الهزيمة النكراء التي مُني بها الاحتلال يوم السابع من أكتوبر ( يوم العبور العظيم) أفقدته توازنه وأصابته بالجنون؛ فهو المدلل، المعتاد على أن يجابه جيشه بالخنوع والتقهقر في كل مواجهة، ثلاثة جيوش عربية كبيرة انهزمت أمامه في لا داعي لاستذكار هزائمها أمامه، فكيف له أن يستوعب أن جماعة مسلحة بأسلحة خفيفة مثل حماس يمكنها أن تجتاز سياجه الذكي؟ هذا السياج الذي كلف الاحتلال ما يزيد عن مليار دولار واستنفد ما يزيد عن ثلاث سنوات من العمل، وكان يتشدق بمدى تطوره واستشعاره أي خطر من مسافة بعيدة، فهو الذي يضم مئات الكاميرات والرادارات وأجهزة الاستشعار، ويمتد فوق الأرض وتحتها وصولاً إلى البحر لمنع المقاومة في غزة من حفر الأنفاق واختراقه؟
فكيف يخترق جنود القسام هذا السياج الذكي، ويأتونهم إلى عقر دارهم، يدمرون الدبابات ويقتلون الجنود، ويقتادون الكثير من الأسرى من مستوطني غلاف إلى داخل غزة ويحتجزونهم داخل أنفاقهم؟ بينما قادتهم السياسيون والعسكريون ينعمون بالأمن والراحة في عيد الغفران مع عائلاتهم!
حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يستطع الاحتلال بكافة مستوياته استيعاب حقيقة ما جرى يوم السابع من أكتوبر الماضي!
حسناً.. وماذا بعد؟
إنه الانتقام!
بعد قرابة ست ساعات من العبور العظيم في طوفان الأقصى، بدأت غارات الطيران الحربي الإسرائيلي على قطاع غزة. بأهداف معلنة: استعادة الأسرى الإسرائيليين، والقضاء على حركة حماس!
أما الأهداف الحقيقية: الانتقام واسترداد الكرامة التي أهدرتها حماس أمام العالم أجمع!
عشرون يوماً ظل الاحتلال يقصف قطاع غزة بالصواريخ والقنابل والقذائف من الطيران الحربي، حتى بدأ بالخطوة التالية: الحرب البرية التي توعد فيها المقاومة وأنفاقها بالويل والثبور. أُنزلت دبابات الميركافاه فخر الصناعة الاسرائيلية إلى غزة، وأنزلت جرافات ضخمة وكاسحات ألغام وغيرها من الآليات، وضُخت أعداد كبيرة من جنود الاحتلال المدججين بأحدث الأسلحة الأمريكية والبريطانية وغيرها، ومزودين بالأسرار والخبرات العسكرية الأمريكية.
اقتحمت الدبابات الاسرائيلية مدينة غزة، ارتكبت القوات الغازية الفظائع التي يصعب وصفها.. حاصروا المشافي، وقتلوا المرضى والجرحى فيها، فجروا المساجد وهم يضحكون ويسخرون، وأهدوا تفجير البيوت لأبنائهم، فجروا السيارات بمن داخلها من عائلات فرت من أمام الدبابات..
وأعلنوا عبر وسائل الإعلام كافة عن فتح ممر آمن من شارع صلاح الدين، ليعبر منه المدنيين إلى مناطق جنوب القطاع، لأن منطقة الشمال ستكون منطقة عمليات عسكرية. ومع كثافة القصف وتدمير مربعات سكنية وأبراج وأحياء بأكملها على رؤوس ساكنيها، دفع ذلك السكان إلى مغادرة مدينة غزة والاتجاه إلى الجنوب هرباً بأرواحهن من آلة القتل الصهيونية.
نصبت قوات الاحتلال الحواجز العسكرية في طريق النازحين، الذي ادعت سابقاً أنه آمن..
فتشتهم، وصادرت ما يحملون من أمتعة بسيطة ونقود، وأطلقت النار على كثيرين أيضاً، كما اعتقلت رجال ونساء وأطفال كثر.. عرَّت الرجال تحت تهديد السلاح، ووضعتهم في شاحنات ووضعت بينهم النساء المعتقلات، واقتادتهم إلى جهات مجهولة.
