المقاومة في الضفة الغربية الواقع والتحديات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

بقلم:
الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين  

19- 12- 2022

ها قد أوشكت سنة أخرى من عمر المقاومة في فلسطين المحتلة على الانقضاء، لتخلفها سنة جديدة، نأمل فيها أن تتصاعد المقاومة ويصلبَّ عودها لتعصى على الكسر، سنة تنامى فيها العمل المقاوم في الضفة الغربية إلى الدرجة التي دفعت العدو الصهيوني إلى تشغيل ما لا يقل عن 60 % من قواته العاملة في بقاع الضفة المختلفة؛ سنة شهدت ظهور بداية تشكيلات مقاومة عابرة للفصائل والأحزاب، مقاومة فيها ابن فتح يقف كتفاً إلى كتف مع ابن حماس الذي سند ظهره إلى أخيه في الجهاد، ليؤمن لهم الحماية أبناء الجبهة الشعبية أو الديموقراطية، في لوحة مقاومة من أجلِّ وأفضل لوحات التعاضد والتكاتف والتآزر الذي حيّر المتابعين لحراك أبناء شعبنا في الداخل المحتل. سنة انقضت كانت حافلة بأعمال المقاومة التي بدأت بالحجارة والإطارات المشتعلة؛ وإذا بها تصل إلى الاشتباكات المسلحة و (العبوات) الناسفة محلية الصنع، سنة ضربت فيها المقاومة انطلاقاً من الضفة الغربية في قلب هذا الكيان المؤقت، فلم يأمن مغتصبوه على حياتهم في أماكن ظنوا أنها ملاذات آمنة لهم.
 سنة ودعنا فيها قادة شباناً  لم يتجاوز أكبرهم سناً الثلاثين من عمره، أرّقوا راحة العدو، وصنعوا من مقاومتهم واشتباكاتهم اليومية له ـ للعدو ـ تهديداً ذا مصداقية عليه، حملت قادته إلى جلسات تلو الجلسات لتقدير الموقف ومتابعة الأحداث اليومية التي تتبدل فيها المعطيات والمعلومات تبدل طقس شباط. 
سنة بدأت فيها جنين؛ فلحقت بها نابلس ولم تتخلف عنهما القدس ولا الخليل، أمام هذا الموقف وهذا الواقع المقاوم المستجد كان لا بدَّ لكل محب من أهل الاختصاص، ولكل متابع لديه ما يقوله من نصح أو توجيه أو فكرة تزيد أثر هذه المقاومة وتجعل منها خطراً وتهديداً على العدو أن يدلي بدلوه، وأن يقول كلمته، علّها تقع بين يدي أصحاب حاجة، فتحقن دماً أو تحسن فعلاً.
 وهذه الورقة تأتي في هذا السياق ـسياق النصح ولفت النظرـ لتوصّف واقع المقاومة وترصد التحديات التي تواجهها، كتبها مراقب عن بعد، يرجو لهذه المقاومة، ولأولئك المقاومين الستر والعافية، وأن يقيهم ربهم شرّ أعدائهم والمتربصين بهم.  

أولاً: توصيف الواقع:  

1. بيئة شعبية حاضنة ومؤيدة: 
إن أول ما يلفت انتباه المراقب عن بعد لهذه المقاومة ذاك التأييد الشعبي الكبير لها وهي تحتكّ مع هذا العدو، وتشتبك معه كل يوم مرات ومرات، نرى هذا التأييد والاحتضان فيما يواكب عمل المقاومة من حراك شعبي للتعمية على المقاومين، وطمس أثرهم بعد كل العمليات؛ فهذا يحطم كاميرات مراقبة بيته أو محله أو بقالته، وذاك ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما يُفهم منه خطورة نقل أخبار وصور الاشتباكات وتنقّل المقاومين، وتلك الثلة من الشباب تحلق شعر رأسها لتتماهى مع الشهيد عدي التميمي، وأفضل صور تجلّي الاحتضان والتأييد والمؤازرة، ما نراه من صور تشييع الشهداء والمشاركة في بيوت التهنئة بشهادتهم، وشدّ أزر أهلهم والتخفيف عنهم، إنها مؤازرة لم يمنعها أو يخفف منها قمع القامعين من عملاء ومحتلين، وكلاء كانوا أم أصليين.  

