مقاومو الضفة الغربية: المطاردة قرار اضطرار أم قرار خيار ؟ وجهة نظر

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

​​​​​​​مقدمة:
قرن الله سبحانه عز وجل ترك الأوطان ؛ بدئاً بالصغيرة منها ؛ كالحي والحارة والمدنية ، وانتهاء بالبلد الكبير ، قرنها سبحانه بقتل النفس ، فقال عز من قائل : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل ٌ منهم .." ، حيث أن خروج الإنسان من بيته أو حيه أو مدينته ؛ فضلاً بلده الأم ، ليس بالأمر السهل نفسياً أو اجتماعياً أو معاشياً ، وإن كان من الناحية الإجرائية بسيط مُيسّر ؛ فأن تنتقل من بيئة إلى أخرى ، ومن دائرة اجتماعية وعلائقية إلى أخرى ؛ يحمل من الأكلاف ، ما قد يوازيه من جدوى . هذا في الحياة المدنية العادية ، فكيف بالإنسان إن أجبر، أو قرر هو بذاته أن يأخذ قرار الخروج الضمني من البيئة أو الحي أو البلد الذي ولد وترعرع فيه ، بحيث يفرض على نفسه وأهله نمطاً معيناً من حياة ، فيقرر مضطراً أو مختاراً أن يصبح طريد الأجهزة الأمنية أو العسكرية حيث يقيم أو يسكن ، كون مثل هذا القرار سيجبر صاحبه على تغيير كامل  حياته وحياة من يرتبطون به ؛ وفي مختلف الدوائر الحياتية أو المهنية . وهنا يستحضر البعض حادثة أبو بصير رضي الله عنهعندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينةالمنورة ، فاراً بدينه بعد صلح الحديبية ، فرده خير الخلق صلى الله عليه وسلم مع من جاؤوا يطلبونه من كفار قريش ، حيث ألزمت نصوص الصلح ، أن يُرد القادمون إلى المدنية من المسلمين ، ولا يرد العائدين إلى مكة كافرين ـ مع أنه لم يحصل مثل هذا الأمر ـ ، فعاد أبو بصير مع حارسيه ؛ فغافلهم وقتل أحدهم وفر الآخر ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثانية ، قائلاً له ـ للنبي ـ قد وفى الله عهدك وأبرأ ذمتك ، ثم خرج أبو بصير إلى " العيص " فاراً بدينه ، مضيّقاً على من آذوه ، بعد أن قال في حقه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : " ويل أمه ، مسعر حرب لو كان معه رجال " ، فالتقط أبو بصير رضي الله عنه عبارة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفهم توجيهه ، فالتحق به من التحق من المسلمين وعلى رأسهم أبا جندل ، وما زالوا يضيّقون على قريش حتى ناشدت ـ قريش ـ النبي صلى الله عليه وسلم أن ردهم إليك ، واقبلهم عندك . لقد مارس هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم فعل المطاردة الفاعليةالنشطة التي ضيّقت على عدوهم ، إلى الدرجة التي طلب فيها العدو الفكاك منهم . إن كاتب وجهة النظر هذه لا يدعي أنها ملم بتفاصيل المطاردة أو المطاردين في فلسطين أو خارجها ، لذلك فإن ما فيها إنما هو عبارة عن فهم واستنباط لأمور يرى كاتبها أنها تفهم ضمناً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وتوجهيه لأبي بصير ، وكذلك من سلوك هذا الصحابي ومن لحق به ، الأمر الذي أحالهم من مُطارَدين إلى مُطارِدين ، لذلك ستناقش وجهة النظر هذه المسألة ـ المُطاردة قرار اضطرار أم قرار خيار؟ ـ ، وهل يُلجأ لمثل هذا الأمر اضطراراً أم خياراً ؟ عبر العناوين الآتية :

ماذا يعني أن تكون مُطارداً :

