على بوابة سجن مجدو... اهلا بكم في الجحيم

عيسى قراقع

سياسي فلسطيني ووزير شؤون الأسرى والمحررين السابق


بقلم: عيسى قراقع

منذ لحظة اعتقالي من البيت، بدأ الضرب والتكسير والتنكيل والصراخ، فجروا الباب، دمروا كل شيء، نشروا الرعب، جنود متهيجون مسلحون بكل أنواع الأسلحة، البنادق والعصي والدروع والكلاب المفترسة، هجموا على النائمين والحالمين بعد منتصف الليل، اعتدوا على الأولاد والبنات، زعقوا وانقضوا على الجميع كأنهم يقتحمون حصنا او قلعة، فوهات البنادق في وجوهنا، مدرعات وسيارات عسكرية تحيط المنزل من كل الجهات، فتشوا كل اركان البيت، الخزائن والاسرّة، الحيطان والأجهزة وأدوات المطبخ والطعام والكتب وعاثوا خرابا بكل ما وقعت عليه أيديهم، خطفوني وقيدوني ووضعوا كيسا اسود على رأسي، جروني الى سيارة عسكرية، بطحوني على ارضيتها، دعسوا على رأسي، وانهالوا ضربا مبرحا وبصقا وتكسيرا، ومارسوا فوق جسدي كل فنون الابداع الوحشي واخذوا يرقصون ويغنون مبتهجين باصطياد الفريسة.

هل أنا في قبضة وحوش منتشين ومستئذبين ولا يشبعون، عروني من كل ملابسي، الدماء تسيل من كل انحاء جسدي، انا في نصف غيبوبة، وامام سجن مجدو العسكري انزلوني وقالوا لي: اهلا بك في الجحيم، وفي ساحاته الباردة المعتمة حيث يقبع المئات من الاسرى، اسمع التأوهات والآلام والصرخات الموجعة، الكل مبطوح على الأرض، الدوس فوق اجسادنا بالبساطير المدببة، الضرب العنيف ثم الجر والسحل، جولة وراء جولة، اطفأوا السجائر في اجسامنا، كانوا يسخرون من اجسادنا العارية، يوجهون الركلات الى المناطق الحساسة، يحاولون اغتصابنا بالعصي والانابيب، يطلبون منا ان نعوي كما الكلاب، ان ننشد النشيد الوطني الإسرائيلي، ان نركع ونقبل العلم الإسرائيلي، بصاق في وجوهنا، موسيقى حربية شيطانية حولنا، هل سنموت الآن؟ الرؤوس محنية، الدماء تنزف بشدة، ويأمروننا ان نقول: شعب إسرائيل حي، يحقروننا بالشتائم ويتلذذون على آلامنا، يشدون القيود اكثر واكثر، تأتي المجندات ويلتقطن الصور، ونحن نتساءل متى ينتهي هذا الاستعراض من الهمجي؟

اهلا بكم في الجحيم، في داخل غرف التوقيف بالسجن تشتعل نار الكراهية اكثر، المعتقلون معزولون عن العالم الخارجي، الاقسام والغرف معزولة عن بعضها البعض، تحولت غرف الاسرى الى زنازين مغلقة، وقد نهبوا كل شيء، صادروا الملابس والاغطية والمواد الغذائية والكتب والأجهزة الكهربائية، وشفرات الحلاقة، صادروا الفرشات وينام الاسرى على الأرض والحديد، حالة اكتظاظ خانقة وبرد شديد، لم يبق شيء، عدنا الى عصور ما قبل التاريخ، لا خروج للساحة، لا مجال للتنفس والكلام، حفلات الضرب والتفتيشات والاقتحامات مستمرة ليل نهار، الكهرباء مقطوعة، المياه مقطوعة، تنقلات مستمرة، عزل في الزنازين، لا احد يزورنا، لا الاهل ولا المحامين ولا الصليب الأحمر، حياة معدومة، اشبه بالخواء، يجبروننا على الانحناء خلال العدد اليومي ووضع أيدينا فوق رؤوسنا، ويأتي المتطرف ابن غفير لزيارتنا، ويتأكد اننا نتعرض للضرب يوميا، نهان على مدار الساعة، نذل ونزج في زنازين ضيقة وقذرة ومعتمة، ويتأكد اننا لا نستحم، واننا نجوع بسبب تقليص كمية الغذاء، واننا لا نسمع الاخبار ولا نعرف ما يحيط بنا، ولا يقدم لنا العلاج، مدفونين في هذا الجحيم الذي يسمى السجن.

اهلا بكم في الجحيم، واذا كانت الحرب على غزة بالإبادة الدموية والقنابل والجرائم والمجازر، فإن هناك حربا متزامنة وعدوانا غير مسبوق يشنه المستعمرون الصهاينة منذ 7 أكتوبر 2023 على المعتقلين الفلسطينيين، اعتقالات جماعية يومية، التنكيل والتعذيب والضرب وسحق انسانية الانسان، مشاهد مروعة وفظيعة رآها كل الناس ونقلتها شهادات الاسرى الذين افرج عنهم، ربما لم يحدث ذلك بهذه البشاعة في تاريخ الحركة الفلسطينية الاسيرة، وقد أعاد الكيان الصهيوني السجون الى العصور الوسطى، عصور البدائية والبربرية وابتكار كل أساليب القتل والذبح والتعذيب النفسي والجسدي، بهدف الاعتداء على الذات الفلسطينية والهوية الوطنية وتجريد الانسان الفلسطيني من انسانيته والغائها.  

