بقلم د. محمد إلهامي
هل انتصرنا إعلاميا في هذه المعركة؟
الإجابة: صدقا، لا أعرف.. لكنني أعرف جيدا أننا نتناقل فيما بيننا الآثار والثمرات الإيجابية لـ (بعض) مجهودنا الإعلامي باللغات الأجنبية.. فهذا مراسل يقول كذا، وهذه حلقة تفوق فيها فلان على المذيع الغربي الفلاني، وهذه عينة من بعض الناس اكتشفت الحقيقة... إلخ!
ولكن هل هذه الثمرات حقيقية ومؤثرة في المجتمعات الغربية؟ أم أننا نحتفي بالقليل الذي حصل ولو في دوائر محدودة؟..
لن أستطيع الإجابة! لدينا مواقف شبيهة عبر التاريخ تخبرنا بأن الانتصارات في هذا المجال كانت متضخمة في أذهاننا.. مثل الحادي عشر من سبتمبر، لا شك أن بعض الناس أسلموا واكتشفوا حقيقة أمريكا، لكن الذي حصل عمليا وعلى واقع الأرض أن موجات الإسلاموفوبيا كانت أضخم بكثير، كذلك كانت الإجراءات الأمنية والحربية التي اجتثت المسلمين أضخم بكثير.. ولا ريب أن المحصلة النهائية لم تكن في صالحنا.
وهذا التصور لا يعني الآن تقييما لحادثة سبتمبر نفسها، فهذا موضوع آخر أطول وأكثر تعقيدا، ولكنه يعني: أن مجهودنا الإعلامي باللغات الأجنبية لم يكن فارقا ومؤثرا كما كان يتصور الذين عاشوا تلك الفترة.
يمكن أن نذكر مثالا آخر، وهو حرب العراق.. لقد خرجت مظاهرات هائلة في أوروبا وأمريكا ضد الحرب، وكتب ضدها عدد من مشاهير الفكر والصحافة من ذوي الأسماء الثقيلة.. ومضت السياسة تدوس على كل هؤلاء ووقعت الحرب أيضا.
وبدون أن أدخل الآن في تفاصيل كثيرة ولا في نقاش معمق، والوضع نفسه لا يحتمل، سأقول ما أريد بشكل مباشر ومختصر:
1. فلنلاحظ جيدا أن "انتصاراتنا" الإعلامية في هذه الحرب قامت بها تقريبا شبكة رسمية واحدة (الجزيرة) ثم البقية مجهود شعبي محض من المؤثرين في شبكات التواصل الاجتماعي.. بقية القنوات الرسمية والحكومية التي تأكل المليارات سنويا، كانت ضعيفة وعاجزة وتافهة، أو كانت منحازة منضمة إلى إسرائيل! وهذا يعني، ببساطة ومع تكرار لن أمل منه أبدا، أن هذه الأنظمة العربية هي أنظمة خائنة ومتواطئة، وهي الخط الأول من الجيش الإسرائيلي، بل هي أهم فرق الجيش الإسرائيلي كفاءة، لأنها بوجوه عربية وألسنة عربية واستطاعت أن تكبل العرب وتقيدهم بما لم تستطعه إسرائيل، بداية من سلطة محمود عباس (التي كبّلت أهل الضفة) ومرورا بسائر العواصم العربية.. ولا ننسى تقديم تحية خاصة للنظام الإماراتي الذي صعد بقوة الصاروخ ليحتل موقع الصدارة في الخيانة!
2. في ظل غياب الخلافة، وغياب الزعامة القائدة، سيغيب المشروع الجامع، ويغيب توظيف المواهب، ومن هنا سينطلق كل فرد ليفعل ما يرى أنه يحسنه، ولا ريب أن هوى النفس ربما دخل في هذا الاختيار فقرَّب إليه الفِعْلَ الآمن والسبيل الأسهل، وبَعَّد عنه الاختيار الأهم إن كان شاقًّا. لكن، سأتخيل أنني أملك الآن عددا من الطاقات والمواهب التي تجيد خوض المعركة الإعلامية مع الغرب، وباللغات الأجنبية.. في هذه الحال، سيكون اختياري أن لا أضع في هذه المعركة إلا من (يعجز) عن كل شيء آخر، سأضع في هذه المعركة حصرا من لا يجيد إلا هي. السبب في ذلك: أن المجهود الذي سيبذل لتحويل قناعات رجل غربي من الجهل إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى الحياد، ومن الحياد إلى التعاطف، ومن التعاطف إلى التضامن والعمل.. هذا المجهود المبذول، لو أنني أنفقته في عربي لتحول إلى مقاتل أو داعم للمقاتلين!
