معركة الأسرى بين الواجب الوطني والديني في رمضان

وليد الهودلي

كاتب وأديب فلسطيني

بقلم:
وليد الهودلي.


لأوّل مرة في تاريخ الحركة الأسيرة يلتقي الاضراب المفتوح عن الطعام مع رمضان، فأن تخوض المعركة وأنت صائم فهذا أمر عظيم، لأن المضرب عن الطعام يحتاج إلى شرب الماء فإذا كان صائمًا، فإنه سيمتنع عن شرب الماء نهارا وهذا يثقل عليه كثيرًا في معركة الأمعاء الخاوية؛ لأنها ستكون خاوية من الطعام والماء أيضًا، وبذلك فإنه يخوض معركتين في معركة واحدة:

فالأولى: هي معركة الصيام إذ يسجّل انتصارا على النفس والشيطان فيتمكّن من شهواته ورغباته ونزواته ويضبطها بطاعة الله ويشحن بذلك القلب من خلال تلاوته للقران؛ ليسجّل بذلك حالة انتصار تؤهل إرادته المتحرّرة هذه كي تنتصر في ميدان المعركة مع الأعداء.  


أمّا الثانية: فهي معركة تعدّ الأولى بالنسبة لها شيء يسير لا يذكر، فمن خاض اضرابا مفتوحا عن الطعام يدرك كم هو قاسيا وشديدا إذ يواصل المضرب ليله مع نهاره دون إفطار ولا سحور فيذوي الجسد وينحل، تخور القوى ويدق ألم الرأس أسافينه في الأربع أيام الأولى، ثم يتحوّل الى دوخة ودوار ويصيب المعدة من الغثيان ما يصيبها ويطير النوم من العيون ليصبح بعيد المنال وتخور قوى عقارب الساعة فتسير ببطء شديد وتصبح الساعة كأنها يوما كاملا. ويصبح مضيّ يوم من عمر الاضراب إنجازًا عظيما يضاف الى سجلّ هذه المعركة. 
وسيكون الإفطار فقط على الماء، ستحضر صور وجبات الطعام الشهيّة وحلويات رمضان في الذاكرة بينما لن تجد المعدة أمامها سوى الماء. معركة تحرق فيها السفن وليس للجنود فيها سوى الماء من أمامهم وقمع السجّان ووحشيّته وفاشيّته وساديّته من خلفهم.  

وهكذا قرّر أسرانا الجمع بين معركتين، وفي هذا إشارة واضحة الى الدرجة التي بلغ فيها سيلهم الأسود زباه، أراد المحتلّ أن يعيد السجون إلى الوراء كثيرا وأن يضرب كل ما توصّل اليه الاسرى من استحقاقات دفعوا مقابلها أثمانا باهظة من التضحيات خاصة ما دفعوه في إضرابات مفتوحة سابقة، لقد رفع هذا المجنون المتطرف "بن غفير" سقف عدوانه كثيرا وأوّل ما بدأ به هو السجون وكأنها كانت في رفاهية وسعة فأراد أن ينقضّ عليهم وعلى حقوقهم وينشب أنيابه السّامة في جسد الحركة الاسيرة.


وقد قرأ أسرانا مشهدهم السياسي جيدًا (وهم خير من يقرأ هذا المشهد بكلّ دقّة وتفصيل) ولا بدّ وأنهم قد سمعوا التصريحات التي تريد تأجيل المعركة لما بعد رمضان؛ لذلك فقد فوّت أسرانا عليهم هذه الفرصة وكان لهم هذا القرار خوض الاضراب في رمضان.

أسرانا يعتبرون هذه المعركة معركة مصيرية وحاسمة، لقد اختاروا لها عنوانا: "بركان الحرية، والشهادة" وهذا يعني كثيرا وهو يعبّر عن أن المطالب لم تعد معيشية فحسب وإنما معركة من أجل الحريّة الكاملة غير المنقوصة وكذلك الكرامة، فلم يعد هناك متّسع من العمر لأسرى أمضوا عدة عقود في السجن ومنهم من دخل العقد الخامس فإلى متى الانتظار؟  وقد حدّدوا مطالبهم بما يشمل الأوضاع المعيشية وبما يؤكد تحقيق حريّتهم وأن المعركة قد تجاوزت ما سبقها كثيرا وذهبت الى خندق متقدم من النزال والمواجهة.  

ويراهن أسرانا على حركة الشارع الفلسطيني فهو كرة الثلج المتدحرجة التي ستسفر عن انتفاضة أو تسعير نار المقاومة وهذا هو الذي يشكّل الضغط الحقيقي على صانع القرار الصهيوني، إذ أن رفع كلفة الاحتلال البشرية والمادّية لها حساباتها عندهم، ولذلك تاريخ في ذاكرتهم فمثلا اضرب الاسرى عام 2000 انتج انتفاضة الاسرى وحرّك أوضاعا كانت ساكنة؛ مما دفعهم للاستجابة الى مطالب الاسرى في حينها.

وهنا حتى يضع الشارع الفلسطيني كلّ ثقله لا بدّ من تفعيل دور المساجد ولا بدّ من العمل على ثقافة المجتمع الدينية بحيث يعرف الناس حق المعرفة بأن واجب أسرانا والوقوف معهم لا يقلّ أهميّة عن صلاة التراويح مثلا، فلم يعد مقبولا بحال من الأحوال أن نشهد الاقبال العظيم على صلاة حكمها سنة في الدين بينما يزهد الناس في المشاركة بفعاليات الدعم للأسرى وهي أقلّ ما يقال فيها أنها واجب، يجب أن يعرف الناس أن هذه هي تكاليف دينية لا تقلّ أهميّة بل هي أهم من كثير من الطقوس والشعائر التي نوليها أهمية وقداسة بينما هي في الدين لا تضاهي ابدا قيمة الحريّة والانتصار للمظلوم ومواجهة غطرسة الاحتلال وعنجهيّته وعربدته على أسرانا، هذا موكول للائمة وكلّ من يعرف فقه الأولويات أن يوصلها للناس ويحسن توظيفها ليعيد للمسجد روحه ودوره الحيوي والفاعل.      



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023