"حرّيتنا".. صوت أسير يبحث عن العودة إلى الزمن
رضوان قطناني
خارج الزمن
الحرية فرادة الإنسان، بها يفترق عن باقي المخلوقات، بإرادته الحرة يتمايز، وبها يتكلّف، فهي ميّزته وامتحانه؛ وهي بعد، إذا فُقد قدرٌ منها صار ذلك القدر هو غاية طلبه، لأنّه لا يتطلّب هذا القدر إلا بمقدار ما يتطلّب نفسه، إنسانيته وفرادته وتمايزه وميلاده الأول "وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا"[1].
فالحرية هي القضية التي تمنحه معناه، يكتمل بقدر ما تكتمل فيه، وينقص بقدر ما تنقص؛ وتمنحه غضاضته الأولى وهي فطرته وميلاده.
طوّرت السلطات البشرية الحاكمة آليات عقاب أعدائها وخصومها وضبطهم عبر التاريخ، حتى استقرّ أمرُها في زمننا المعاصر إلى تعميم السجن بوصفه العقاب الأوسع استخدامًا، والأكثر قدرةً على تحقيق المراد، كما يبدو.
تظهر أهميّة السّجن للسلطات السياسية مع ما يمنحه لها من ميّزات، فهو مكان يمكن معه للسلطة السياسية أن تبعد خصمها عن مجال الأحداث، بكلمة أخرى: أن تحتجزه خارج الزمان.
هذا الوصف للسجن "الاحتجاز خارج الزمان"، هو واحدٌ من أدّق ما يمكن أن يُعبَّر به عن السّجن الحديث، وهو بعدُ، أهميّته الأساسية للسّجان، الذي يريد من اعتقال خصمه أن يعاقبه، نعم، ولكنّه يريد أن يمدّ الخطّ فيتجاوزَ العقاب على الفعل القديم الذي صدرَ من الخصم، فيحتجزه في السجن، حيث يفقد أي إمكانية للمشاركة في صناعة الزمن الجاري خارج المعتقل، وهو الذي يفقد في الأصل تماسّه مع ذلك الزمن، وقدرًا واسعًا من معرفته به.
يظهر هذا جليًا في السجن الإسرائيلي، والأحكامِ الزمنية المهولة التي يُحكم بها على الأسرى الفلسطينيين حين ينشطون في أعمال يعدّها بالغة الخطورة والتأثير على استقراره، ومن ثمّ وجوده، وهو الذي يعيش على قلق مستمر من الفناء.
فمن بين الأسرى الفلسطينيين هناك 553 أسيرًا محكومًا بالمؤبد[2]؛ ثمّ يظهر كذلك في السنوات الطويلة التي يمكثها الأسرى الفلسطينيون في السجن، فكريم يونس مثلًا، والذي أفرج عنه مؤخرًا، قضى في السجن 40 عامًا متواصلةً، بينما يقضي عميد الأسرى نائل البرغوثي الآن عامَه الـ 43 في اعتقال شبه متواصل لم يفصل بين شقّيه سوى سنوات قليلة تلت تحرّره في صفقة وفاء الأحرار، وفي الإحصائيات فإن 19 أسيرًا فلسطينيًا قضوا ثلاثين عامًا متواصلةً أو يزيد في سجون الاحتلال[3]، بينما يبلغ عدد الأسرى الذين قضوا أكثر من عشرين عامًا متواصلةً 314 أسيرًا[4].
عند إطلاق سراح الأسير كريم يونس مؤخرًا، انتشرت صورٌ وتصاميم تظهر كم تغيّر الزمن عميقًا وكثيرًا، بينما كان كريم في سجنه، في احتجازه خارج الزمن.
هذا النمط من العقاب المستمر والطويل، والمنع من الوجود الإنساني كما هو في طبيعته، والحرمان من الحياة على المستوى الشخصي والإنساني أولًا، والمستوى العام ثانيًا، نمطٌ قرّرت معه الحداثة إرجاع العقوبة الجسدية خطوات إلى الوراء (لا نفيها طبعًا)، والتركيز على عقوبةٍ تأكل الروح والقلب، كما يشير ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة .. ولادة السجن".
السلطة السياسية الإسرائيلية التي تسعى من خلال هذا الضرب من ضروب مواجهة أعدائها إلى تكريس شرعيتها بالالتجاء إلى شكل سلطوي من القضاء والقانون[5]؛ تفرط فيه وهي ترى أن هذا المكسب يتحقّقُ قدرٌ لا بأس به من خلال مسرحيّات القانون التي تمارسها دولة احتلال وجودها في أصله اعتداء على القانون، على منطقه من حيث هو، وعلى تشريعاته التي تسود الأرض كلّها.
تواصل .. التأكد من وجود الدنيا
تجري الجملة على البصر واللسان سريعةً كأنها لم تكن: "قضى في السجن أربعين عامًا"، غيرَ أنّها جملةٌ في حقيقتها استغرقت حياة إنسان كاملةً، والشعور بالزمن يشتدّ على من يفقده، فالفقدُ يعظّم قيمة الأشياء في النفس، فكيف إذا كان المفقود هو الزمن، الذي جعله الله صورةً عن نفسه "أنا الدهر"[6]، الزمن الذي تجري فيه الدنيا، بينما لا تجري على الحقيقة عند المحتجزين خارجه في السجن "الإسرائيلي".
