بين المائة يوم وأربع وأربعين سنة، سنة ضوئية من الفارق الحضاري؟!

وليد الهودلي

كاتب وأديب فلسطيني

​​​​​​​

أسراهم ختموا المائة يوم في الأسر عند المقاومة الفلسطينية وأسرانا هناك من تجاوزوا الأربعين سنة في سجونهم، بل الأربع وأربعين سنة كما هو حال أقدم أسير فلسطيني نائل البرغوثي. 

وهناك عشرات تجاوزوا الثلاثين وعشرات تجاوزوا العشرين سنة. 

هم من مائة يوم قامت دنياهم ولم تقعد دون أن يلتفت منهم أحد أو يشير إشارة صغيرة إلى المظلمة الفلسطينية التي يغرق بها قرابة عشرة الاف معتقل فلسطيني. 

أين أنتم من صواعق العذاب والقهر والألم الذي لا ينقطع ، يئنّون من مائة يوم وتملئون الفضاء ضجيجا ولا يخطر في بالهم الأسود أن هناك أسرى لشعب آخر اسمه شعب فلسطين.                                                                                                                                                                             ولقد رأى العالم بأمّ عينه وسمع عن الاخلاق العالية التي تتعامل بها المقاومة الفلسطينية مع أسراها، ولا ريب بأنّهم سمعوا عن الاجرام الوحشي منقطع النظير الذي تمارسه سلطة الاحتلال مع أسرانا. 

ومع الاخذ بعين الاعتبار ظروف الحرب القاسية جداً والضغوط النفسيّة الهائلة التي يتعرّضون لها، منها مثلا عندما يأتي للآسر خبر تعرّض عائلته للقصف واستشهاد بعض أفرادها، ومع هذا يبقى متمسّكا بأخلاقه العالية في التعامل مع أسيره الذي بين يديه، يأتيه خبر استشهاد أطفاله أو أمه وأبيه ومع ذلك يحافظ على أقصى درجات الانضباط والأخلاقية العالية، لقد ضربوا بذلك مثلا من خلال الصورة التي صدّروها مع الذين أطلق سراحهم من الاسرى الإسرائيليين. 

الآسر الفلسطيني في غزّة سمع بشكل قطعي عن أخبار السجون الإسرائيلية وكيف يتعامل السجّان هذه الايّام بروح انتقامية في أعلى درجات القهر والتعذيب، ألا يخشون أن يتلقّى أسراهم ما يذيقونه لأسرانا؟ أم أنهم على ثقّة عالية بأخلاقية مقاومينا وبأنهم لن تأخذهم العزّة بالإثم ولن يعتدوا بمثل ما اعتدي عليهم وعلى إخوانهم. 

أسرانا اليوم يُسامون سوء العذاب الصهيوني الحاقد العنصري المتطرّف، وقد انطلقت منذ أن قلّدوا ما يسمّى وزارة الامن الداخلي لأكثر الناس عنصرية وتطرفا إلى درجة الجنون بما يفتح الشهيّة لكلّ ممارسات الاجرام، وأسوأ ما في ممارساتهم الاجرامية تعمّد الإهانة وكسر الكرامة، أطلقت اليد للانتقام بكل ما يحلو لعقولهم الاجرامية أن تبدع، سبع شهداء في شهر واحد كان لهم أن يلفظوا أنفاسهم وهم يُضربون بعصيّ سجانيهم وهم مكبلي الايدي والارجل، وهل نتصوّر أن يُضرب عميد الاسرى نائل بعد أربع وأربعين سنة وأن يضرب مريض السرطان وليد دقّة وهو في أشدّ حالات المرض خطورة وغيرهم كثيرون يضربون بساديّة مطلقة؟ 

تُسحب الاغطية والملابس ويُتركون للبرد الليالي الثقيلة والأيام القاسية، ومن عاش في النقب أو نفحة تلك السجون الصحراوية يعرف برد الليل كم هو قاتل، ومنع الادوية وترك المرضى لمصيرهم ولا مسكن ولا علاج لمن كسر له عظم في حملات القمع .

ممارسات إجرامية لم تشهدها سجونهم السيئة من قبل فكيف أضحت اليوم؟ 

والسؤال المهم ماذا يريدون؟ 

لا شيء سواء الانتقام وإشباع شهوتهم العنصرية الحاقدة المقيتة، لا شيء سوى الفرار من كل المواقع التي لها علاقة بالأمم التي تقيم شأنا للقيم الإنسانية والأعراف التي تعارف عليها البشر. 

فلو كانوا أمّة ذات قيمة بين البشر أو أنها أمّة ذات قيمة حضارية فإنها حتما ستكون حريصة على صناعة صورة تحفظ لها هذه القيمة، ستنتصر لقيمها وستكون حريصة على إخراجها للناس بأبهى الصور، ولأنها مجرّد عصابة مارقة فقد أصبحت لا تقيم أيّ اعتبار للقيم الإنسانية والحضاريّة، لقد انتصرت لنشوة الانتقام وإشباع الغريزة الحيوانيّة وما هو أسوأ من هذا لأن للغريزة الحيوانية حدود معينة ثم تتوقّف، بينما هؤلاء فقد تجاوزوا كلّ الحدود وانحدروا إلى أسفل ما يمكن أن يتصوّره بشر، فقتل الأطفال مثلا وسحق المنازل السكنية بما يملكون من قنابل مدمّرة فوق رؤوس أصحابها أمر لا يفعله بشر إلّا ما هو على شاكلتهم من قوى الاستعمار والاستكبار أو حيوان مفترس ولن يصل في شهوته للافتراس والتوحّش إلى ما وصلوا إليه. 

وما تتسرّب من أخبار قليلة عن أسرى قطاع غزّة تنبئ بشرّ مستطير وأعمال همجية لا تبقي ولا تذر، يُسحلون ويُعرّون وتُكسّر عظامهم إلى درجات تصل في حالات كثيرة إلى الموت تحت التعذيب، سجّل تاريخهم في الماضي من مات تحت التعذيب فترة التحقيق من أجل الوصول إلى الاعتراف، وهناك من مات نتيجة الإهمال الطبّي المبرمج.. 

ولكن التعذيب اليوم ليس للاعتراف وإنما من أجل التعذيب وتلبية لروح الانتقام الساديّة التي تسيطر عليهم. 

سيسجّل التاريخ قريبا عن هذه الفترة السوداء من تاريخهم وعندما يعقد مقارنة بيننا وبينهم في التعامل مع الاسرى سيذكر أن هناك سنة ضوئية في المستوى الحضاري. 

ذلك بأننا مشروع حق وعدل وتحرّر بينما هم مشروع عصابة اغتصاب أرض وسحق شعب، وكيان قام على الظلم والقهر والاستبداد والفساد والطغيان. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023