إسرائيل.. حيث يتعرى الغرب من كل مزاعمه

د. ياسين أقطاي

كاتب وأكاديمي وسياسي تركي


إن وجود إسرائيل على أنها "دولة قومية" ينفي بحد ذاته كل ما يدعيه عالم اليوم من حداثة وديمقراطية ويضرب به عرض الحائط. بمعنى آخر، إن إسرائيل هي المكان الذي سقطت فيه جميع مزاعم العالم الديمقراطي الحديث عن نفسه. كما أنها أكثر مكان تكشف فيه أوروبا عن سوءتها.


كل المزاعم التي تدّعيها الولايات المتحدة وأوروبا من حملٍ لقيم العصر الحديث والعالم المتطور، تسقط بفعل إسرائيل وممارساتها التي تلعب دوراً في إفشال كل هذه المزاعم من حيث لا تدري؛ حيث إن إسرائيل هي منطقة اختبار ما يدعيه الغرب من قيم وأخلاق، وهي ذاتها المنطقة التي خسر فيها الغرب بشكل عام كل قيمه.


إن العالم الغربي الذي لا يتوقف عن إلقاء محاضرات في العلمانية والانفتاح الثقافي وقبول الآخر ولا سيما العالم الإسلامي على وجه الخصوص، بل ويحاول فرضها عليه أحياناً، لا ينبس ببنت شفه عن تلك العلمانية أمام إسرائيل، الدولة الدينية، التي تستمد جميع مراجعها من اليهودية، وتبرر سياستها واحتلالها وحروبها ومذابحها بنصوص دينية. ويعتبر هذا في الواقع حالة يتم تجاهلها عن عمد في الآلاف المؤلفة من الأبحاث والتحليلات الاجتماعية المتعلقة بالعلمانية في العالم.


إسرائيل التي تحاول اليوم تحديد سياسة العلاقات الدولية للعالم كله، هي السبب الأول والرئيسي في انعدام الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وعن الدماء التي تجري فيه، والناس الذين يُهجّرون من منازلهم ومناطقهم. تفعل إسرائيل ذلك فقط لأجل الاستقرار في الأرض التي يزعمون أنهم وُعدوا بها، وتحقيق ما تزعمه من أنه وعد التوراة لليهود كجماعة دينية.


في الأصل لا يوجد حرج على أي إنسان يريد أن يحيا ضمن معتقداته، ونذكر في هذا الإطار أن المسلمين وفّروا لليهود والمسيحيين على حد سواء كل الظروف المناسبة لممارسة عقائدهم في حرية وكرامة. إلا أن ما يعتقده الآن الإسرائيليون وحكامهم لا يمكن وصفه بأنه مجرد إيمان نابع من حق شرعي، بل يتجاوز ذلك ليكون اعتقاداً خطيراً يستهدف حياة شعب بأكمله، كما أنه يستهدف ممتلكات هذا الشعب ومنازله وسلامته وأمنه.


وبمعنى آخر، فإن ثمن عيش هؤلاء الصهاينة لمعتقداتهم التي يزعمون، يتم تحصيله من حياة الآخرين وممتلكاتهم ومنازلهم وسلامتهم وأمنهم. ولا شك أن اعتقاداً بهذا الشكل يعتبر خطيراً ومؤذياً ولا علاقة له بدين اليهودية الأصيل على الإطلاق. ولا ننسَ أن هناك الآلاف المؤلفة من اليهود يقرّون بأن ما يعتقده الصهاينة لا علاقة له باليهودية. على الرغم من ذلك، فإن التفسير المؤذي والمتطرف والخطير جداً لليهودية قد بات اليوم هو الدين الرسمي للدولة اليهودية في إسرائيل.


في الواقع كان من الممكن أن يكون هذا المكان -الذي تحتله إسرائيل- مناسباً لتطبيق ما يدعيه العالم الحديث من علمانية بهدف أن تكون في خدمة الإنسانية، أي أن تقوم على مبدأ حماية الناس من فهم ديني يتسبب بطبيعته وتعريفه في إحداث ضرر للآخرين، وبذلك يتحقق ردع حقيقي لإسرائيل وصدها عن إيذاء الناس باسم ما تدعيه من دين. إلا أن ما يسمى علمانية لا يمكن أن يفرضه أحد على إسرائيل، أو يوصيها بتطبيقه أو حتى يذكّرها به مجرد تذكير.


