القناة الـ12
الدكتور ميخائيل ميلشتاين
ترجمة حضارات

لقد لقيت الاشتباكات العسكرية الأخيرة في منطقة جنين، وعن حق، صدى واسع في الخطاب الإسرائيلي.

ومع ذلك، فإن المناقشة حول هذه القضية تركز بشكل مفرط على التهديدات العسكرية التي تشكلها الاحتكاكات في هذا القطاع - وعلى رأسها استخدام متفجرات قوية الجيش الإسرائيلي ولأول مرة منذ الانتفاضة الثانية دمج المروحيات القتالية في المواجهات، وأقل بكثير عن البعد الاستراتيجي للتحدي المتجسد في جنين بشكل خاص والضفة الغربية بشكل عام.

أحداث الأيام الماضية شحذت توجهًا مستمرًا منذ عدة سنوات، حيث تشكل منطقة جنين بؤرة التهديدات الأمنية في السلطة الفلسطينية، وتتحول تدريجياً إلى منطقة تسيطر عليها المجموعات العسكرية، بما في ذلك البنية التحتية لحماس والجهاد الإسلامي مع تلاشي نفوذ السلطة ووجودها هناك.

 وتضيف التهديدات الجديدة إلى التحديات المتمثلة في استمرار إطلاق النار على المستوطنات في الـ"أراضي الإسرائيلية"، واستخدام القناصة والمحاولات الأولية -غير الفعالة في الوقت الحالي- لتصنيع الصواريخ وإطلاقها على المستوطنات الإسرائيلية.

هناك عدة أسباب وراء وقوف منطقة جنين، وخاصة مدينة جنين، في طليعة التوترات الأمنية المستمرة في الضفة الغربية في السنوات الأخيرة: الروح التقليدية لكامل شمال الضفة الغربية كمركز للاضطراب ضد السلطات الحكومية (بدءاً بنابليون الذي أحرق المدينة بعد احتلالها، والبريطانيون الذين حاربوا الخلايا بقيادة عز الدين القسام في المنطقة في الثلاثينيات، وانتهاءً بالحكومة الأردنية) التعاون الطويل الأمد والمكثف بين الفروع العسكرية لجميع الفصائل، من بين أمور أخرى على أساس نفس العشيرة أو أصل الحي، والتركيبة الاجتماعية للمنطقة، التي يرأسها مخيم للاجئين نابض بالحياة يضم حوالي 11000 شخص (ثاني أكبر مخيم في الضفة الغربية) وبيئة ريفية كبيرة يصعب على الحكومة في رام الله السيطرة عليها.

الأسباب القديمة انضمت إليها بعض الأسباب المعاصرة التي تتطلب اهتمام صناع القرار في "إسرائيل".

أولا: الضعف المتزايد للسلطة الفلسطينية، التي ما زالت تسيطر على غالبية الضفة الغربية، لكن صورتها العامة ضعيفة ومرفقة بعلامات استفهام حول مستقبلها بعد عهد أبو مازن، تزداد حركة حماس قوة التي تستغل الفراغ الحكومي في شمال الضفة الغربية لترسيخ قوتها، مع إثبات قدرتها على تعزيز المقاومة المسلحة في الساحات التي تناسبها -غير غزة- مع فرض "التمايز" على "إسرائيل"، والمحنة العميقة لجيل الشباب الفلسطيني، وكثير منهم غير فاعلين، ومعرضين لتحريض هائج، وينضمون بحماس إلى البنى التحتية للمقاومة (أو يؤسسوها)، التي تقوض سلطة السلطة الفلسطينية وتعمق الفوضى في جميع أنحاء الضفة الغربية.

لا تتطلب التوترات في جنين تحليلًا أمنيًا فحسب، بل تتطلب أيضًا تحليلًا استراتيجيًا، تعكس الأحداث مشاكل جوهرية خطيرة في شكل فراغ حكومي، وتزايد في التهديدات المعادية، وتعزيز مكانة حماس، وفي الخلفية أيضًا محاولات التخريب الإيرانية (التي لا ينبغي المبالغة في نفوذها).

كل هذا قد يمتد إلى مراكز أخرى في الضفة الغربية، وهو أمر واضح بالفعل في نابلس وإلى حد أكثر محدودية في طولكرم وأريحا؛ بينما يقوض مكانة السلطة ويخلق واقعًا مشبعًا بالتهديدات لـ"إسرائيل" في وقت قصير نسبيًا.  

بما أن هذا تحد استراتيجي، يجب على "إسرائيل" تحليله بطريقة متعددة الأبعاد. 
ومن المحتمل أن يستلزم التهديد المتنامي في منطقة جنين تحركًا عسكريًا أكثر شمولاً، خاصة تلك التي ستركز على البنى التحتية العسكرية الراسخة النامية في المنطقة، ولا سيما تلك التابعة لحماس والجهاد الإسلامي.

