طوفان الأقصى ... غباء الأعداء !!

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

طوفان الأقصى ... غباء الأعداء !!  

المشهد الأول : تموز 2006 :

نصبت المقاومة الإسلامية في لبنان " حزب الله " كميناً لدورية إسرائيلية معادية أثناء تفقدها المنطقة الحدودية المحاذية لمنطقة خلة وردة في عيتا الشعب الجنوبية ، مما أسفر عن أسر عدد من الجنود وقتل آخرين ، وتدمير الآلية التي كانت تقلهم ، ودبابة هرعت لنجدتهم . وبعد تلقي قيادة العدو العاملة في منطقة المسؤولية التي وقع فيها الكمين ، خبر عملية الأسر ـ  بعد ما يقارب الثلث ساعة ـ  قامت بمحاولة ملاحقة القوة الآسرة ، عبر شنها ـ قوات العدو ـ غارات في العمق اللبناني ، وعلى الطرق التي يُظن أن مجاهدي المقاومة الإسلامية سلكوها باتجاه الخلف مع "غلتهم " من الأسرى  ، لكن ( كان اللي ظرب ظرب واللي هرب هرب ) ، فلم يفلح العدو باسترداد أسراه ، أو قتل آسريهم .  

المشهد الثاني : رد فعل العدو :  

جن جنون العدو ، فأرغى وأزبد ، وأبرق وأرعد ، وحشد قواته ، استدعى احتياطه ، وبدأ عملية عسكرية ( لتأديب ) المقاومة ، وكي وعيها ، فصب ناره ــ الغبية قبل الذكية ـ على حجر الجنوب اللبناني وبشره ، وصولاً إلى عاصمة المقاومة ، ومركز ثقلها القيادي والسياسي في الضاحية الجنوبية ، فأحلها ملاعب لكرة القدم ، ولم يبق فيها حجراً على حجر ، ظاناً بذلك أنه قادر على الضغط على المقاومة وبيئتها ، لاسترداد أسراه ، وردع عِداه ! ونسي أنه بعد عملية الأسر بساعات ، خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مؤتمرٍ صحفي معلناً الموقف ، ومحدداً المسار ؛ فلا عودة للأسرى إلّا بمفاوضات غير مباشرة يتفق فيها على الأثمان ؛ و "السلام" .  

طال جنون العدو إلى ثلاث وثلاثين يوماً من القصف والقتل ، والتدمير ، والطحن ، ومحاولة التقدم على محاور الجنوب اللبناني ، فناور ثم ناور ، ولم يصل إلى " مارون الراس " التي لا تبعد عن الحدود سوى مئات الأمتار إلّا بعد خمسة عشر يوم من القتال الضاري ، وبعد أن صدرت الأوامر للمقاومين المتحصنين في بيوت البلدة بالانحياز إلى إخوانهم في  " بنت جبيل " ، أما " عيتا الشعب " التي وقع في محيطها الكمين ؛ فقد بقي العدو يقصفها ويحاول الدخول لها حتى آخر يوم في الحرب ، ولم يفلح باحتلالها ! وفي يوم حربه الأخير ، حاول الوصول إلى نهر الليطاني عبر وادي الحجير ، فوقع في شر أعماله ، فدمرت له في الوادي عشرات الدبابات ، ولم (يكحل) عينيه برؤية مياه الليطاني ، فعاد يجر أذيال الخيبة والفشل .  

