أحلام بطعم البوظة كوابيس بسبب الحرب

هآرتس

محمد عزايزة

ترجمة حضارات


كاتب المقالة هو من سكان قطاع غزة، وموظف ميدانيّ في جمعية "مسلك" للدفاع عن حرية التنقل للفلسطينيين والبضائع، من وإلى قطاع غزة.


في مطلع شهر أيار، خرجتُ في نزهة إلى شاطئ البحر في غزة، من جنوبه إلى شماله، الأجواء التي تجلّت من بين المظلات الملّونة بشّرت بإجازة الصيف الوشيكة، يتراقص الفرح والأمل في عيون شابة وقفت تنظر إلى البحر، وهي تستعد لبدء تمارينها الصباحية في المتنزه الجميل، تقاطعت نظراتها مع بسمة عامل شاب، أخذ يتأمّل البحر من المقعد الخلفيّ لسيارة "تندر" تقلّه وعمالًا آخرين إلى أماكن عملهم.

قلت لنفسي إنّنا نستعد جميعًا لاستقبال الصيف، وما يحمله من بهجة يفتقر إليها حيّزنا الضيق، الذي نشعر بأنه المكان الأكثر اكتظاظًا على سطح الكرة الأرضية.

في إطار عملي منذ أكثر من عقد في جمعية "مسلك"، التي تدافع عن حق الفلسطينيين والفلسطينيات سكان القطاع في التنقّل، أعرف عن كثب أحلام العديدين، ويسعدني دعمهم في تحقيق جزء بسيط منها.

التقيت في ذاك اليوم بصاحب مصنع مثلّجات، يحلم ببيع منتجاته في الضفة الغربية.

تجدون في غزة أشهى المثلجات، ولا أبالغ في ذلك، وهي قادرة على التنافس مع أية مثلّجات أخرى في العالم.

في السابق، قبل أنّ تحظر "إسرائيل" بشكل قاطع خروج المنتجات المحلية من غزة، كانت صناعة المثلجات القديمة في القطاع المصدر الرئيسي للمثلجات، التي كانت تباع في الحوانيت في الضفة الغربية و"إسرائيل".

مؤخّرًا، بعد نضال قضائي بادرت إليه جمعية "مسلك"، بدأت "إسرائيل" بالسماح لبعض الشركات في غزة بنقل بعض الحلويات والتسالي، مثل الكريمبو والبسكويت، إلى الضفة الغربية، حيث تسوّق في الحوانيت.

تُنقل هذه التسالي إلى الضفة الغربية في ظروف معقدة وصعبة، تمسّ إلى حد كبير بالجدوى الاقتصادية، ولكنّ صاحب مصنّع المثلّجات يبدو متفائلًا، تعترف "إسرائيل" بالمواد الخام المستوردة من شركات عالمية شهيرة؛ حصلت مثلّجاته على جميع المصادقات التي تطلبها "إسرائيل"، بما في ذلك علامة الجودة الدولية؛ الأسواق في غزة تنتظر استلام مثلّجاته؛ تسويق مثلّجاته هناك قد يشكّل فرصة لتوسيع مصلحته التجاريّة وتوفير فرص عمل إضافية في المصنع.

كل ما يحتاج إليه، هو أن توافق السلطات الإسرائيليّة على طلبه بنقل مثلّجاته عبر معبر كرم أبو سالم، ولكنّه لم يتلق بعد أي رد- سواء بالرفض أو القبول.

ما سبب التأخير، وإلى متى سيستمر؟ عندما يدور الحديث عن منظومة التصاريح الإسرائيليّة، فإنّ العِلم عند الله وحده.

خلدت إلى النوم مرددًا في ذهني أنّني سأشارك زملائي يوم غد، بقصة المثلّجات العالقة في بيروقراطية الاحتلال، وسأخطط معهم لحملة تساهم في إخراجها من القطاع.

ولكنني استيقظت على فيضٍ من أنباء تذكر بواقعنا المؤلم والمألوف جدًا، قصف منازل وعائلات، نساء وأطفال، وقصص كل واحد وواحدة منهم.

كما في أي هجوم عسكريّ على قطاع غزة، يحرص موظّفو وكالات الأنباء على توثيق الأضرار والإصابات، ويحاورون أشخاصًا يصفون الثبات والصمود النفسي والمعنوي لدى سكان القطاع، على الرغم من الظروف الحياتية الصعبة المليئة بالحزن والألم.

ولكنّ الواقع الذي لا يُعرض على الشاشات، مختلف تمامًا، يجب أن نعيش، ولكننا نُقتل رغمًا عنا.

الشيء الوحيد الذي يختلف من جولة لأخرى، هو موقعك في معادلةٍ لا يمكن لأيٍ من سكان غزة الفرار منها، إما أن تكون بين الناجين، أو أن تُدرج في قائمة الضحايا.