من هنا، يمكن أن نفهم لماذا كان "التواصل" واحدًا من أهم –إن لم يكن أهمّ- معارك الأسرى الفلسطينيين في سجنهم: التواصل من خلال الزيارة، أو الاتصال الهاتفي، أو تحسين ظرف المعرفة بالخارج من خلال التلفاز أو الراديو مثلًا، هذه الأهمية القصوى للتواصل نابعةٌ من كونه تواصلَ القابعين في الخارج، مع الحياة التي في الزمن، الخطَّ الذي يمكن معه للأسرى أن يتأكدوا فعلًا من أنّ الدنيا لم تفنَ بعدُ، وأنّها يمكن أن تظلّ قائمةً في انتظارهم، وأن سنواتهم هنا هي سنوات في الانتظار لا في العدم.
كل من عاش في قسمٍ من السجن فيه أجهزة خليوية مهرّبة، يدركُ القدرَ الهائل من المشّقة والمكابدة التي تتطلبها هذه الأجهزة: في تهريبها إلى السجن بدايةً، فهي في أول الأمر تحتّم على حرٍّ ينتظر الأسر أن يظلّ جاهزًا، ثمّ يصنع ألمًا كبيرًا وتغييرًا في جسده، أن يضيف هذا الجهاز إلى جسده، ثمّ يحملهُ –رفقةَ خوفه- أيامًا، ثمّ يصنع ألمًا جديدًا وهو يخرجه.
وتاليًا، بعد دخوله إلى السجن
تنقلب الحياة، تدور المعيشة كلّها في فلكه، في صناعة مخبأ آمن له، في مواجهة التفتيشات المستمرة التي ترمي إلى انتزاعه، في صناعة نظام حياةٍ جديد يبتغي حمايته، وكلّ ذلك في سبيل أن يسمع رجلٌ صوت ابنه الغائب، أو أمّه المودّعة، أو زوجه المشتاقة، ولكنّ هذا الصوت القادم عبر سماعة الهاتف ليس موجات صوتية .. إنّه الخط القادم من الحياة، من الزمن.
يسعى السّجان مع هذا القدر المحدود من التواصل، الموجود في السجن انصياعًا منه نتيجة معارك الأسرى معه، أو الذي فرضه عليه الأسرى دون انصياعٍ منه (كالجوالات)؛ يسعى أن يجيّر هذا المنجز سوطًا مسلّطًا على الأسرى، فهو يبقيهم على تماسٍّ مع الحياة، دون أن يسمح لهم بدخولها، أو هو كقول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما = والماء فوق ظهورها محمولُ
الحرية.. الآن وفورًا
يظلُّ كلّ شيءٍ إذن، دون الحرية.. الحريّة الكاملة، هامشيًا تمامًا، بل أمرًا يحتمل أن يحمل وجهُه الآخر عقوبةً، أو تكديرًا لحياة الأسير الفلسطيني.
ومع هذا الواقع، يُصدِر أسرى فلسطينيون العدد الأوّل من مجلّتهم الشهرية "حرّيَتُنا"، ليكون اسمها دلالةً على المطلب الكبير والوحيد للأسرى، المطلب الذي يلتصق بهم، ولا ينفّك عنهم، كما لا ينفكّ الضمير المتصل عن صلته.
في "حرّيتنا" رسائل متعدّدة، أوّلها وأهمّها، تحرير الأسرى، وبقدر ما تبدو هذه الرسالة بديهيةً وواضحةً، وبقدر ما تبدو الإشارة إليها ساذجةً، فإنّها في الحقيقة تحمل في المجلة للقارئ المعتني كثافةً كبيرةً، من الألم والقهر والاستحقاق غير المبذول بقدرٍ كافٍ، وطرفٍ من الخذلان بسبب "التقصير أو العجز أو ضعف الحسابات والتباسها"، التي يستمر معها اعتقال الأسرى لمددٍ هائلة، وضرورة العمل على تحرير الأسرى "الآن وفورًا ودون تأجيل"، في مقابل محاولة الاحتلال تكريس مقولته "إن مصير الأسرى إما ككريم يونس أو ناصر أبو حميد!"[7].
لا تنكر موادّ المجلة، ورسائلها التي تحملها، الدور الذي يقدّمه الفلسطينيون، لا سيّما قوى المقاومة، ولكنّها تقول باختصار إن هذا الفعل لم يفضِ حتى الآن إلى تحرير الأسرى، ولم ينجح في منع الاحتلال من تعزيز سياسة الاعتقال التي ينتهجها والتي ترتكز على: الأحكام الهائلة، والمدد الطويلة المقضية في السجن، والتنكيل المستمر بالأسرى؛ ما يعني أنّه لا بدّ من طرح السؤال: لماذا لم يتحرر الأسرى بعد؟ ولماذا لم يتبلور مسارٌ فلسطيني قويٌّ وفعّالٌ ومطّرد يمنع الاحتلال من إطالة أمد الاعتقال إلى هذه الحدود؟