الصحفي ديفيد هيرست
ليست هناك جوانب بلاغية، أو متحيّزة، أو حزبية في الطلب الذي قدمته جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية واتهمت خلاله إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
إذ جرت صياغة الوثيقة المؤلفة من 84 صفحة بدقة على يد خبراء دوليين في الإبادة الجماعية. وتأتي الوثيقة مليئةً بالأدلة الداعمة. كما جرى نقاش جوانبها القانونية بعناية. لهذا تحمل حجةً قويةً بحقائقها المُرَّة والوحشية والباردة.
وتقر الوثيقة بأن حماس هي المسؤولة عن جرائم الحرب الفظيعة المُرتكبة بحق المدنيين في جنوب إسرائيل يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لكنها أضافت أن كل ما حدث في ذلك اليوم لا يبرر ما حدث بحق سكان غزة إجمالاً في كل يومٍ بعده، وذلك على مدار الأشهر الثلاثة التالية.
ويوضح الطلب بما لا يدع مجالاً للرد أن نية وسياسة وتصرفات دولة إسرائيل تُمثل إبادة جماعية وتستهدف الفلسطينيين في غزة كجماعة، وهو الأمر الذي تعبر عنه تصريحات شاغلي أرفع المناصب السياسية في البلاد وكذلك تصرفات جنودهم.
وقسّمت الوثيقة سيل الأدلة على أعمال الإبادة الجماعية المتعمّدة إلى سبع فئات رئيسية. ويجدر بنا سردها على النحو التالي:
1- أدلة على حجم القتل الذي تجاوز الـ22.000 حالة وفاة حتى الآن، ويشكل النساء والأطفال 70% منها.
2- أدلة المعاملة القاسية وغير الإنسانية لأعداد كبيرة من المدنيين -وبينهم أطفال- الذين تعرضوا للاعتقال وتعصيب الأعين، وأُجبروا على خلع ثيابهم والبقاء في العراء وسط الجو البارد، قبل اصطحابهم إلى أماكن غير معلومة.
3- أدلة الحنث المستمر بوعود توفير الأمان، مع قصف إسرائيل للمناطق التي أوصت السكان بالفرار إليها في المنشورات.
4- أدلة الحرمان من الوصول إلى الطعام والماء، وهي السياسة التي دفعت بسكان غزة إلى حافة المجاعة.
5- أدلة الحرمان من الوصول إلى الملاذ، والثياب، ووسائل النظافة الشخصية المناسبة. كما أدى هجوم إسرائيل على منظومة الرعاية الصحية إلى بقاء 13 من أصل 36 مستشفى فقط في الخدمة بشكل جزئي، مع استهداف القوات الإسرائيلية لموّلدات المستشفيات، وألواح الطاقة الشمسية، ومحطات الأكسجين، وخزانات الماء، وسيارات الإسعاف، والقوافل الطبية، والمستجيبين الأوائل.
6- أدلة تدمير الحياة الفلسطينية في غزة -بما في ذلك البلدات، والبيوت، والمجمعات السكنية، والبنية التحتية، والجامعات، والثقافة.
7- أخيراً وليس آخراً، أدلة تعبر عن نية الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني على لسان مسؤولي الحكومة، بما في ذلك إشارات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى قصة توراتية عن تدمير بني إسرائيل للعماليق بالكامل. وتشمل هذه الأدلة كذلك تصريح الرئيس إسحق هرتسوغ بأن "الشعب بأكمله يتحمل المسؤولية"، فضلاً عن تأكيد وزير الدفاع يوآف غالانت على أن إسرائيل تحارب "حيوانات بشرية".
كان جيورا إيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي والمستشار الحكومي، واضحاً بشكلٍ خاص في التعبير عما تفعله إسرائيل بالكلمات.