ليست هذه المرة الأولى التي أحاول فيها وصف لحظات الرعب، التي نعيشها أثناء أية "عملية عسكرية"، سَئِمت هذا الشعور المتكرر كأسطوانة مخدوشة.

من جولة لأخرى، وصف شعورك بالخوف من الموت يفقد أهميته، لم تعد هناك حاجة لأن أصف كيف يستوطن الرعب جسدك ويستحوذ على أفكارك طوال الوقت؛ أما عن أطفالك، فتظل وجوههم في حالة شحوب دائم.

تضطر للإجابة مجددًا عن أسئلتهم بطريقة مختلفة"، "لماذا يموت الأطفال في مدينة غزة؟"، سألتني ابنتي، البالغة من العمر ستة أعوام"، "هل سيموتون لدينا أيضًا، في دير البلح؟"، قلت لها إنّني لا أعرف، وإنّ الخوف حق مشروع".

"يحق لك أيضًا العيش بأمان"، أضفتُ، "ولكن الحقوق في غزة منتهكة".

بعد أن أعلنوا عن وقف إطلاق النار، انتظرت شروق الشمس واتصلت بطه، شاب يعمل في السِباكة، أنبوب المياه الرئيسي في المنزل تعطّل، وخلال فترة القتال، اضطررت لانتظار عودة التيار الكهربائي، لساعات معدودة فقطـ، لتشغيل المولد الصغير الذي يمكّنني من ضخ المياه.

ابتسم طه: "لقد نجونا، يا أبو شريك"، خاطبني قائلًا قبل انهماكه بالعمل. ذهبت لأهدئ من روع ابني الصغير، والذي لم يغمض له جفن، مثل شقيقته، طوال الليل من شدة القلق والخوف ("نعم، أعتقد أن وقف إطلاق النار حقيقيّ")، ثم خرجت من المنزل لأرى ما ألمَّ بأحد الأحياء السكنية في دير البلح، الذي قُصف بشكل مروع.

يشتهر هذا الحي بشدة اكتظاظه، فمنازله متلاصقة، حرفيًا. يعمل سكان الحي في الزراعة وفي قطاعيْ الصحة والبناء، عشتُ بينهم، تعلمنا في نفس المدارس، كنا شركاء في الأفراح والأتراح، كل من يرى الحي الآن يدرك حجم الدمار والظلم اللذين ألمّا به: عائلات كاملة فقدت منازلها بدون أي ذنب.

كلّ الجهود التي استُثمرت، كلّ الإنجازات التي تحقّقت على مدار سنوات طويلة، اندثرت بلحظة واحدة.

أخذت أجوب الشوارع وأوجّه لأصدقائي بعض كلمات الدعم والمواساة، "الله يعوضكو، المهم سلامتكو"، كلمات عبثية لا عزاء فيها. "لقد عدنا 60 عامًا إلى الوراء"، أجابوني.

تجلت أمام ناظري شيئًا فشيء شقق في حالة مزرية إثر القصف، بنيت إحداها على يد صديق كان ينوي الزواج قريبًا، فور التقائي به، أخذ يتحدث أمام كاميرات إحدى الهيئات الإعلامية: "أنا في الـ28 من عمري، أعمل في مخبز".

كرّست خمس سنوات من حياتي لبناء منزل الزوجية، وقد تفرغت أخيرًا لتركيب الأثاث. سمعتهم فجأة يقولون لنا "اخرجوا، سنقصف مواقع مجاورة"، هربنا، عدنا ورأينا أن الجدران هدمت والشقة هدمت، لم يعد هناك مطبخ، لم أسدد بعد دين الشقة".

فضّلت عدم الإزعاج وابتعدت عن المكان، محاولًا نفض الغبار عن ملابسي دون أن يرى ذلك أطفال المنطقة، الذين كانوا يبحثون عن أغراضهم المفضلة بين الأنقاض.

اقتربت من المكان طفلة صغيرة شقراء، شعرها المجعد يغطي جزءًا من وجهها المتعب، كانت قدماها الحافيتان مبللتين، وبنطالها الأسود مغطى بالغبار، حاولت فتح علبة مثلجات صغيرة بطعم التوت، سعر هذه المثلجات في قطاع غزة شاقل ونص، وكانت ستجد فيها عزاء ما.

تذكرت الخطة التي بادرت إليها عشية الحرب، إطلاق حملة تدعم تصدير المثلجات من مصنع في غزة إلى الضفة الغربية، وأطلقت ضحكة مريرة.

في أعقاب الأحداث، بدت لي الخطة ساذجة جدَا، لاحقًا، في طريق عودتي إلى المنزل، استعدت رباطة جأشي.

أوحت لي الطفلة الصغيرة بوجوب وقف الحرب النفسية التي أدرتها مع نفسي، وعدم الاستسلام لليأس. نعم، إنها اللحظة المناسبة للعودة إلى عملي من أجل حقوق الإنسان لسكان غزة، من بينهم هذه الطفلة، التي تستحق الحرية والعيش الكريم.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023