إن أصل الهدف من أن يُطارد المقاوم ـ مريداً أو مضطراً ـ ؛ أن يحمي نفسه ، وإطار العمل الذي يعمل فيه أو معه ، أو البيئة التي يتحرك فيها وضمنها من ضربات عدوهوبطشه ورد فعله ، من أجل الحاق أكبر كم ممكن منالخسائر البشرية والمادية بهذا العدو ، فإن كانت هذه المصلحة متحققة أو راجحة ؛ فإن اتخاذ مثل هذا القرار يكون ذا معناً وجدوى ، أما إن لم تكن هذه الغاية متحققةأو غير راجحة ، فإن تجشم عناء هذه الحالة ـ المطاردة ـ والتسربل في ثوبها ، لن يعدو كونه عبئ زائداً لا خير فيه ومنه أو معه . وحتى تحقق المصلحة من قرار المقاوم بأن يصبح مُطارداً ، بحيث يتحول مُطارِدٍ ، نعتقد أنه يجب عليه أن يتمتع ـ شخصاً وسلوكاً ـ بمجموعة من الميزات والصفات ، من أهمها :

1. ان تَرى ولا تُرى :

فإن كان هدف المطاردة حماية الذات أو القدرات أوالصداقات والبيئات ، فإن أول ـ بعد حفظ الله ورعايته ـ ما يمكن أن يحقق لهؤلاء الحماية من العدو ورد فعله هو أن يكون المُطاردُ رائياً غير مرئي ، مُشاهِدٍ غر مُشاهد ، فلا يُفطنُ له ، ولا يرى أثره المادي ، وإن كان أثر سلوكه وفعله يُشير إليه . أما أن يكون المُطارد له في ( كل عرس قرص ) فإن هذا ما يُقصر من عمره ، ويثكل كاهله ، ويجرالمصائب على بيئته ، الأمر الذي قد يفضي بها ـ البيئة ـ إلى لفظه ، والابتعاد عنه ، وتجنب تهيئة الظروف المناسبة لطول عمره ، ودوام أثره وفعله .

2. أن تَسمع ولا تُسمع :

كيف لا ، وهو مطلوب منه أن يفاجئ العدو ، ويأتيه من حيث لا يحتسب ، فإن قبع المُطارد في بيته أو مغارته أو ملجئه دون بثه لعيونه وآذانه ، لترى عنه ، وتسمع بدلاً منه ؛ فإن سوف ينقطع عن بيئة عمله ، ومربع فعله ، وقد يفاجأ في أي لحظة ، وتسدد له الضربات من حيث لا يتوقع أو يحتسب ، عليه أن يصبح كالذئاب ، تنام مغمضة عيناًوفاتحة أخرى !

3. خفيف الظل معدوم البصمة :

قيل في الأثر : " البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير " ، و ( الله سبحانه ما شافوه بالعقل عرفوه ) ـ قياس مع الفارق أكيد ـ لذلك فإن أثار المُطار الغبار فيكل مكان يصل له أو يتردد عليه ، فلن يلبث العدو ـ بذاته أو بأدواته ـ أن يصل له ، لذلك يجب على المطارد أن " يدب دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء " وغير ذلك ؛ فعناءٌ في عناءٍ في عناء ، و ( غلبة على الفاضي ) .

4. بارد الرأس ( جامد ) الأعصاب :

ومن الأمور المطلوبة لتحقق المُطاردة هدفها ، وينال المُطارد مبتغاه ـ حفظ الذات وإيذاء العدو ـ أن يكون بارد الرأس ، جامد الأعصاب ، لأن عدوه إن لم يظفر به ، فإنه سيعمد إلى استفزازه ، والضغط عليه ، وتسخين الأجواء من حوله ، ووضعه في (قدر ضغط ) حتى يظفر منه بحركة غير محسوبة العواقب ، فيدفعه للّعِب في ملعبه ، ووفق شروطه ، وعندها ستكون الغلبة للعدو ، وسيفرض ـ العدو ـ على المُطار ظروف المعركة وبيئتها وجغرافيتها ، وأسوأ موقف يمكن أن يقاتل فيه المقاتل هو الموقف الذي يفرض فيه العدو أرض المعركة وزمانها ونمط عملها على عدوه ، أو الخصم على خصمه .

كانت هذه بعض أهم الميزات أو الصفات التي يجب أن يتحلى بها المُطارد في حال اختار بقراره ، أو فرض عليههذا النمط من العمل والحياة ، حتى يحقق ما يصبو له ، ويصبح جدوى مطاردته أكبر من أكلافها . وحتى يتحول هذا المُطارد إلى عنصر فاعل ومؤثر في الموقف القتالي والنضالي ، بحيث يتحول إلى " مُسعر حرب " فإننا نعتقد أنه يجب أن تجتمع له ـ للمطاردـ مجموعة من العواملوالمرتكزات ، من أهمها :

1. 