اهلا بكم في الجحيم، جحيم عوفر ومجدو والنقب ونفحة وعصيون وجلبوع وشطة والدامون وغيرها من المعسكرات والسجون، ترسانة من فنون التعذيب والعزل والحرمان لم يشهدها حتى سجن أبو غريب الذي أقامه الامريكيون في العراق، لا يوجد قانون في التعامل مع الأسير، مسموح كل شيء، مسموح ان تقوض وتهدر إنسانية الانسان دون رقيب او محاسبة، مسموح ان يتحول الأسير الى ذبيحة معلقة على أعمدة السجون ومصلوبة على حيطانها حتى تشل الإرادة والقدرة على المقاومة، مسموح ان يدمر الجلادون والسجانون والجنود الطاقات الجسدية والنفسية للإنسان الأسير لإيصالها الى مرحلة الاستسلام والخروج من المعركة، مسموح ان ترتكب كل أنواع الكوارث بحق الأسير وعائلته، ان يتحول جسد الأسير ملكا للجلاد يتصرف به كما يشاء، لا احد هنا في هذا الجحيم، لا قانون دولي ولا أمم متحدة ولا صليب احمر ولا مواثيق حقوق انسان، لا يوجد سوى روح العسكرة والفاشية، حفلات الترفيه والتلذذ بآلام الضحية.

على بوابة سجن مجدو: اهلا بكم في الجحيم، خمسة اسرى استشهدوا في هذا الجحيم في اقل من شهر، آلة القتل مستمرة ومخيفة، المدرعات الصهيونية جاءت من غزة الى السجون لتستفرد بالأسرى العزل، فالفلسطيني مخلوق حقير لا يستحق الحياة، ودولة الكيان الصهيوني تقوم بمهمة تاريخية في القرن الواحد والعشرين، يسجلون صفحات بطولية في هذه الحقبة من التاريخ، يقومون بالمعجزة، يعتقلون الأطفال والنساء والشبان والمرضى وكبار السن والعمال، فإما ان تكون في السجن او تكون في المقبرة، هذه هي العقلية الصهيونية، هذا هو الوعي الصهيوني الذي يبرر دينيا وسياسيا وقانونيا ويدعم عالميا واخلاقيا بمنطق البقاء للاقوى، ولا احقية للفلسطيني في هذه الأرض او في هذه الحياة، قتل الفلسطيني وتعذيبه صار رياضة وتسلية ومجال للاثارة وللمتعة بنشر الفيديوهات عن مشاهد الاذلال للأسرى، بالضبط كما كانت الألعاب الرومانية التي اغرقت روما بالدماء، فالوحوش تفترس غزة وتنتهك كرامة الاسرى، وتعتقد ان قتل الاخرين هو فرصتها الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.

اهلا بكم في الجحيم، دولة الكيان الصهيوني هائجة، نشوات إجرامية وسادية عارمة، ويدعي هؤلاء الصهاينة انهم جاءوا من أوساط مذعورة، وحملوا معهم تربية مذعورة، ينتقمون الآن من ذعرهم السابق المخبوء في انفسهم من كل فلسطيني، وقد وصلوا الى ذروة الانحطاط البشري، وشبق الحيوانية الغريزية الأولى لتثبيت نظرتها العرقية الفوقية بالإرهاب والمجازر وحصد أرواح الناس، وتبقى في حالة استنفار دائمة، تبني المعسكرات والسجون والابراج وغرف التحقيق وتشن الحروب، ملتصقة بجراثيم التطرف والنازية ونقل العدوى الى كل ارجاء العالم، لتصير اكبر دولة طغاة في العصر الحديث، ان هؤلاء الجلادين ينقلون زنزاناتهم وسياطهم ووحشيتهم معهم أينما تنقلوا، ويحولوا المجتمع الإنساني كله الى زنزانة واحدة، كل انسان فيها معرض للضرب والاذلال والاهانة والسلب في اي لحظة.  

اهلا بكم في الجحيم، لكننا نحن الاسرى سنخرج من هذا الجحيم كما خرجنا الف مرة، السجون والمعسكرات الصهيونية هي اكبر مدرسة للثورات والانتفاضات، يفهم ذلك قادة تل ابيب ومسؤولي إدارة السجون، فالإرادة الحرة قادرة على الانبعاث والولادة، الإرادة لا تفنى، يفهم ذلك هؤلاء الذين يعتقدون ان القوة تصنع لهم دولة وحقا وهوية، وسيشهد المجتمع العالمي اننا نقف الان امام مفترق الزمان، زمن الفلسطيني الخارج من الظلال والنكبات والانقاض الى وضوح الحقيقة وسطوع الشمس، وان دولة الكيان الصهيوني تشهد نهايتها وتنتحر أخلاقيا وقيميا وانسانيا وحضاريا امام اسير فلسطيني يكتب بجروحه النازفة:

نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من ارضنا  

نعم لن نموت، نعم سوف نحيا

ولو اكل القيد من لحمنا

ولو مزقتنا سياط الطغاة

ولو اشعلوا النار في اجسامنا.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023