العربي المسلم يمتلك من المخزون والطاقة والثقافة ما لا يحتاج معه إلا إلى مجهود قليل لتفعيله.. إنه الفارق بين ما سيبذله المقاتلون مع متدرب مستعد لا يحتاج إلى فنيات العمل الأخيرة، وبين رجل لا يعرف عن المعركة شيئا. فكل من كان يجيد شيئا سوى مخاطبة الغرب بلغتهم، نحن أولى بهذا الشيء أن يُنفَق هنا في بيئاتنا ومجتمعاتنا.. وأما من رزق هذه الموهبة لا غيرها فلنضعه في ثغره هذا.
3. البديل الذي يُعَوّض غياب الخلافة والقيادة والمشروع الجامع هو الصدق والإخلاص لدى الفرد نفسه.. فذلك الفرد هو أعلم الناس بنفسه وطاقته ومواهبه وإمكانياته.. فلو أنه اختار السبيل السهل فقد خان الأمانة، الأمانة التي أودعه الله إياها، والمواهب والنعم والإمكانيات التي رزقه الله بها.
وبدون أي تقليل من أهمية المعركة الإعلامية مع الغرب، فإن المجهود المبذول فيها سيكون دائما هو المجهود الأقل في السبيل الآمن وضمن السقوف المتاحة والمسموح بها. فإذا كنتَ صادقا في نصرة إخوانك، فها أنتَ تراهم يضحُّون بأنفسهم وأرواحهم ودمائهم وعائلاتهم وبيوتهم وأمنهم وأموالهم كلها.. وليس من الصدق أن تختار المعركة الآمنة السهلة إن كانت لديك بعض القدرة على خوض مجال حقيقي وفعّال لأنه أقل أمنا.. فحتى من لا يملك سوى الكتابة وسوى مقاطع الفيديو يجب أن يسخر هذا لكسر السقوف وخرق الخطوط الحمراء، فإن الحل فعلا كامن في كسر سقوف الوعي وخرق الخطوط الحمراء التي وضعتها الأنظمة!
لو كنتَ ستصدقني في أمر واحد فقط، فصدقني في هذه: النصر في المعركة يصنع الأنصار والجماهير أسرع وأكثر ألف ألف مرة مما يصنعه الإقناع والخطاب العقلاني والعاطفي!
وإذا أردنا حقا أن تتحول مواقف الشعوب الغربية إلى ما نريد، فالطريق الأسرع والأقصر هو سكب كل مجهوداتنا في سبيل انتصار المقاتلين على الأرض.
ألستَ تحفظ قول الله تعالى {إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا}؟!!.. النصر هو من يأتي بالأنصار! إنه أقوى وأكثر إقناعا من آلاف الخطب وملايين المقالات والمقاطع المرئية وعشرات ملايين التغريدات والمنشورات.
ألا ترى كيف أن النبي حين كان ضعيفا وعرض عليهم رسالته قالوا عنه: كاهن كذاب شاعر ساحر مجنون! فلما جاءهم بعد سنوات على جيش من عشرة آلاف قالوا له: أخ كريم وابن أخ كريم؟!!
لا ريب أن صناعة النصر، والتحول من موقف الذلة إلى موقف التمكين، سيحتاج مجهودا عظيما في الدعوة والإقناع والخطابة والكلام.. لكن هذا المجهود ينصبُّ بالمقام الأول على نصرة العاملين والمقاتلين، تعظيما لعملهم وتميهدا له وشرحا لدوافعه ومبرراته وتثبيتا لهم وشدا من أزرهم.. عندها يكون كلاما مفيدا فاعلا، ولا يكون كلاما في الهواء!
إن الصادق في محبته يكون كالمجنون، فإن لم يكن لديه إلا القول والكلام، فهو يقول الكلام المفيد، الكلام المخلوط بالصدق والإخلاص والعاطفة الحارة، لا يكتفي بالقول الهادئ الرتيب الممل الذي يسجل به الموقف!
الصادق في محبته يخرج من ثوب الأكاديمي الباحث البارد الرصين الذي يحلل المذبحة الساخنة كما يحلل عبارة فيلسوف يوناني قديم!
وما بين الكلام والقتال مساحات واسعة، كل امرئ أدرى بما يصنع فيها، بحسب ما رزقه الله من القدرة والإمكانية والطاقة والموهبة.
الأيام القادمة أيام عصيبة، لا يثبت فيها إلا فولاذي الإيمان، صادق الشعور، عظيم التضحية.. وعسى أن نلتقي بعدها في الجنة إن شاء الله!
د. محمد إلهامي