المشهد الثالث : وقف الأعمال العدائية :

ثم أوقف العدو حربه ، وأسكت آلة دماره ، وذهبت ( السكرة ) وجاءت ( الفكرة ) ، وعلى عادته ؛ عقد لجان التدقيق والتحقيق ، وورش العمل والترميم ، فمن " فينو غراد " إلى " لجنة شؤون الأمن والخارجية " في الكنيست ، إلى حلقات النقاش في مختلف مخازن فكره ( think tank ) ، كلها انشغلت بما حصل وكيف حصل ، وكيف خرجنا لـ ( نؤدب ) و نرمم الردع ، ونستعيد من أسر ممن أسر ، ونفرض واقعاً جديداً في الجنوب اللبناني لا مقاومة فيه ولا حزب !  فماذا جنينا ؟  


المشهد الرابع : 07 أكتوبر 2023 :  

طوفان هادر ، وسيل بشري سائر ، وجُدر حماية تتهاوى ، وقلاع تقتحم ، وألوية ( نخبة )  تتبدد شذر مذر ، وإعماءٌ وفقء عيون ، ونسور تنقض من السماء على فرائسها ، و ( كف على غفلة ) أطار شرر الأعين ، وأطاش العقول ، وثلاث ساعات من أحلك ساعات عمر هذا الكيان المؤقت ؛  ( شو في ؟ ما حد عارف ) غير ( مجانين ) غزة ؛ الذين أثبتوا أنهم أكثر الناس معرفة بهذا العدو وهشاشته ، فأتوه من حيث لا يحتسب ، فجاسوا خلال أرضنا المحتلة جوساً ، وذرعوها طولاً وعرضاً ، ثم عادوا بما غنموا ، في مشهد أقرب إلى الحلم منه إلى اليقظة .  

المشهد الخامس : صحوة فيل في دكان خزف :  

أفاق ( الفيل ) من لسع ( دبابير ) غزة ، فنَأم ، ونَهم ، وأصئا ( كلها أسماء لصوت الفيل ) ، ونادى عشيرته ، وحشد قبيلته ، من " بايدن " إلى "ماكرون " إلى سليل عبيد بريطانيا "سوناك" ؛ وما خفي من التأييد أعظم مما بدا ، وبدأ هذا ( الفيل ) الجريح ينفث حمم النار من كل (خراطيمه) ؛ جواً وبراً وبحراً ، وشرط شروطاً ، وحدد حدوداً ؛ فلا وقف للنار بدون إعادة الأسرى للديار ( لما تشوف زردة ظهرك إن شاء الله ) ، ولا إطفاء لآلات التدمير ؛ إلا بعد التأكد من تدمير كل ما سبب لهم هذا الذل والتحقير ، فطحن حجر غزة وبشرها ، وناور في عمق أحيائها وحاراتها ، ووصل إلى بعض أنفاقها وممراتها ، لكنه لم يسترد أسيراً إلا بإطلاق أسرى مقابله ، وبقيت النار تخرج من بين فرقه وألويته المناورة في قطاع غزة ، تهدد حشوده ، وتضرب في عمق أرضنا المحتلة ، وفي الوقت الذي تريده المقاومة وبالكمية التي تحددها ، فلا الطحن أجدى ، ولا المناورة أفادت ، فالأسرى ؛ أسرى ، والتهديد ما زال قائماً ، لا بل زاد وتعاظم ؛ ففتحت النار عليه من شمال فلسطين المحتلة ، فهُجر مغتصبوه ، وخوت مغتصباته ، وحرمت قوافل إمداده  من الوصول بحراً ، و ( تُحرش ) بسيده ومالك زمام أمره في سوريا والعراق  ، في مشهد وموقف أمني إقليمي ودولي ،  قال مدير الـ C I A  " وليم بيرنز " أنه لم ير مثله من التعقيد وإمكانية الانفجار منذ عقود ! فماذا جنى هذا العدو مما وضع من أهداف وحدد من غايات ؟ والحرب تقيّم بناء على ما وضع لها من الأهداف ، لا وفق ما دمرت وقَتلت وحطمت آلاتها ، وقَتل جنودها .  