ومع ذلك، بالاعتماد على سوابق الماضي، يجب أن يكون المرء مستعدًا لحقيقة أن مثل هذه الخطوة قد تكون معقدة: تستغرق وقتًا أطول مما هو مخطط له؛ للمطالبة بحل مشاكل السكان المدنيين في المدينة (يبلغ عددهم حوالي 65000 نسمة) وإحداث تأثير سلبي على القطاعات الأخرى، بما في ذلك المزيد من المراكز المتوترة في الضفة الغربية، ولكن أيضًا في غزة، على الجمهور العربي في "إسرائيل" وربما حتى في لبنان.

ومن هنا جاءت المناقشة المبدئية على المستوى الاستراتيجي، يمكن تعريف الاستقرار في الضفة الغربية اليوم على أنه محفوف بالمخاطر ومهدد للغاية، لكنه لا يزال رصيدًا استراتيجيًا لـ"إسرائيل"، المنغمسة حتى عنقها في أزمة داخلية حادة، وهي مطلوبة لتركيز الانتباه على التهديدات الخارجية الثقيلة، وعلى رأسها منهم الإيرانيون.

نفس الاستقرار النسبي يستلزم الحفاظ على وجود السلطة الفلسطينية، والتي على الرغم من عيوبها العديدة والتحدي الذي تمارسه تجاه "إسرائيل"، إلا أنها لا تزال الأقل شرًا بالنظر إلى بدائل تشكيل فوضى واسعة النطاق في جميع أنحاء الضفة الغربية بأكملها، سيطرة حماس على المنطقة، أو سيناريو التهديدات التي ستغرق "إسرائيل" فيها في فراغ وتصبح ذات سيادة مرة أخرى مسؤولة عن حياة ما يقرب من 2.85 مليون فلسطيني، وهو ما يعني عمليًا دولة واحدة.

إن تقوية السلطة هو مصطلح منتشر في الخطابات أو الكتابات، لكن ترجمته العملية معقدة، من بين أمور أخرى؛ لأن هذا الهدف لا يعتمد فقط على سلوك "إسرائيل"، ولكن أيضًا على سلوك القيادة الفلسطينية التي لم يتم استبدالها في عدة عقود، معزولة عن شعبها ومشبعة بالفساد.

 ومع ذلك، فإن "إسرائيل" قادرة على المساهمة في استقرار السلطة الفلسطينية في الوقت الحاضر من خلال 5 خطوات:

1. تجنب العقوبات المالية التي من شأنها الإضرار بعمل الحكومة الفلسطينية وصورتها العامة وعلاقة السكان بها.

2 - استمرار أو حتى تسريع التحركات الاقتصادية التي تسهم في إخراج غالبية الجمهور الفلسطيني من دائرة المقاومة، على الرغم من توخي الحذر من "التفوق المفرط"، أي تشجيع المبادرات التي من شأنها أن تؤدي إلى إقامة علاقة مباشرة بين الرأي العام الفلسطيني و"إسرائيل" بينما يدمج الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي و "يسمح" للسلطة أو يضعفها.

3. دراسة أخرى لتسريع بناء المستوطنات في الضفة الغربية في الوقت الحاضر، وهي خطوة قد تؤدي إلى أزمة في العلاقات مع المجتمع الدولي، وخاصة مع الإدارة الأمريكية ودول اتفاقية إبراهيم، وكذلك رد فعل حاد من قبل السلطة الفلسطينية، وخاصة الانسحاب من اتفاقيات أوسلو، التي لديها القدرة على تقويض الواقع الأمني بشكل أكبرفي الضفة الغربية.

4 - زيادة الجهود ضد حماس، سواء الحد من نشاط الحركة في الضفة الغربية على جميع المستويات، أو الحد من المبادرات الاقتصادية السابقة التي تروّج لها "إسرائيل" في غزة، ووضع ثمن حقيقي لها، وهي ساحة تروج الحركة لأعمال المقاومة والتحريض الشديد في ساحات أخرى.

5. في الوقت الحالي، لا جدوى من تنفيذ تحركات مماثلة لعملية الجدارالواقي لعام 2002. في معظم مناطق الأراضي الفلسطينية، لا يوجد توتر أمني مشابه للتوتر في شمال الضفة الغربية، والدخول الواسع للجيش الإسرائيلي إلى جميع مدن الضفة الغربية لن يؤدي إلا إلى تفاقم التحديات الأمنية وقد يؤدي إلى إنهاء ووجود السلطة الفلسطينية؛ لذلك، يجب أن تكون التوترات في جنين بمثابة نوع من "دعوة اليقظة" الاستراتيجية لـ"إسرائيل"، ليس فقط من التهديدات الأمنية التي قد تتفاقم، ولكن من تغيير دراماتيكي ممكن وسيحدث في النظام الفلسطيني بأكمله أثناء الإسقاط بقوة على الواقع الداخلي لـ"إسرائيل"، وإلى حد كبير على هويتها الأساسية أيضًا.

وهذا يتطلب تطوير خطاب عام وسياسي مؤثر -وهو نادر الوجود- بشأن مستقبل العلاقات مع الفلسطينيين، وقبل كل شيء صياغة استراتيجية متعمقة وطويلة المدى بشأن هذه القضية الوجودية.