إذ كتب إيلاند في مجلةٍ على الإنترنت أثناء وصفه لقرار إسرائيل بقطع الماء والكهرباء عن غزة: "هذا هو ما بدأت إسرائيل في فعله -نحن نقطع إمدادات الطاقة والماء والديزل عن القطاع، لكن هذا ليس كافياً. فمن أجل فرض حصار فعال؛ يجب أن نمنع الآخرين من تقديم المساعدة لغزة. يجب أن نخبر الناس بأنهم أمام خيارين: إما البقاء والموت جوعاً أو الرحيل. وإذا فضّلت مصر والدول الأخرى ترك هؤلاء الناس ليموتوا في غزة، فسيكون هذا هو اختيارهم".
وهناك جانبان يستحقان الاهتمام في الطلب المقدم إلى محكمة العدل الدولية.
يتمثّل الجانب الأول في أن هذا الطلب يتعلّق بإبادة جماعية تحدث في الوقت الفعلي، على عكس محاولات الحصول على تعويض عن أسوأ الأحداث سمعةً في التاريخ القريب -مثل ميادين القتل في كمبوديا، أو الإبادة الجماعية في رواندا، أو جرائم الحرب الصربية.
إذ تحدث الإبادة الحالية بصفة يومية، وسوف تستمر إذا لم تتدخل إحدى القوى أو المحاكم الخارجية. ولهذا سنجد أن هذا الطلب المقدم إلى محكمة العدل الدولية عاجلٌ بدرجةٍ مقنعة.
وتحظى الدولة المقدمة للطلب بالقدر نفسه من الأهمية أيضاً. حيث تلتزم جنوب أفريقيا وإسرائيل بأحكام محكمة العدل الدولية، وكلتاهما من الدول الأعضاء في اتفاقية الإبادة الجماعية.
والأهم من ذلك هو أن جنوب أفريقيا هي أكثر دولة أثبتت إمكانية نجاح النضال التحرُّري ضد نظام فصل عنصري استبدادي وشديد القوة.
إذ كانت جنوب أفريقيا قوةً نووية كما هو حال إسرائيل اليوم، وكان لديها جيش قوي سحق التمرد المسلح -وكانت تحظى كذلك بدعم كافة القوى الغربية الكبرى.
وقد قتل نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي نفسه بسبب تصرفاته. واضطرت الدولة المنبوذة في النهاية أن تخضع لإرادة الأغلبية السوداء المكبوتة.
نظراً لإدراكها أهمية الطلب؛ ردّت إسرائيل باتهام سخيف تقول فيه إن جنوب أفريقيا متواطئة مع حركة حماس، التي تُعتبر منظمة إرهابية في المملكة المتحدة وغيرها من الدول -وهو زعمٌ لا دليل عليه.
في ما اتّهم إيلون ليفي، المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، دولة جنوب أفريقيا بأنها "متورطة إجرامياً في حملة الإبادة الجماعية" التي تشنّها حماس ضد الشعب الإسرائيلي.
وقال ليفي: "ستظهر دولة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي لتفنيد افتراء جنوب أفريقيا الدموي السخيف. كم هو مأساوي أن (دولة قوس المطر) التي تفخر بمحاربتها للعنصرية ستتطوع للمحاربة في صف العنصريين المناهضين لليهود".
ويبدو أن ليفي نسي ما كتبه في أغسطس/آب ضد وزير الأمن القومي الفاشي المقيم في إسرائيل إيتمار بن غفير، وذلك بعد أن طالبَ الأخير رئيس الوزراء بإقالة الأول.
حيث كتب ليفي: "لماذا؟ لماذا يبذل مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي قصارى جهده في دعاية الهسبرة لصالح مُناصر الإرهاب المُدان، بن غفير، بدلاً من إقالته؟ ليتني كنت المتحدث باسم نتنياهو لدى وسائل الإعلام الأجنبية حتى أتمكن من الاستقالة احتجاجاً".
بينما أصبح ليفي الآن المتحدث باسم الحكومة وبات يؤدي عمل بن غفير نيابةً عنه. لكن جمهور ليفي بدأ يتقلّص، وأصبح الاستماع إلى ما يقوله من اهتمامات الأقلية.