المشهد الأخير : مشهد متخيل بعد وقف النار :  

 ستقف الحرب عاجلاً أو آجلاً ، وستُطفأ محركات آلاتها ، وستبرد رؤوس قادتها ومديريها ـ الحرب ـ وأصحاب القرار فيها ، وستبدأ لجان التحقيق والتدقيق واستخلاص العبر بالتشكل وعقد الجلسات ، وإدارة الحوارات ، وستستحضر معايير التقييم ـ نتحدث فقط عن مشهد العدو ـ التي عرّفها كمؤشرات للنجاح ، وعلامات للنصر والتي هي :  

1. تفكيك بنية حماس العسكرية  والسلطوية .  

2. تأمين مغتصبات غلاف غزة وإبعاد مصادر التهديد عنها .  

3. تدمير مصادر التهديد على العمق الفلسطيني المحتل .  

4. استرجاع الأسرى .

وبحسبة بسيطة ،  وبرأس بارد ، لا شيء  مما ذكر تحقق ، وبشهادة الأعداء قبل الأصدقاء ، والميدان خير شاهد ودليل ، فالأسرى ( فص ملح وذاب ) ، والصواريخ ما زالت تتساقط على "تل الربيع " فضلاً عن مغتصبات الغلاف ، ومغتصبو شمال فلسطين ؛ ما زالوا في أراضيها تائهين ، والبحر مغلق في وجه السفن المعادية حتى حين .  

لقد وصفنا عدونا في العنوان بالغباء ! فأين مؤشرات هذا التوصيف ، وما هي قرائنه ، بعد هذا الشرح ؟ قلنا أن هذا المشهد الأخير مشهدٌ مُتخيل لما ستقوله لجان التحقيق والتدقيق عند العدو ، عندما يتحلقون لبحث ما جرى لاستخلاص دروسه وعبره ، وبما أن معيار التقييم هو ما وضع من أهداف ، وحيث أن هذه الأهداف لم تحقق ، فإننا نتخيل هؤلاء القوم يقول بعضهم لبعض ما يلي :  

أما وأننا صُفعنا على غفلة ، و ( عُلّم ) علينا على حين غرة ، وأسر منا من أسر ، ودمر لنا ما دُمر ، الأمر الذي استدعى ( تأديب ) المعتدي ، و ( التعليم ) عليه كما ( علّم ) علينا ، وما في هذا من خلاف ، وليس فيه نقاش . ولكن ألم تكونوا تعلمون هزال آلتنا إن نزلت إلى الأرض ؟ وأن ما نحسنه ونتقنه لا يعدو قصفاً من الجو أو البحر أو البر ؟ وأن هذا الفعل لا يعيد أسرى ، ولا يقضي على تهديد ؟  ألم يكن من الأفضل لنا أن نشن حملة ( تأديبية ) نؤدب فيها عدونا عن بُعد ، ودون أن نحتك به أو نحقق التماس معه ، أو نقاتل في المربع الذي يحسن هو فيه القتال والمناورة ؟ ألم تقولوا ، ونَقل عَقب تموز 2006 أننا ما كان يجب علينا أن نخرج في حملة عسكرية ، ندرك أنها لن تعيد الأسرى ، ولن تدفع التهديد إلى شمال الليطاني ، فضلاً عن قضائها على بيئة المقاومة وحاضنتها في الجنوب اللبناني . ألم تقولوا أننا درسنا الموقف ، واستخلصنا العبر ؟! فأين هي هذه الفائدة التي زعمتم أنكم خرجتم بها في تموز 2006  ؟ حتى لا تكرروا نفس الخطأ في 2023 .

ماذا جنينا وجنيتم بعد ما يزيد عن المئة والخمسة عشر يوماً من الحرب ، والنار ، والدمار والمناورات ؟ طبعاً بالرجوع إلى أهداف الحرب التي وضعتموها في أول يوم خرجتم لها فيه ! لا شيء سوى :  

1. كشف عوار جاهزية الجيش وهزالة أدائه و ( الشمس ما بتتغطى بغربال ) ،  وعند المركافا وسلاح المهندسين ، الخبر اليقين .  