2. فصائل مقاومة فاعلة: 
أما عن الفصائل المقاومة التي تدير هذه المقاومة وتشعل نارها في الضفة الغربية بشكل مباشر أو من خلف الستار، فحدِّث ولا حرج، فما كان لهذه المقاومة ولأولئك المقاومين أن يحققوا في العدو إصابات أو أن يلحقوا به أضراراً لو لم تكن خلفها وخلفهم من يسدي النصح، ويوجه بالكلمة أو يؤمن متطلبات هذه الأعمال البشرية والمادية، إنها فصائل تجاوزت حزبيتها، وخرجت من قوقعتها، وقدمت العام على الخاص، فسمحت لعناصرها وكوادرها أن يلتحقوا بما تشكّل من (كتائب) مقاتلة، فرأيناها ـ(الكتائب)ـ تضم في صفوفها من كل الفصائل والأحزاب، فصائل لم ترضَ لنفسها أن تبقى تمارس العمل السياسي أو الدعوي أو الاجتماعي أو الخدمي ـ على فضل جميع هذه الجهودـ وإنما قبلت التحدي، واستعدت لتحمل الأكلاف، فنزعت القفازات عن يديها، وشمرت عن ساعديها، وخاضت لجة الاشتباك مع هذا العدو؛ ناراً بنار، ودماراً بدمار.  

3. مجاميع قتالية واعدة: 
ومن مواصفات واقع المقاومة الحالية في الضفة الغربية أنها تشتمل على مجاميع قتالية واعدة، تحتكُّ مع العدو في كل يوم وتشتبك معه في كل ساعة، وتطلق النار عليه وعلى جنوده من مسافة الصفر، مجاميع لم يعد يخيفها صوت الرصاص، ولا هدير المسيّرات فوق رؤوسها، كسرت حاجز الخوف من هذا العدو ولم تعد تنتظره للقدوم إلى مناطقها ومربعاتها (الآمنة) في مخيماتنا أو مدننا، وإنما خرجت تبحث عنه وتتعرض له حيث هو، فهذا حاجز الجلمة شمال جنين أصبح هدفًا  يوميًا لمقاومينا، فمن يرد أن يجرب فاعلية سلاحه أو يطمئن لسلامته الفنية، بدل أن يطلق النار على هدف وهمي، يطلق النار على هذا الحاجز! مجاميع قتالية طورت فعلها ونشاطها، فأصبحت تراقب العدو وتجمع عنه المعلومات، وتتوقع مسار حركته، وتفرض عليه جغرافيا العمل وساحة المعركة، فتكمن له، وتشغّل في وجهه ما يناسب من قدرات، فترى (الأكواع) المتفجرة وصليات النار القتالية تنهمر على العدو من كل حدب وصوب، فتشتت جمعه وتفشل سعيه.  

4. قدرات قتالية متصاعدة: 
وهذا مشاهَد لكل متابع؛ فمن الحجارة و(المقاليع) وحرق الإطارات وسدّ الطرقات بالعوائق والعقبات والدهس والسكاكين، وصلنا إلى الاشتباك مع العدو بالسلاح الحديث بعد أن كان يُشتبك معه بأسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية، أو بما يخرجه المقاومون من خبايا أهلهم وأجدادهم وما يعثرون عليه في (سناسل) الحواكير والمزارع، سلاح شروه بحُرّ مالهم، أو بما تمكنوا من تأمينه عبر فصائلهم وأحزابهم، وها نحن اليوم بتنا  نشهد تطوراً مهماً في عمل هذه المقاومة يتمثل ببدء استخدام المواد المتفجرة الشعبية، رأيناها ـ العبوات ـ تنفجر في طرق مخيم جنين، ولم نتوقعها في القدس؛ ولكنها فاجأتنا هناك، فسلبت الأمن من العدو، وأوصلت له ما يجب أن يصل من رسائل.  

5. جغرافيا وطبوغرافيا مساعدة: 
فقرانا ومدننا في جغرافيات مساعدة على العمل، فهي إما واقعة على مرتفعات، أو يتخللها أودية وطيات، طبوغرافيا تؤمّن للمقاومين إمكانية الاختفاء أو التخفي، فحيثما ذهبتَ تجد المغاور والكهوف، وأينما تحركت فأنت قادر على السيطرة على المحيط، جغرافيا تفرض على العدو نمط عمل محدد، وتجبره على السير في مسارات إجبارية تساعد على تصيّده ـ العدوـ فيها، والتقرب منه والاحتكاك به بشكل مفاجئ وفاعل، ثم الانسحاب والتراجع الآمن، جغرافيا يصدق فيها القول أنها تقتل جاهلَها، ويقتلها عالمُها.  