تظل العلمانية في الحقيقة مبدأ يجب أن يتم تذكير بعض الدول فقط به، على رأسهم تركيا، هذا بنظر الولايات المتحدة وأوروبا طبعاً. لكن إن أمعنا البحث قليلًا سنجد أن هذين الكيانين ذاتهما لا يطبقان إطلاقاً العلمانية التي يحاضران بها. ومن الواضح أن جزءاً كبيراً من السياسات الأمريكية والأوروبية نابعة عن دوافع دينية صليبية كانت أو صهيونية.


لقد بات من الواضح للغاية أن الحجج التي طورها العالم الحديث ضد العنصرية والإبادة الجماعية والمجازر لا معنى لها إطلاقاً حينما يتعلق الأمر بإسرائيل؛ حيث تواصل إسرائيل في الكشف عن أكثر أشكال نظام الفصل العنصري إثارة للاشمئزاز والأكثر همجية على مستوى العالم، ومع ذلك يأبى العالم الغربي أن يعترف بذلك. وهو يدرك أن إسرائيل لا تملك أي حجة منطقية تقولها إزاء ما تمارسه يومياً من سياسة الاحتلال والفصل العنصري.


إن اسرائيل لم تكترث على الإطلاق بأي قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وعلى الرغم من ذلك لم يخطر ببال أحد إلى الآن مسألة فرض عقوبات على اللامبالاة تلك.


إن لا مبالاتهم شديدة لدرجة أنهم اعتبروا قيام مجموعة من اليهود المتعصبين المتطرفين والعنصريين بمهاجمة مسجد للمسلمين إشباعاً لتفسيراتهم الدينية، على أنه عمل روتيني وطبيعي للغاية. وحينما قامت إسرائيل بشن غاراتها وقصفها الهمجي على المدنيين، مما أسفر حتى الآن عن استشهاد أكثر من 20 ألفاً معظمهم من النساء والأطفال، كانت ردة الفعل الأقوى التي صدرت عنهم هي "نطالب الطرفين بضبط النفس".


إن من يتعامل مع الهجمات الإسرائيلية على أنها صراع يجري بين طرفين متعادلين من حيث القوة والقدرة القتالية، وأن كلا الطرفين قادر على القتال بشكل فعال ومتساوٍ لا يعتبر إلا شريكاً في جرائم الحرب التي تمارسها إسرائيل.


من أين يأتي هذا الدفع الذي يجعل العالم الغربي ينتهك جميع معاييره الخاصة التي وضعها إزاء جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، حينما يتعلق الأمر بإسرائيل؟


ذلك الدافع الذي جعل الولايات المتحدة وأوروبا تنتهكان المعايير التي وضعوها هم أنفسهم إزاء جرائم الحرب وغيرها، هو ذاته الدافع الذي جعلهم يخرسون صماً بكماً عمياً حينما قصفت الطائرات الإسرائيلية مبنى كان يضم آخر وسيلة إعلامية غربية هناك. لقد تم قصف المبنى الذي يضم وسائل إعلام ووكالات أنباء مثل رويترز وأسوشيتد برس، في غزة، خلال بضع دقائق فقط بطريقة تذكرنا بهجوم 11 سبتمبر، تحت ذريعة أن أعضاء من حماس ينشطون داخل المبنى.


لقد وقع هذا الهجوم نتيجة عدم تحمّل إسرائيل أن تقوم وسائل إعلام عالمية بالكشف عن جرائمه ضد الإنسانية، التي صارت منهجاً وروتيناً لدولة الاحتلال هذه.


لم نسمع أي كلمة من أولئك أنصار حرية التعبير والصحافة، الذين لا تتوقف ألسنتهم عن توجيه الاتهامات لتركيا، لم نسمعهم يوجهون لإسرائيل كلمة واحدة.


إن الصمت والتخاذل الغربيين يظهران أن إسرائيل هي المكان الذي فضحت فيه جميع المزاعم والقيم التي صدّع بها الغرب رؤوس العالم. إن إسرائيل هي المكان الذي تنهار قيم الغرب المزعومة.


كما أن دعم الغرب لإسرائيل من خلال التبرير لجرائمها على أنها في إطار "الدفاع عن النفس"، أو من خلال التسوية بين المجرم والضحية، لهو انتحار حقيقي لتلك القيم.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023