أعداد كبيرة من النازحين اعتُقلوا، دون أن تتوفر إحصائيات لأسماء وأعداد وأعمار المعتقلين أو إلى أماكن احتجازهم.
حاولت قوات الاحتلال تفريغ أحقادهم في الفئات الضعيفة في المجتمع، المدنيين العزل.
كان اعتقال النساء من أكثر ممارسات الاحتلال إيذاءً للمجتمع الغزي بشكل خاص والفلسطيني بشكل عام، حاول المحتل من خلالها أن ينتقم من رجال غزة ويتسبب لهم بالأذى النفسي ويوصل لهم رسالة مفادها: هذا ما تسببت به المقاومة لكم!
ومن اللحظة الأولى لاعتقال هؤلاء النساء من قطاع غزة كما أفادت مؤسسات حقوقية مثل عدالة وهيئة الأسرى والمحررين الفلسطينية، ومحامون، أنهن يواجهن ظروف اعتقالية شديدة القسوة، ويخضعن لعقوبات مشددة تزداد وتيرتها يومياً.
تتعرض هؤلاء النساء للتعذيب والتنكيل منذ لحظة الاعتقال حتى دخول السجن دون توقف، ضرب وشتم بأبشع الألفاظ، وتفتيش عاري تماماً، وعزل وحرمان من أبسط الحقوق، وحرمان من الطعام والماء والدفء، ويحتجز بعضهن في العراء في ساحات السجون تحت المطر والبرد لأيام قبل إدخالهن إلى أقسام السجون، وهناك من يُعزلن داخل زنازين انفرادية شديدة الضيق.
تتعمد ادارة السجون معاملة المعتقلات من قطاع غزة بأسوأ أشكال المعاملة.
على سبيل المثال ( وذكرته هيئة الأسرى والمحررين الفلسطينية في بيان صحفي لها) أكدت إحدى الأسيرات قائلة: " وصلتْ الى القسم الذي كنتُ فيه في السجن قبل أيام امرأة مسنة (80 عام) من غزة، تمشي على عكاز و بدون غطاء على راسها، جسمها و ملابسها مليئة بالدم ولا تعرف شيء، على ما يبدو انها تعاني من مرض النسيان( الزهايمر).
تأخذ إدارة السجن ملابس الأسيرات الغزيات، ويعطونهن ملابس صيفية رقيقة في هذا الجو البارد.
وتصل أسيرات القطاع السجن بحالة صحية وجسدية ونفسية مزرية جداً.
إحدى الأسيرات من قطاع غزة وهي أم لأطفال، قالت إن أطفالها الأربعة كانوا برفقتها عند اعتقالها في الممر الآمن، لم تعرف ماذا تفعل بهم وكان يقطع الطريق بالقرب منها رجل غزي، تركت أولادها أمانة دون أن تعرف من هو! وهي الآن في السجن ولا تعرف مصيرهم إن استشهدوا أم ما يزالون على قيد الحياة، أو أين هم!!
وتكررت حالات مشابهة مع نساء أخريات في تفاصيل لم يعرف عنها أحد سوى أن هناك نساء تركن أطفالهن في الشارع عند اعتقالهن واقتيادهن إلى جهات مجهولة".
اعتقال النساء الفلسطينيات ليست سياسة جديدة للاحتلال، ففي كثير من الأحيان تُعتقل النساء للضغط على الرجال لتسليم أنفسهم، ويُعتقلن لأتفه الأسباب مثل كتابة منشور على فيسبوك يشم رجال الشاباك من سياقه رائحة التحريض ضدهم والشماتة بهم! ولكن الاعتقالات الجنونية للرجال والنساء في الضفة المحتلة وقطاع غزة ازدادت وتيرتها بشكل شرس جداً منذ السابع من أكتوبر الماضي.
ويجري الاعتداء على النساء الفلسطينيات جهاراً نهاراً، دون أن نسمع أصوات المؤسسات النسوية تصرخ بالحرية لهؤلاء النساء والمطالبة بالحفاظ على حقوقهن وكرامتهن! ودون أن يثور معتصم ويُعد العتاد والعدة لتحرير واحدة منهن!
د. زهرة خدرج
كاتبة وروائية فلسطينية