وطني مشترك قوامه تعزيز المقاومة الشعبية مع التأكيد على أن المقاومة بكافة أشكالها حق مشروع للشعب الفلسطيني، ووقف السلطة كافة أشكال التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال؛ وضرورة إعادة الاعتبار للدور النضالي، لكافة أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكنهم: الضفة وغزة والقدس و 48 والشتات.





وأخيرًا:

إن نظرة في كتاب "دراسات محرّرة" تترك انطباعًا مهمًا وأساسيًا لدى قارئه، وهو عمق حضور الوطنيّ والعامّ لدى أسيرٍ أمضى ما يزيد عن ثلاثين عامًا في سجون الاحتلال. وبقدر ما يحضرُ العامّ يذوي الخاص، وتتراجع المعاناة الذاتية الفادحة؛ وليس ينبئ هذا عن شيء بمقدار ما ينبئ عن تراجع حظّ النفس مع تضخّم الشعور بالناس والقضية، وعن جَلَدٍ وثباتٍ لا ينكسر رغم تقادم الزمن وطول المحنة.


لمطالعة الكتاب: من هنا

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023