6. علاقات واتصالات خارجية مشجعة: 
فهذه المقاومة ليست منبتّة عن محيطها الداخلي ـالبيئة الحاضنةـ كما قلنا، ولا هي منفصلة عن بيئتها الخارجية، فأثر عملها تجد أصداءه في كل مكان، ويبحث عن سبل دعمها كل شريف في هذه الأمة، فهبات المرابطين في الأقصى؛ تثير المؤيدين والداعمين، من طنجة حتى جاكرتا، والشهداء في جنين ونابلس والخليل وغيرها من مدننا وقرانا تنصب لهم صواوين التبريك والاحتفال في كل مكان، بدءاً من عَمان واليمن ولبنان، وليس انتهاءً بسوريا وتركيا وعُمان.  

7. قيادة سياسية مستعدة:
 أما أبرز ما يميز هذا الواقع؛ فهو وجود قيادة سياسية ـفي الداخل والخارجـ  تتابع هذه المقاومة، وترعى تطورها، وتسعى لتأمين متطلبات نجاحها، وما يؤمن لها كفاءة الفعل؛ قيادة مستعدة لتحمل الاكلاف مهما علت أو تنوعت، ومستعدة لتترك رغد العيش وهانئه؛ لتطارَد داخلياً، أو تُنفى خارجياً، فلا يرفّ لها جفن ولا (ينمغص) لها بطن، ولولا فضل الله ثم توفر مثل هذه القيادة وبمختلف مستوياتها ومسمياتها، لما قامت لهذه المقاومة قائمة، ولما علا لها شأن، ولتلاشت وتبخرت منذ سنين.    

هذا أهم ما يميز واقع المقاومة في فلسطين عموماً وفي الضفة الغربية خصوصاً، أما عن التحديات فهي مكان بحثنا التالي.

ثانياً: التحديات:  

1. تحديد المهمة والواجبات: إن أهم تحدٍ يشخُص أمام أي عمل أو حراك؛ مدنياً كان أم عسكرياً هو تحديد المهمة، وتبيين الواجبات، فمن هذا التعريف للمهمة يتم تحديد المتطلبات البشرية والمادية، وعلى ضوئه يتم ترتيب الأولويات، ويوضع مسار بناء القدرات، ومنه ـ تحديد المهمة ـ  وارتكازاً عليه يتم تخصيص القدرات ووضع الضوابط والسياسات، إن تحديد المهمة يعني فيما يعنيه؛ التدرج في الأعمال والإجراءات، فلا تُعتسف الأمور اعتسافاً، ولا تحمّل المقاومة وبيئتها فوق طاقتها، إن تحديد المهمة للمقاومة الناشئة في الضفة الغربية من أهم الواجبات وأولى الأولويات، ولا يكفي أن يقال نريد أن نشتبك مع العدو أو نحتك به، والسلام!! يجب تحديد هدف الاشتباك والغاية من الاحتكاك، فهذا التحديد هو الذي يقول: كيف؟ ومتى؟ وأين؟ وبأية قدرة؟ نتعرض للعدو، ومتى؟ وكيف؟ وأين؟ وتحت أي ظرف نقطع التماس معه؟    

2. القيادة والسيطرة ونقل التوجيهات:
 إن تحديد القيادة والسيطرة من أهم التحديات التي يجب أن يتم البحث عن حلول ناجعة وآمنة لها، يجب تحديد منظومة وإجراءات القيادة الميدانية اليومية في الداخل، وما هو مرتبط بين الداخل والخارج من وسائل تواصل واتصال، إن المقاوم المشتبك مع العدو عن قرب لا يرى ما يراه البعيد المراقب للمشهد الكليّ، إن القرب من العدو وإن حمل إيجابيات كثيرة مرتبطة بالمعرفة المسهلة للاشتباك وتكوين التهديد على العدو، إلّا أن القرب الشديد يحمل في طياته سلبية عدم الرؤية الكاملة للمشهد التي تساعد على جعل الحركة والأفعال والإجراءات متناغمة مع بعضها البعض، وتسير في مسار واحد نحو هدف واحد، فلا تتشتت الجهود ولا تضيع القدرات في غير فائدة أو بدون تحقيق إنجازات.  