ولم يمنع هذا داعمي إسرائيل الرئيسيين من رفض قضية جنوب أفريقيا، وذلك قبل الاستماع لها في لاهاي من الأساس. إذ وصف جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، قضية جنوب أفريقيا بأنها "لا تستحق التقدير، وغير مجدية، ولا أساس لها من الصحة على الإطلاق". بينما أدان بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، تحقيقاً فتحته شرطة العاصمة في جرائم الحرب الإسرائيلية بشكل منفصل. واشتكى جونسون من "التسييس المُقلق" لقوة الشرطة.
ومع ذلك، تفشل إسرائيل في توصيل رسالتها للجميع بالتزامن مع اصطفاف دولٍ أخرى خلف جنوب أفريقيا، ومنها ماليزيا وتركيا وغيرهما. بينما قالت غالبية دول الجمعية العامة في الأمم المتحدة لإسرائيل إن عليها وقف حملتها في غزة على الفور.
وتُشير الحقيقة المُرّة إلى أن أكثر دولة تتحرك لنزع الشرعية عن إسرائيل هي الدولة الإسرائيلية نفسها.
لست بحاجةٍ إلى شهادةٍ في القانون لفك تشفير ما يحدث. ومن أجل الحصول على لمحةٍ من خطاب الكراهية الإسرائيلي اليومي؛ ليس عليك سوى مشاهدة والاستماع إلى مقاطع فيديو الجنود والمغنين والممثلين والساسة. إذ لم يعد خطاب هؤلاء على الهامش، بل صاروا يمثلون طريقة التفكير الإسرائيلية السائدة.
وقد صاروا يتحدثون عن الفلسطينيين بلغة الإبادة الجماعية، والعنصرية، والفاشية دون خجل. وباتوا يفخرون بعنصريتهم ويمزحون بشأنها، ولا يفعلون الكثير لإخفائها.
فهل تُعَدُّ تلك العنصرية حديثة الولادة أم هل كانت متخفية في الجوانب المظلمة من خطابهم خلف الزخارف -واضحة الزيف- لديمقراطية غربية ليبرالية منفتحة؟
لا يستطيع الصحفي الإسرائيلي المخضرم جدعون ليفي الإجابة عن سؤالٍ كهذا بصراحة.
إذ قال ليفي للصحفي أوين جونز إن إسرائيل أصبحت الآن دولةً لا يعرفها، في إشارةٍ إلى الاستطلاع الذي كشف أن غالبية الإسرائيليين يؤيدون الإبادة الجماعة لغزة.
حيث قال ليفي: "نحن أمام خيار من اثنين: إما أن هذا هو الوجه الحقيقي لإسرائيل وقد شرّع هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول خروجه للسطح، أو أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول غيّر الأوضاع. لا أعلم أي الخيارين هو الحقيقي، لكنني أفكر باستمرار في أن هجوماً واحداً -بغض النظر عن همجيته الواضحة- قد دفع هذا العدد الكبير من الإسرائيليين ليفقدوا إنسانيتهم.. فلك أن تتخيل ما يفعله ذلك بالفلسطينيين الذين يعيشون تحت وطأة هذه الهجمات منذ عقود".
وكما اعترف ليفي، لا يدرك غالبية الإسرائيليين ما تفعله دولتهم في غزة. ولا يخفون نيتهم بتدمير أكبر مساحةٍ ممكنة من غزة.
وخلف الكواليس، يُجري كبار المسؤولين محادثات سرية مع الكونغو حول إعادة التوطين "الطوعية" للفلسطينيين من غزة بحسب التقارير. وسبق التواصل مع السعودية، والعراق، وغيرها من الدول لمباحثات حول السياسية نفسها قبل وقتٍ طويل من هجوم حماس.
