مشكلة الأسرى وما هو الحل؟

د. ناصر ناصر

كاتب وباحث سياسي

تتصاعد حدة مشكلة الأسرى وبقاءهم في الأسر الصهيوني لمدد كبيرة جدًا ولم يسبق لها مثيل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فقد وصل عدد الأسرى الذين قضوا في الأسر أكثر من عشرين عامًا متواصلة، 396 أسيرًا من كافة الفصائل الفلسطينية، وهؤلاء يطلق عليهم عمداء الأسرى، ويزداد الأمر صعوبة في السنوات الأخيرة نتيجة لإدراك الأسرى، ولأول مرة منذ عشرات السنين، لعدم وجود أفق حقيقي للإفراج عنهم بعد أن تبددت كثير من التوقعات لصفقة وفاء أحرار ثانية، بعد مُضي أكثر من 12 عامًا على الأولى، والغموض غير البنّاء الذي يحيط بملابسات ملف المحتجزين من الصهاينة في غزة، فماذا يعني هذا الأمر بالنسبة للمقاومة والشعب الفلسطيني؟ وما هي استراتيجيات الخروج من هذه المشكلة المأساة؟



أولًا: المعنى الرئيسي: سياسي استراتيجي

لبقاء الأسرى هذه المدد الطويلة من الزمن دون تحرير عبر صفقات تبادل معاني كثيرة معظمها سلبية، ومنها المساس بقيم ومبادئ الشعب الفلسطيني الإسلامية والإنسانية: كالوفاء، والأخوة، والثقة، وغيرها، ومنها نقاط سلبية في معركة الوعي والذاكرة الدائرة بين العدو والمقاومة، والمقالة تركز على المعنى الرئيس أو المعنى العملي وهو سياسي استراتيجي، ويتلخص هذا المعنى في المعاني التالية:

إن عدم إطلاق سراح الأسرى وبقاء حالهم بهذه الطريقة الصعبة والمأساوية يعني بالضرورة وعلى الأرجح بأن تكاليف إطلاق سراح الأسرى باهظة جدًا، بحيث لا تستطيع المقاومة أن تدفعها، وبالمناسبة -ومن جهة أخرى- فإن هذا المعنى والاستنتاج يصح أيضًا بالنسبة لدولة الاحتلال، فبقاء المحتجزين من أبناءها أقل تكلفة من دفع الثمن الذي تطلبه المقاومة بالمقابل.

وعليه فبقاء الأمور كما هي عليه الآن، ودون تدخل من عناصر جديدة وكاسرة لهذه المعادلة، وهو الأرجح، وهو القاسم المشترك العملي وغير المقصود بين النقيضين: "المقاومة المؤمنة" و "العدو الكافر" وشتان بين النور والظُلًم.

بمعنى آخر، فإن الثمن السياسي والاستراتيجي الذي تدفعه المقاومة حاليًا من استمرار مشكلة/مأساة الأسرى داخل السجون الصهيونية، هو أقل من الثمن الذي تدفعه في حالة إقدامها على تحقيق أسباب كسر المعادلة الحالية، كأسر جديد أو امتلاك أوراق ضغط جديدة ووازنة.

معنى آخر لا يقل أهمية عمّا سبق، وهو أن المشكلة فيما يبدو لا تكمن في القدرة على امتلاك أوراق جديدة؛ بل بالرغبة والإرادة المعتمدة على أثمان وآثار وتداعيات امتلاك مثل هذه الأوراق، فلا يُعقل أو ليس من المنطق القول بأن المقاومة "غير قادرة"، وطيلة سنوات طويلة جدًا من امتلاك أوراق جديدة- أو ما يسمى بزيادة الغلة في بعض الأحيان-.



