لم يكن قرار الكابينت الأمني السياسي الإسرائيلي 14-2 لتسريع وتأهيل أحد عشر بؤرة استيطانية مخالِفةً حتى لأجرم قوانين الاحتلال، وتقديم بناء حوالي عشرة آلاف وحدة استيطانية في الضفة الغربية قراراً مفاجئاً لمن أدرك طبيعة الاحتلال الإسرائيلي المجرم والمضلل، والذي يستخدم الاستعمار الاستيطاني الإحلالي والاحتلال العسكري ونظام الأبرتايد في ظل عملية تضليل مكشوفة إلى حد الوقاحة والتي يتميز بها كل متكبر ومتغطرس قد أمن الحساب والعقاب.
إن توصيفات إسرائيل -سالفة الذكر- هي توصيفات قانونية معتمدة أكدتها تقارير دولية كتقرير هيومان رايتس وتش، وبيتسيليم، وتقرير أمنستي في السنة الماضية، وأدهى من ذلك وأمر هو انكار إسرائيل على الشعب الفلسطيني المظلوم استخدامه أبسط الوسائل للدفاع عن حقوقه وممتلكاته أمام آلة البطش الغاشمة التي تستخدمها "إسرائيل" باستمرار قمع الشعب الفلسطيني ومقاومته النادرة، والسيطرة على الفلسطيني حيزاً ووعياً وجسدياً وبأدوات مختلفة على رأسها الدعاية والتضليل حتى لبعض فئات المجتمع في إسرائيل.
إن عملية الاستيطان ليست جديدة على الشعب الفلسطيني فهو احتلال جغرافي وديموغرافي وإحلاليّ استهدف منذ اللحظة الأولى في العام 1948، ثم في اللحظة الثانية وهي مدار تناول هذا المقال في العام 1967 تفكيك وتفتيت الفلسطينيين أرضاً وشعباً، ففي العام 67 وحتى العام 76 كانت خطة إيغال ألون بالاستيطان الكيفي للكمي وركز على القدس، ثم جاءت مرحلة التوسع الأفقي بفضل بروز حركة غوش أمونيم، واتفاقية كامب ديفيد، ثم مرحلة انخفاض الوتيرة لتناقضات سياسية داخلية، ما بين الأعوام 1985-1990 حتى جاء اتفاق أوسلو ليسفر عن زيادة كبيرة في الاستيطان، وليرتفع من 144 مستوطنة إلى 515 مستوطنة حتى العام 2018، ومن 252 ألف مستوطن إلى 834 ألف مستوطن، ومن 136 ألف دونم إلى 500 ألف دونم، (مركز أبحاث الأراضي).
أما الجديد في قرار الكابينيت الأمني فيتمثل بالجوانب الثلاثة التالية:
أولاً: أن قرار الاستيطان يقوده أحد أهم كبار غلاة المستوطنين من تيار الصهيونية الدينية، وهو سموتريتش وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع، لذا فهو أخطر وأشد، ويعني أنه جاء في سياق أيديولوجي وتعزيز الضم الفعلي للضفة باتجاه الضم الرسمي الذي يدعو له وزير المالية وأنصاره جهاراً نهاراً.
أما الجانب الثاني: فيتعلق بمعارضة هذا القرار بطلب أمريكي واضح للتهدئة لمواجهة إيران، لذا استنكره الأمريكان والأوروبيون بصورة واضحة.
أما ثالثاً: فيتعلق بالتضليل والخداع، حيث برر الكابينيت قراره بأنه "رد صهيوني مناسب" على سلسلة عمليات مقاومة فلسطينية رداً على جرائم "إسرائيل"، وبلغت خمسة عمليات في منطقة القدس على يد ثلاثة أطفال فلسطينيين لم يبلغوا الرابع عشر من العمر، وأدت إلى مقتل 11 إسرائيلي وجرح آخرين.
تدرك منظومات الاحتلال السياسية والأمنية والإعلامية بأن سياساتها الاستيطانية والتعسفية، وقراراتها بالإبعاد وهدم البيوت ومصادرة الأراضي والأموال والاعتداء على الأسرى، وسياسة الحواجز التي بلغت حوالي 600 حاجز لعزل الفلسطينيين، وغيرها من الإجراءات سترتد عليها بتصعيد الفلسطينيين لمقاومتهم ضد الاحتلال، والتاريخ شاهد على ذل، وعليه فإن الـ11 قتيلاً إسرائيلياً كما مئات الشهداء الفلسطينيين في الآونة الأخيرة، هم ضحايا احتلال إسرائيلي إحلالي فظيع، وأكثر من هذا، فهي تبحث وتصدر وتحاول التسويق للرأي العام، موقفاً يقضي بأن المسئول عن العمليات هم الفلسطينيون أنفسهم، ولا علاقة للاحتلال بالأمر، هي وقاحة بلا حدود وتحريف للحقائق معهود.