ولا يمكن اعتبار تلك الاتصالات المنسقة بعناية كردٍ فعلٍ على الصدمة، علاوةً على أنها ليست من بنات أفكار أمثال بن غفير أو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش. حيث إن تفريغ فلسطين من شعبها هي سياسة راسخة طويلة الأجل.
وستستمر إسرائيل على الطريق نفسه إذا لم يوقفها أحد، بغض النظر عما سيحدث مع حماس.
حتى من المنظور الضيق، لا يدعم التاريخ سياسةً قائمةً على استهداف قادة المقاومة بالاغتيالات. إذ تجري المقارنة بين اغتيال نائب رئيس حماس صالح العاروري في بيروت وبين مطاردة الموساد لمخططي مذبحة أولمبياد ميونيخ عام 1972.
لكن الاغتيال المستهدف للقادة الفلسطينيين ليس أمراً جديداً، ولم يحقق النجاح بشكلٍ واضح من قبل. كما أن الارتياح الذي يحققه لإسرائيل ليس سوى ارتياح مؤقت.
فقبل نحو عقدين من الزمن، استهدفت إسرائيل أحمد ياسين، المُقعد المصاب بالشلل الرباعي، مستخدمةً الصواريخ التي أطلقتها عليه مروحية أثناء توجهه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر.
وبعد عامين فقط من وفاته، فازت حركة حماس بأول انتخابات حرة تُعقد في فلسطين منذ سنوات. وقد صارت حماس اليوم أكبر وأكثر قدرة وشعبية من المنظمة التي أسسها ياسين، وصارت خارج المقارنة على الصعيدين السياسي والعسكري.
وقبل 20 عاماً، لم يكن في مقدور حماس أن تصمد لثلاثة أشهر تحت القصف المتواصل وتظل قادرةً على إطلاق صواريخ تصل إلى تل أبيب. ولم يكن في مقدور مقاتليها أن يُلحِقوا بالجيش الإسرائيلي القدر نفسه من الخسائر الحالية.
والمؤكد هو أن اغتيال قادة حماس سيشجع الجيل الجديد من قادة المقاومة على التقدم للأمام، مع اعتبار أن كل جيلٍ يأتي يكون أقوى من الذي سبقه. ولا شك أن من يظن العكس هو شخص حالم. فضلاً عن أن إسرائيل تستهدف الأشخاص الذين يجب عليها التفاوض معهم ذات يوم.
إذ قال وزير بريطانيا السابق لشؤون الشرق الأوسط بيتر هاين، المولود في جنوب أفريقيا، إن السبيل الوحيد أمام إسرائيل وحلفائها للمضي قدماً هو إجراء محادثات تتضمن حماس.
وكتب هاين لصحيفة Guardian البريطانية: "أكتب هذا من كيب تاون، حيث يشعر مواطنو جنوب أفريقيا من كافة الأجناس والعقائد بالازدراء، وذلك نتيجة لما يرونه من معايير واضحة الازدواج يتبناها زعماء شمال العالم -حيث يريدون دعم الحق الأوكراني في تقرير المصير، لكنهم يتورطون في رفض حق تقرير المصير الفلسطيني ويتحملون المسؤولية عن الأهوال في غزة. إن الفجوة الجيوسياسية مع الجنوب العالمي تزداد عمقاً، وهذا سيكلف واشنطن ولندن وبروكسل ثمناً باهظاً في عالم يزداد اضطراباً".
ومن المؤكد أن أي زعيم غربي سمح لإسرائيل بمواصلة القتل الجماعي لا يستطيع أن يتجاهل كلمات كهذه.
وقد وافقت محكمة العدل الدولية على عقد جلسة استماع في الأسبوع المقبل لمناقشة مطلب جنوب أفريقيا بإصدار حكم عاجل. وليست هناك جلسة استماع أكثر إلحاحاً في المحكمة الدولية بلاهاي. حيث إن مصير العدالة الدولية المهددة بالانقراض يتوقّف على هذه القضية.