أن يكون هناك ما يستدعي حقيقة أن تكون مطارداً

 :



يجب أن يكون هناك من الأسباب والعلل ما يبرر الذهاب إلى مثل هذا الخيار ، كونه ـ خيار المطاردة ـ مهما وفر من مُحسّنات وبيئات عمل مناسبة ، فإنه في الشق الآخر من المعادلة ؛ يضع المقاومين والمجاهدين تحت مقصلة رقابة العدو وأعوانه ، وتُقصر من عمر الأعمال ، وتحرم المقاومة من فرصة مراكمة الخبرات ، لذلك يجب أن لا يُلجأ لمثل هذا الخيار ما لم يكن هناك من العلل والأسباب الحقيقية والقاهرة ما يفرض على المقاوم اللجوء لدواء الكي هذا ، فلس صحيحاً ولا سليماً ( كل ما دق الكوز بالجرة ) اللجوء إلى خيار المطاردة أو ( الشعتلة ) هذه .

2. أن تكون بيئة مساعدة والحاضنة مهيئة :

فليست كل البيئات تساعد على نجاح المُطارد ، فالمُطاردة ليست هدفاً بذاتها ، وإنما وسيلة للوصول إلى هدف ، وعليه ؛ ما لم تكن البيئة التي ستحتضن المُطارد بيئة مساعدة ، وقادرة على تحمل أكلاف مثل هذا الاحتضان ، فإن هذا السلوك سوف يرتد سلباً على المقاومة والمقاومين وبيئتهم الحاضنة ، وعندها سوف يتحولالمُطاردين من قيمة مضافة ، إلى عبئ يحاول الجميع التخلص منه .

3. أن تعرف عدوك ؛ القريب قبل البعيد :

ومما يساعد على تحويل المُطارد أو المُطاردين إلى عنصر قوة ، وذراع ضاربة تؤلم العدو وأعوانه ؛ معرفة المقاومين لعدوهم ـ القريب قبل البعيد ـ ، فكيف يُتقى شرُ شرٍ لا يُعرف كنهه وماهيته ، وكيف يمكن تسديد ضربات لعدو ومفاجأته وأنت لا تعرف نقاط ضعفه وقوته ، وكيف يمكن أن تُكسر شوكة محارب صائل يفسد الدين والدنيا ، دون معرفة أدوات عمله ، من عملاء وعيون وجساسين ، والذين يهيئون له ظروف العمل وبيئته المناسبة .

4. أن تعرف ذاتك وقدراتك :

كما يجب معرفة الذات والقدرات ، فلا تكلف النفس فوق طاقتها ، ولا البيئة أكثر مما تحتمل ، ورحم الله امرئ عرف حده ، فوقف عنده ، وادعاء القدرة دون امتلاكها ، قد يفضي إلى مهلكة وتهلكة ، كما أنه قد يدفع الحاضنة الشعبية إلى عدم التعاون ، ولفظ الحالة ـ حالة المُطاردة ـ لذلك يجب التدقيق في معاني القدرات ومضامينها وحقائقها ، وتعريف الذات دون مزايدات ، والتمييز بين القدرات والرغبات ، فما كل ما يتمنى المرؤ يدركه .

5. أن تظهر متى وكيف وأين تشاء أنت ؛ لا عدوك :

ومما يحيل المُطارَد إلى مُطارِد ؛ أن يظهر متى وكيف وأين شاء ، وأن يتجنب استفزاز العدو له أو فرض ساحة المعركة عليه ، لذلك قلنا أنه يجب أن يكون بارد الرأس ،جامد الأعصاب ، يجب على المقاومين أن يتخيروا معاركهم بدقة وعناية ، فالمرحلة ليست مرحلة المعارك الحاسمة ، ولا الاشتباكات الصفرية ، إنها مرحلة اضرب واهرب ، إنها مرحلة بناء الارضيات الصلبة ، والقواعد الآمنة ، ونقاط الارتكاز القوية ، التي تؤمن الصديق ، وتؤذي العدو ، لتستثمر لاحقاً نكاية وفَتاً في الأعداء .

هذه بعض الأفكار التي نعتقد أنها يجب أن تكون محل مراجعة وتدقيق من أصحاب الشأن ، علّ فيها وسيلة لتأمين خير فيؤخذ ، أو دفع شر فيتقى . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عبد الله أمين

11 03 2024




جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023