هل يمكن أن تكون التضحية عبثية؟
بقلم المستشار/ أسامة سعد
تتعدد وتختلف أشكال التضحية وفقًا للهدف الذي يُضحى من أجله، وغالبًا ما تسمو قيمة الهدف سواء أكانت معنوية أو مادية على قيمة ما يُضحى به، وفي سبيل ذلك تكون التضحية قيمة إنسانية رفيعة قد لا يصل إلى مقامها كثير من الناس، وقد يكون الدافع لهذه التضحية غريزيًّا كأن تضحي الأم من أجل فلذة كبدها، ولذلك حينما تقدم على التضحية فإنها لا تقيم وزنًا لمقدار الربح أو الخسارة الشخصية لها مقابل ما تضحي به؛ فغريزة الأمومة لديها تدفعها إلى التضحية، وبالضرورة تكون هذه التضحية مصحوبة بالرضا التام الناتج عن عمق الحب الذي يكتنف الأم تجاه فلذة كبدها، ولذلك نجدها تضحي دون مقابل، وهناك صورة أخرى للتضحية يُقدِم فيها الإنسان على التضحية، ولكن هذه التضحية يراد منها مقابل متوقع، مثل أن يضحي الإنسان بوقته وجهده وماله من أجل بناء مستقبله، وفي هذه الحالة أيضًا تكون التضحية مشمولة بالرضا التام وأحيانًا الشغف، لأن المقابل المنتظر هو حلم أو أمل يسعى له الإنسان، وتتملكه السعادة الغامرة والفرح الشديد عند تحقيقه حلمه، وتتصاغر في سبيل هذا الحلم المتحقق التضحية التي بُذلت، ولا ينتاب الإنسان أدنى مقدار من الندم أو الحزن على ما قدم من تضحية عند تحقق الهدف، وفي المقابل يكون مقدار الألم والندم شديدًا على ما قُدِّم في حال عدم تمكن الإنسان من تحقيق هدفه، وهناك أيضًا نوع آخر من التضحية التي لا تكون إلا بمقابل معين ومحدد، ومثالها العامل أو الموظف الذي يبذل وقته وجهده وعرقه وعمله وخبرته مقابل الحصول على أجر ما اتفق عليه، وفي هذه الحالة يدخل غالبًا حساب مقدار التضحية مع مقدار الهدف أو الأجر المتحقق لقاء بذل هذه التضحية، وغالبًا ما تنتاب هذه الشريحة عوامل الشك في جدوى التضحية التي يقدمها إذا ما شعر بأن الهدف المتحقق لا يتناسب مع مقدار التضحية المقدمة، وتزداد نسبة الشك كلما قلت قيمة الهدف في عين المضحي، وقد تستفحل هذه الحالة لتصل إلى الشعور بعدم جدوى التضحية، ومن ثم الفتور الشديد في الإقدام عليها؛ الأمر الذي يؤثر بلا شك في معادلة التضحية والهدف؛ ما يؤدي إلى وجود حالة من الإحباط المركز الذي يؤدي بدوره إلى ضعف الإنتاجية وتراجع الأداء.
وهناك شكل من التضحية هو الأهم والأعظم؛ وهو التضحية من أجل فكرة سامية، كالتضحية من أجل الوطن أو العقيدة أو القيم الإنسانية النبيلة، وتلك التضحية غالبًا ما تكون عظيمة القيمة قد تصل إلى حد التضحية بأعز ما يملك الإنسان، مثل روحه وحريته وماله وأبنائه، ويكون ذلك هينًا على نفس المضحي ما دام إيمانه راسخًا بالهدف الذي يضحي من أجله، ولذلك يجب أن يكون السعي إلى الهدف في هذا النوع من التضحية واضح المعالم دقيق الخطى واثقًا، ولا تتحقق هذه المعاني إلا بدراسة عميقة وقرارات رصينة وإرادة صلبة، لأن التضحية في سبيل تلك الأهداف عزيزة وغالية، بل هي الأغلى على الإطلاق، وعليه فإن سوء التخطيط أو عشوائية القرارات أو ضعف الإرادة، ستؤدي بلا شك إلى إهدار تضحيات غالية دونما جدوى، وقد تكون التضحية في هذه الحالة بلا معنى، فقد تصل إلى مرحلة التضحية العبثية، كمثال من يخوض حربًا وهو يعلم يقينًا بأنها خاسرة على الصعيد المادي أو المعنوي، فالحرب يجب أن تخاض وهي محسوبة النتائج، إما لنصر حاسم وإما لتعديل قواعد اشتباك وإما التمهيد لاتخاذ قرارات مصيرية، وقد تكون القيمة في خوض المعركة بحد ذاتها هي الهدف لهذه الحرب إذا ما فرضت على صاحب الرسالة، وهنا يراد الجانب المعنوي المتمثل في الصمود والتصدي في الدفاع عن قيمة عظمى يكون الموت في سبيلها بحد ذاته شرفًا. والتضحية في سبيل الوطن والعقيدة والفكرة لا يمكن أن تكون عبثية حتى لو ظن البعض أن الهدف فقد أي قيمة مادية أو معنوية، وهنا تكمن أهمية القيادة الحكيمة ذات الرؤية الثاقبة القادرة على اتخاذ القرارات الصحيحة في اللحظات الحاسمة، فإذا فقدت القيادة هذه الرؤية وهذه القدرة لا سمح الله، فقد تؤدي قراراتها إلى كوارث لا يمكن تدارك آثارها.
أظن أن شعبنا الفلسطيني أكثر الشعوب تضحية وأكثرها جراءة وإقدامًا وإصرارًا وتحملًا، ويجب على قيادته أن تكون دائمًا على قدر هذه المسؤولية العظيمة، وتكون مسؤوليتها أعظم وأكبر في اتخاذها القرارات في اللحظات المفصلية لكي تستثمر كل تضحية عظمت أو صغرت وتجعل منها سهمًا في التقدم نحو الهدف البعيد ألف ميل ولو بخطوة واحدة.
20/09/2023م