2. تآكل ( شرعية ) محلية وإقليمية ودولية ، كنا قد حزناها في أول يوم صُفعنا فيه تلك الصفعة المدوية .    

3. تراجع ثقة جمهورنا ـ العدو ـ الداخلي بآخر مؤسسة ( الجيش ) ، كنا نعدها بوتقة الصهر ، ومادة اللصق ، وحامية الظهر، ورادعة العدو ، وقدس الأقداس ، حتى تطاول عليها " بن غيفر " و"سموترتش " !!  

4. تراجع الثقة داخل المؤسسة العسكرية ، فمن ينتقد أداءها هم أبناؤها ، وضباط خدموا في صفوفها ، فضلا عما يواجهه القادة الحاليّون ، من انتقاد من مرؤوسيهم العاملين في مختلف الجبهات والميادين .

5. كسر هيبة الجيش ، وكشف ضعفه ، واستمراء التعرض له وعليه ، في مختلف الجبهات والجهات ، من الشمال حتى الجنوب .  

6. كشف نقاط ضعف بنيوية قيل لنا أننا نعمل على تقويتها منذ 2006 وحتى الآن ؛ فدافعية المقاتلين ترى في احتفالاتهم أثناء الخروج من الميادين فرحين راقصين ! ومناورة القوات ثبت فشلها في معظم الجولات ، فما أن تخرج القوات من بعض الجغرافيات ، حتى تلاحقها الياسين والتاندوم بالضربات تلو الضربات !! وطرق العمل لم تثبت نجاعتها ؛ وإلا لما عاد العدو للقتال في شمال القطاع لتحقيق أهداف قال أنه حققها قبل الهدنة الأولى في 24 11 2024 ، ولو كانت ناجعة ـ طرق العمل ـ لما بقيت صواريخ المقاومة تمطر غلاف غزة ، وعمق الأرض المحتلة ، والسرد يطول .  

7. تراجع الثقة في كفاءة الأدوات ، فماذا يعني أن تحيل قذائف غير معيارية ، دروعاً ـ  المركافا وشلتها ـ  معيارية ،  قيل أنها من أفضل وأرشق وأأمن وسائل القتال وأدواته ، ماذا يعني أن تحيلها خردة؟

هذه جردة حساب مما جرته هذه الحرب علينا ـ أتخيلهم يتحدثون في غرف التقييم ـ من نتائج ومصائب ، أما كان من الأفضل لنا أن :  

1. نشن حملة تأديب عن بعد نعاقب من اعتدى ونردع من يفكر بالاعتداء .  

2. ونرفع صوتنا بالتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور ، دون أن نخضع قدراتنا للاختبار ، فتنكشف سوءتها .  

3. إبقاء هيبة الردع وهالة الرعب تلفنا ، ونتلفع بها ، فلا نكشفها ، فيعرف أثرها ، ويبين هزلها ، فتبقى مُخيفة مُهابة الجانب ؛  فالإنسان عدو ما يجهل .  

أخيراً ؛ ليس الهدف مما قيل التقليل من شأن عدونا ، فالعاقل لا يَنم لعدوه لو كان نملة ، ولم يكن الهدف تقييم أداء المقاومة وشراسة فعلها ، فشمس فعلها لا تغطيه (غرابيل) الدنيا ولو اجتمعت، ولا تقييم إجراءات العدو وفداحة أثرها ، فوحشيته ظاهرة كشمس في رابعة النهار ، إنما الهدف من هذه الورقة استخلاص العبر من موقف العدو ، وإنزال النفس منزلتها ، والزامها حدها ، والتفكير برأس بارد أمام المواقف الساخنة ، فقد يجر فعلٌ عكس ما أريد منه وخطط له ، والعاقل من يعرف متى وأين يقدم ، ومتى وأين يحجم . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .  

عبد الله أمين  

02 02 2024  

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023