بقلم المستشار/
أسامة سعد
هي ليلة الشرف العظيم الذي أراده الله سبحانه وتعالى لهذه الليلة العظيمة، فجعل شرفها وعِظمها بنزول القرآن الكريم فيها، فكان اتصال الأرض بالسماء وهبوط الوحي لتتشرف الأرض كلها بعد ذلك بنزول القرآن الذي ما زال يُتلى في أصقاعها حتى يوم القيامة، وكانت هذه الليلة هدية كبرى للمؤمنين بأن جعل الله خيرها وفضلها أعظم من ألف شهر تكريماً لكل من وقف بين يدي الله في هذه الليلة العظيمة إيماناً بالله واحتساباً للثواب والأجر في ليلة الشرف العظيم، كأن الله سبحانه يدلنا ويخبرنا بأن طريق الفوز يبدأ من العمل الدؤوب والسهر والتعب الإصرار والعزيمة، والمقابل لن يكون على قدر التعب والسَّهر والعمل فقط، ولكن سيكون أعظم من كل ما يمكن أن يتصوره الإنسان.
ليلة القدر ترسم معادلة النجاح وتقول أن من عمل بصدق فإن جزاءه النجاح العظيم الكبير الذي سيظهر أمامه العمل الذي بذل من أجله ضئيلاً بسيطاً، ولكن لن يأتي ذلك النجاح إلا من بعد العمل، ولذلك لا يُظننَّ أحد أن الركون للراحة والتسليم بالأمر الواقع والاستكانة وإقناع النفس بأن الجدوى غير ذات قيمة، وانتظار الفرج من الله هو الحل فإن مفهوم وفلسفة ليلة القدر تخبرك أن بؤسك لن يزول وقلقك لن ينتهي وحياتك لن تتغير، ولا سبيل لتغييرها إلا بالاجتهاد ذاته الذي يجتهده المؤمن بقلب حاضر وعقل واعٍ ويقين بالله، وعند ذلك فقط ستجد مقابل تعبك نجاحًا عظيمًا تذهل أنت نفسك من عِظمه، فهذا هو عطاء الخالق الذي يعطي بلا حساب، فلا تقِس الأمور بمنطق البشر.
ولم تكن قصص النجاح والانتصارات والابتكارات إلا مضاهاة عملية لليلة القدر ليلة الشرف العظيم والقدر العظيم والثواب العظيم، وهذا ما تخبرنا به سير الأبطال والعظماء والمبتكرين، فأديسون أجرى عشرة آلاف تجربة للمصابيح كلها فشلت ثم نجحت واحدة، ولكن انظر إلى قيمة العشرة آلاف تجربة أمام عظم النجاح الذي غير وجه البشرية، انظر إلى نصر خالد بن الوليد في اليرموك الذي لم يكن ليتحقق لولا عبوره الصحراء من طريق وعر قليل الماء غير مطروق مفضلاً إياه على طريق سهل موفور الماء موفور الأرزاق، لكنه مزدحم بالسكان، وما كان لخالد أن يخاف قتال هؤلاء السكان ولكنه كان حريصاً على الوصول بأسرع وقت إلى حشد المسلمين في اليرموك، ولذلك اتخذ القرار الصعب بعدم سلوك الطريق السهل رغم إغرائه وميل النفس للسفر عبره، فلما بذل الجهد والتعب والسهر مصحوباً بالعزيمة والإصرار كان الانتصار التاريخي الحاسم في اليرموك الذي ما زال صداه يتردد عبر الأزمنة حتى يوم الناس هذا، وانظر إلى نيكولا تسلا، الذي اخترع التيار الكهربائي المتردد الذي غير وجه العالم بانتشار الكهرباء بكل فوائدها في كل أصقاع المعمورة.
كان يعمل هذا التسلا من الساعة الثانية فجراً حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً، حتى اضطر أساتذته في الجامعة التي يعمل بها إلى مخاطبة والده بأنه إذا لم يسحب ابنه من الجامعة فإن ابنه سيموت من الإجهاد، علماً أنه دخل الجامعة بمنحة لتفوقه.
إذن هي رسالة ليلة القدر الخالدة "خير من ألف شهر"، تلك الليلة التي ستجتهد فيها لساعات وسيكون مقابلها ألف شهر، وكل قصة نجاح أو انتصار تؤكد الحقيقة ذاتها؛ أن بذل الجهد ولو كان مضنياً إلا أن المقابل سيكون أعظم من كل جهد بذل بلا مقارنة بين الجهد المبذول والنجاح المتحقق.
ليلة القدر وإن كانت في أصلها تزكية للروح وسمو للنفس وتطهير للإنسان من المعاصي، إلا أنها في الوقت ذاته درس عملي في بذل الجهد للحصول على النتيجة، فكما يبذل ملايين المسلمين في أنحاء العالم كافة الجهد في هذه الليلة للحصول على المنحة الربانية، لكم أن تتصوروا لو أن قيمة البذل والجهد هذه انتقلت من الجانب الروحي وهو الأصل إلى الجانب المادي في الحياة، وبنفس العزيمة والصدق، أترى حال المسلمين كان سيكون على ما هو عليه الآن؟