ثانيًا: استراتيجيات الخروج من المأزق- مشكلة تحرير الأسرى

بناءً على المعاني السابقة لاستمرار بقاء الأسرى داخل السجون لفترات طويلة، وهي معاني راجحة تبدو لكل مراقب عقلاني يتابع تطورات قضية تحرير الأسرى منذ عشرين عامًا على الأقل، أو منذ صفقة وفاء الأحرار الأولى العام 2011، الأمر الذي يقلل من قيمة المعلومات غير المعلنة أو السرية، فالمعطيات المشاهدة والملموسة كافية إلى حد كبير من أجل التوصل للمعاني والفرضيات والاستنتاجات السابقة.

وفي هذا السياق يبرز السؤال المركزي كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ كيف يمكن للاستنتاجات السابقة أن تتغير لصالح حل قضية الأسرى؟

وبصورة أدق، هل يمكن أن يتحول الثمن المتوقع دفعه نتيجة امتلاك المقاومة لأوراق جديدة -زيادة الغلة- إلى ثمن معقول ومقبول وممكن استيعابه؟ أي تخفيف التكاليف كما تبدو لقادة المقاومة؟ 

أي كيف يمكن تغيير المعادلة الراهنة؟

الجواب ببساطة: ممكن ومتوفر، ما توفرت الإرادة وتوفر المخططون الاستراتيجيون، والمنفذون العملياتيون، أي تخصيص جدّي للموارد.

وبنوع من التفصيل، فيمكن تغيير المعادلة الراهنة أو الخروج من المأزق بطريقتين، من الناحية النظرية:

أ- الطريقة الأولى: رفع ثمن إبقاء الأسرى داخل الأسر، ثمن ذلك بالنسبة للاحتلال أولًا، وثمن ذلك بالنسبة للمقاومة.

ب- الطريقة الثانية: من خلال تخفيض ثمن إطلاق سراح الأسرى بالنسبة للمقاومة، وحتى من الممكن أحيانًا بالنسبة إلى العدو؛ ليصبح الثمن معقولًا ومقبولًا.



أ- استراتيجيات الطريقة الأولى:

للطريقة الأولى استراتيجيات خاصة من أجل تحقيقها، ومن أهم هذه الاستراتيجيات التي ترفع ثمن إبقاء الأسرى داخل السجن بالنسبة للعدو/الاحتلال، هي:

الاستراتيجية الأولى:

ربط أعمال المقاومة بإطلاق سراح الأسرى، بحيث تعلن المقاومة للملأ بأن نوع (أ) من المقاومة لا يمكن أن تتوقف طالما بقي الأسرى داخل السجون، وهذا يتطلب بالضرورة أن تكون المقاومة فاعلة، وتعمل بأشكال متعددة، وتملك قدرًا معينًا من التحكم والسيطرة؛ لذا فقد يصح هذا الأمر ويتناسب بصورة أعلى مع أوضاع المقاومة في قطاع غزة، في هذه المرحلة.

الاستراتيجية الثانية التي تجعل الثمن بالنسبة للاحتلال أعلى هي: ربط التهدئة والتصعيد عمومًا بضرورة إطلاق سراح أو التقدم في ملف تبادل الأسرى.

أما استراتيجية دفع الثمن بالنسبة للمقاومة فتقع على عاتق أهالي الأسرى وأنصارهم، أو إن صح التعبير "مجموعات ضغط" (لوبي) من صميم مؤيدي المقاومة تحديدً؛ للضغط الشرعي والمنطقي على قيادة الشعب الفلسطيني عمومًا، وقيادة المقاومة خصوصًا، من خلال وسائل من أهمها: إضراب الأسرى عن الطعام مطالبين بالإفراج عنهم، والقيام بخطوات تضامن وتذكير وحتى احتجاج؛ لتحريك ملف تحريك الأسرى، والذي يشمل جزئية ملف تحريك صفقة التبادل الموعودة منذ العام 2014، ومن ذلك اعتصامات أمام منازل القادة الكبار بصورة حضارية وراقية، وغير ذلك من وسائل ضغط منطقي ومعقول، الذي يجعل إيجابيات هذه الوسائل أكبر من سلبياتها المحتملة.  



