أوسلو وكذبة الاعتراف المتبادل
بقلم المستشار/ أسامة سعد
كان من أعظم خطايا اتفاق أوسلو، الاعتراف بحق (إسرائيل) في الوجود وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة، وفي المقابل وافقت (إسرائيل) على الاعتراف باعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، تلك الصيغة التي سميت كذباً الاعتراف المتبادل، ووصفها أمين سر منظمة التحرير في ذلك الوقت ياسر عبد ربه بأنها لم تكن صيغة عادلة ولا منصفة، ورغم ذلك وافقت عليها منظمة التحرير على الرغم من أنها لم تتضمن الاعتراف بدولة، ولم تتضمن الاعتراف بحدود للفلسطينيين وفقاً لتعبير عبد ربه.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا كانت منظمة التحرير حريصة كل هذا الحرص على الاعتراف بالعدو وملكيته للأرض الفلسطينية "كلها حتى ذلك الوقت"، مقابل فقط أن يعترف العدو بالمنظمة ممثلاً للفلسطينيين رغم أنها منذ عام 1974 عضو مراقب في الجمعية العامة، وفي ذلك العام ألقى ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير خطابه الأول فيها، باعتبار المنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني أمام العالم بأسره، أم أن المنظمة كانت تخشى أن تفقد هذه الصفة بحكم الأمر الواقع، حيث كان هناك وفد مفاوض من الأراضي المحتلة برئاسة الراحل حيدر عبد الشافي الذي كان يصر على انسحاب "إسرائيل" من الأراضي المحتلة عام 67 بالكامل واعترافها بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.
يدَّعي بعض المحللين أن لأوسلو بعض الإيجابيات، منها المحافظة على الكيانية الفلسطينية، وتشكيل كيان سياسي فلسطيني يمثل الفلسطينيين أمام العالم، ولكن يُرَدُّ على هذا الطرح بأن منظمة التحرير أُنشئت في عام 64 استجابةً لقرار مؤتمر القمة العربية المنعقد عام 64 في القاهرة، ومنذ ذلك الوقت والمنظمة تمثل الشعب الفلسطيني رسمياً أمام المحافل الدولية، وتحظى باعتراف العرب والدول الإسلامية وكثير من دول العالم، حتى إن إعلان دولة فلسطين بالجزائر عام 1988 حظي باعتراف عدد من دول العالم أكثر من تلك الدول التي تعترف بـ(إسرائيل) في ذلك الوقت، منها دولتان عظميان هما روسيا والصين.
إذن لم يكن ينقص الشعب الفلسطيني كيان سياسي يمثله أمام العالم لتتنازل منظمة التحرير عن أصل الحق الفلسطيني بأرض فلسطين لتنال اعترافًا "إسرائيلياً" بها ممثلةً للفلسطينيين، وكأن اعتراف كل الدول العربية والإسلامية والأجنبية التي اعترفت بفلسطين، لم يكن كافياً أو مهماً لدى المنظمة لتسعى أن تعترف بها (إسرائيل) وتقوم في سبيل ذلك بالتنازل الأهم للاحتلال بالاعتراف به، وبذلك فتح الباب على مصراعيه لاعتراف دول العالم التي كانت تتضامن مع الشعب الفلسطيني وتحجم عن الاعتراف بـ(إسرائيل) احتراماً لهذا التضامن وبذلك حققت (إسرائيل) مكاسب سياسية واقتصادية عظمى لم يكن لها أن تحققها لولا الاعتراف الفلسطيني بها، بل وإقدام عدد من الدول العربية على الاعتراف بـ(إسرائيل) وتطبيع العلاقات معها استناداً للاعتراف الفلسطيني الرسمي بها، فقد زعموا أنهم لن يكونوا ملكيين أكثر من الملك.
اليوم وبعد مرور ثلاثين عاماً على اتفاق أوسلو، لم تعد الحكومة الإسرائيلية الحالية تنكر حل الدولتين فقط، بل تدعو لاجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية من جذورها، كما قال نتنياهو تلك الفكرة التي قامت عليها اتفاقية أوسلو، كما يدعي منظروها بزعم أن المفاوضات كانت على أساس القرارين الدوليين 242 و 383، رغم أن هذين القرارين لم يشيرا من قريب أو بعيد لإقامة دولة فلسطينية، وإنما كانا يدعوان (إسرائيل) إلى الانسحاب من "الأراضي العربية" بالنص العربي و"أراضٍ عربية" بالنص الإنجليزي التي احتلتها عام 1967، ولاحظ أن القرارين الدوليين لم يتحدثا عن أرض فلسطينية، وإنما عن أرض عربية، والفرق بينهما كبير وكبير جداً، وبالتالي لم تكلف (إسرائيل) نفسها عناء التوصل إلى إقامة هذه الدولة.
والأمر الغريب أن المنظمة التي ارتكبت هذه الخطيئة التاريخية بأن منحت للمحتل كل شيء مقابل الحصول على وعود غير مكتوبة، وإنما وعود شفهية من رعاة عملية السلام وخصوصاً الإدارة الأمريكية التي لم تمارس يوماً ضغطًا حقيقيًا على الاحتلال ليوافق على دولة فلسطينية، وكما يقول ياسر عبد ربه: لقد قدمنا كل شيء وننتظر الحصول على ما وعدنا به، وطوال هذه المدة فإن المنظمة لم تحاول أن تُكفِّر عن خطيئتها بعد هذا الفشل الممتد لثلاثين عاماً بسحب الاعتراف، وإنما لا يزال هناك إصرار غير مفهوم على الاستمرار في السير في نفق أوسلو ورفض كل دعوات التحلل من هذه السقطة التاريخية. ولعلي لست مخطئاً عندما أقول إن السبب الذي دفع منظمة التحرير في عام 93 إلى ارتكاب خطيئة الاعتراف بالاحتلال ما زال قائماً ويمنع قيادة المنظمة من سحب الاعتراف الذي أظنه أصبح يشكل لها نوعًا من الشرعية المكتسبة من الاحتلال والإدارة الأمريكية، وتخشى في حال سحب الاعتراف أن ينتهي دورها بفعل الأمر الواقع على الأرض، والتفاف الشعب الفلسطيني حول المقاومة، وفقدان الثقة تمامًا بمسار السلام، وهو ذات السبب الذي جعلها تقبل الاعتراف عام 1993م رغم أن صيغته غير عادلة وغير منصفة كما قال ياسر عبد ربه.
13/09/2023م