ركزت منظومات الاحتلال الإعلامية في الآونة الأخيرة، وفي إطار حربها المضللة ضد المقاومة الفلسطينية الشرعية إنسانياً وقانونياً ووطنياً على متهمين اثنين، هما:
أولاً: مناهج التعليم الفلسطينية والتي تربي الأطفال وفقاً لزعمهم على كراهية "إسرائيل" واليهود، وكأن قمع وإرهاب وقتل وتنكيل الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، قد ترك مجالاً آخر للأطفال الذين هم ضحية هذه الممارسات اليومية، خياراً آخر غير الدفاع الغريزي والطبيعي عن النفس، وذلك في ظل استهدافها وتحييدها للكثير من الكبار في الشعب الفلسطيني.
ومن جهة أخرى تتناسى أو تتجاهل عن قصد هذه المنظومات ما تقوم به مدارس الاحتلال، من تربية تشرعن إقصاء الفلسطينيين رمزياً ومادياً وتغرس فيهم الخوف من الأغيار، وتشرعن السلب والنهب وذلك وفقاً لاستنتاجات الورقة العلمية التي قدمتها نريت بيلد الحنان من الجامعة العبرية في القدس عام 2018، ووفقاً لمنصفين آخرين كثر.
أما المتهم الثاني: فهو وسائل التواصل الاجتماعي التي تحرض ضد الإسرائيليين، وقد حدد روعي شارون، المراسل العسكري لشبكة كان قبل يومين، "تطبيق التيك توك" كالوسيلة الأكثر تأثيراً الشبان الفلسطينيين، وكان موشيه شتاينميت، مراسل الشرطة في نفس الشبكة، أكثر تحديداً ويمكن القول أكثر تفاهةً وسخريةً عندما اتهم التيك توك أنه يستهدف الأطفال حتى سن 14 وتحديداً من شرق القدس، بعد أن فشلت التنظيمات الفلسطينية الكبيرة بتحريك الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، هكذا هي عقلية المحتل في وسائل إعلامه: كل العالم متهم وتحديداً الضحية الفلسطينية، أما الاحتلال والعنصرية والفاشية المتصاعدة برئاسة الحكومة الجديدة، فهي بريئة مما يحدث! ولأن التطرف في "إسرائيل" قد عم والفاشية والتناقض قد طم، فقد وصل الأمر بإحدى (شبيحات اليمين المتطرف) أن تطرح متهماً ثالثاً بعمليات الفلسطينيين، وهو النظام القضائي في "إسرائيل" والمتهم بعيون اليمين بأنه يساري وما هو كذلك.
فقد أشارت وسائل الإعلام في "إسرائيل" بأن عضو الكنيست المدعوة تالي فوغليغ اتهمت رئيسة محكمة العدل العليا في "إسرائيل" أستر حييوت بالمسئولية عن عملية الشهيد حسين قراقع في القدس والتي أدت لمقتل ثلاثة إسرائيليين، وقد أيدّها بهذا الاتهام أيضاً وزير التراث عامي حاي إلياهو من حزب قوة يهودية لابن غفير، الأمر الذي يؤكد بأن وصول القيادات اليمينية الأكثر تطرفاً للحكومة في "إسرائيل" سيزيد من عمليات الاحتلال والتضليل، وقد يدخلها إلى مربعات غير معقولة أو متوقعة، فاليمين المتطرف ينفي ويقصي العربي أولاً، ثم من يراه هو يسارياً إسرائيلياً ثانياً كالقاضية حييوت، والتي قدمت ومحكمتها الزائفة الكثير من الخدمات الجوهرية وعلى رأسها تشريع الاحتلال لمناطق العام 67، وحماية القتلة من ضباط وجنود جيش الاحتلال.
هكذا إذن يستمر الاحتلال الإسرائيلي بممارسة سياسة الاستيطان والقمع بحق الشعب الفلسطيني المقهور، والتي ترافق عملية خداع وتضليل ذكية أحياناً وغبية إلى وقحة في أحيان كثيرة أخرى، أما الفلسطينيين فلم يجدوا كممارسات الاحتلال محرضاً لهم ودافعاً لاستمرار ممارستهم الإنسانية والفطرية السليمة بالمقاومة بكافة الوسائل، والتي أيدتها أيضاً كل القوانين والأعراف والشرائع السماوية.
16-2-2023