ب- استراتيجيات الطريقة الثانية:

من أجل المُضي قُدمًا في الطريقة الثانية لتقليل تكاليف إطلاق سراح الأسرى فمن الممكن اتباع واحدة أو أكثر من الاستراتيجيات التالية:

الاستراتيجية الأولى:

المبادرة والمبادأة لامتلاك أوراق جديدة وحقيقية من خلال وسطاء، أو وكلاء أو حلفاء، وهنا يبرز دور محور المقاومة واستراتيجية وحدة الساحات التي أطلق عليها العدو واستخباراته على وجه الخصوص تسمية  "العاصفة المتكاملة"، فمن خلال محور المقاومة القوي وذو الإمكانيات العالية، يمكن تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي المحدود نسبيًا وهو امتلاك  أوراق جديدة.

إن استخدام أو الاستعانة بحلفاء أو وكلاء؛ يقلل بالضرورة وبصورة واضحة جدًا الثمن والتكاليف التي كان من الممكن أن تدفعها المقاومة في غزة، على سبيل المثال نتيجة لأسر جندي أو ما شابه ذلك.



2- الاستراتيجية الثانية:

وهي "التدرج والاستمرار" أو "التدرج بلا توقف" أو "الوجبات" في إطلاق سراح الأسرى من خلال عقد صفقات تبادل تبييض السجون أولًا بأول، صفقات صغيرة نسبيًا ولكنها متكررة وتفي بهدف إطلاق كافة الأسرى خلال "س" من السنوات، وقد يكون هذا أنسب من الجمود لمدة عشرة سنوات لإطلاق سراح الكل، أو لا أحد.



3- الاستراتيجية الثالثة:

هي إشراك المقاوم الفرد في عملية إطلاق الأسرى، من خلال تكثيف النشر والتوعية حول أهمية الأمر، خاصة في ظل تزايد أهمية وفعالية المقاوم الفرد في الضفة والقدس، تحديدًا في الآونة الأخيرة، وأن تُبرز المقاومة حاجتها لمساهمة المقاوم الفرد، وهذا يستدعي أيضًا تعزيز ثقافة تحرير الأسرى؛ لتصبح ثقافة شعبية غير مقتصرة على النخب والمجموعات المغلقة.



أخيرًا تتطلب هذه الطرق وتلك الاستراتيجيات المتقدمة، ضرورة اتخاذ قيادة المقاومة جملة من القرارات وتجاوز العديد من العوائق والعقبات النفسية بالدرجة الأولى باتجاه المزيد من الشجاعة والإقدام والثقة بقدرات المقاومة، وتحديدًا بعد تراجع قدرات الردع الإسرائيلي بصورة واضحة، إضافة إلى التحلل من أسر بعض الأفكار والرؤى والتصورات المسبقة للثمن المتوقع، أو للبيئة والمحيط  أو غير ذلك، والتأكيد في هذا السياق على أركان مقاومتنا الباسلة والراشدة بالجهاد والتضحية وفكاك العاني.



الاستنتاجات والتوصيات:

1- إطلاق سراح الأسرى هو أمر ممكن ومتوفر طالما توفرت شروط تبدو غير متوفرة لدى المقاومة حاليًا، وهي شروط بحاجة لقرار، فالمقاومة ومعها المحور، ليست عاجزة؛ بل أسيرة لرؤى غير دقيقة، ومن الممكن أن تتغير بعد جولة الدفاع الناجحة الأخيرة التي خاضها المحور ضد دولة العدو.

2-  أن تتحلى المقاومة بالمرونة، إلى جانب الشجاعة والإقدام، والقصد هنا بالدرجة، لا بالنوع، في تغيير وتجربة استراتيجيات عمل جديدة، وعدم البقاء في ظل استراتيجية معينة لم تؤتي ثمارها رغم استخدامها سنوات طويلة "غيّر وبدّل".

3- استمرار الوضع الحالي بالنسبة للأسرى هو أمر ضار بمشروع المقاومة، وقد يكون سببًا من أسباب تراجعها في لحظة من اللحظات.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023