3. مراكمة الخبرات: 
فعدونا عدو يتعلم من أخطائه، ويراكم خبراته بناء على ما اكتسبه من دروس يومية من احتكاكه واشتباكه معنا، ثم يطور إجراءاته ويغير من حركاته بناء على هذه الدروس وتلك العبر، فما نراه اليوم لا نراه غداً، وما خبرناه بالأمس، لن يشبه ما سيواجهنا به عدونا اليوم، لذلك يجب أن ندرس ونحلل ونستخلص العبر والدروس من كل حركة يقوم بها عدونا، أو نقوم نحن بها مبادرين تجاهه ومن هذه الدروس والاستخلاصات تتطور التجارب وتتراكم الخبرات، فنفاجئ عدونا كل يوم بشئ جديد، فلا يرانا اليوم كما كنا بالأمس، ولن نكون غداً ما كنا عليه اليوم.  

4. إيصال المعارف والمعلومات:
 وهذا تحدٍ يجب أن يُبحث له عن حل، فما يراكم من معلومات، وما يتكون من خبرات، يجب أن يصل إلى باقي المجموعات، فتجارب جنين تفيد نابلس، ونابلس لديها ما تقوله لرام الله أو طولكرم أو الخليل، والعاقل من اتعظ بغيره، إن طرق عمل العدو ليست كثيرة ولا هي باللامتناهية، فمجرد الاحتكاك أو الاشتباك معه كافٍ ليكوّن لدينا صورة عن طرق عمله وإجراءاته، فنحصيَها ونوثّقها ونستخلص منها العبر والدروس، ثم يأتي تحدي النقل الآمن لما استخلص من نقاط أو ملاحظات إلى غيرنا من المجموعات؛ فلا يؤتَوا من حيث أُتينا، ولا يفاجئوا من حيث فوجئنا، يجب أن نقاتل هذا العدو كافّة كما يقاتلنا هو وباقي أعدائنا كافة.  

5.  إطالة عمر المجموعات: 
ومن التحديات والصعاب التي تواجه المقاومة في الضفة الغربية، قصر العمر العملي للمقاومين، وأي رجوع سريع للأشهر المنصرمة، يثبت لنا هذه المقولة، هناك نزف شديد في القدرات البشرية والمادية يجب البحث عن حل له، وهذا الحل يكثر فيه الكلام، ليس أوله أن نحدد متى نشتبك نحن مع عدونا؟ وأين وكيف؟ ولن يكون آخره كيف نختفي أو نتخفى عنه؟ وهنا يطول الحديث وتكثر الإجراءات، ولا يستقيم نثر مثل هذه النصائح والتوصيات عبر مثل هذه الأوراق والمقالات.  

6. الصبر على تحقيق الانجازات: 
كما لا يجب أن نضع المجموعات  المقاتلة؛ أفراداً أو تشكيلات تحت ضغط تحقيق الإنجاز، يجب أن يكون أمن الأصول البشرية والمادية للمقاومة مقدمٌ على أي إنجاز، إن الكادر المقاتل هو رأس المال الذي يجب أن يحافظ عليه، ولا تُستسهل التضحية به عند كل شاردة أو واردة، يجب أن يشعر المقاتل أن قيادته حريصة عليه وضنينة به أن يقتل في غير فائدة أو مصلحة،  فإن شعر المقاتل بهذا الحرص، وحُف بتلك الرعاية؛ أعطى أفضل ما عنده، وقدم أقصى ما يقدر عليه، عندها سَيقتُل قبل أن يُقتل، ويؤلم قبل أن يتألم. إن الصبر على تحقيق الإنجازات يعني مراكمة القدرات واكتساب المعارف والخبرات، مما ينعكس إيجاباً على الإجراءات ومن ثم يتجلى الأمر في إنجازات.  

7. تأمين البيئة وميدان العمليات : 
فهي ماء سمكة الثائر الذي تسبح فيه، وهي حاضنته وراعيه، فيها يختفي ويتخفى، وعليها يدب ويسعى، لها يلجأ عند الملمات، ليريح بدنه ويرمم فيها الجراحات، فإن تلوثت هذه البيئة بالملوثات؛ استحالت إلى حقل ألغام قد ينفجر في وجه الثائر في أي لحظة من اللحظات، يجب أن تؤمّن هذه البيئة ذاتياً، بحيث تراعى ولا تُحمّل فوق ما تطيق، وتُهيأ لها سبل الحياة الكريمة  وأسباب الصمود والتصدي، كما يجب أن تؤمن موضوعياً فلا يعبث بها العابثون، ولا يسمح أن ينمو فيها عشب العملاء، وكلاء كانوا أم أصليين.  

كانت تلك سبع توصيفات  مع سبع من التحديات، نعتقد أنها يجب أن توضع بين يدي أصحاب المسؤوليات، تُشرّح  ليُزاد عليها أو ينقص منها حسب الموقف والإجراءات.
 ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، وهو سبحانه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  





جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023