هل فشلت اسرائيل في حربها على غزة؟

​​​​​​​
تقدير استراتيجي

برغم نجاح الاحتلال في اجتياح كامل قطاع غزة، وضربه بأكثر من (٨٠) ألف طن من المتفجرات (ما يعادل ٤ قنابل نووية) ما أدى إلى إحداث دمار هائل تجاوزت نسبته (٨٠%) من مباني القطاع وبُنيته التحتية والصناعية والزراعية والخدماتية، وعدد الضحايا الكبير الذي تجاوز ال(١٥٠) ألف بين شهيد وجريحِ ومفقود. وحالة التشريد والجوع والحرمان التي لا يزال يعيشها سكان القطاع، الا أن هناك اجماع في دولة الاحتلال على كل المستويات السياسية والعسكرية والإعلامية على الفشل الاستراتيجي لحربهم على غزة، وعدم قدرتهم على تحقيق أهداف الحرب 

ويمكن رصد ملامح هذا الفشل من خلال المتابعات الميدانية وتقارير الاجهزة الاستخبارية الاسرائيلية والعالمية وتصريحات بعض القيادات، ومنهم "تساحي هنيجفي" رئيس مجلس الأمن القومي الاسرائيلي، و "غادي أيزنكوت" عضو مجلس الحرب ورئيس هيئة الأركان الاسبق، و تقارير مجمع الاستخبارات الأمريكية لشهر ابريل٢٠٢٤، و تصريحات "موشيه يعالون و إيهود باراك" رئيسي الاركان السابقين و "عامي أيالون" رئيس جهاز الشاباك السابق، والجنرال المُتقاعد "يتسحاق بريك"، وتصريحات رئيس المعارضة "يائير لابيد" وغيرهم الكثير، والتي يمكن اجمالها على النحو التالي:- 

١. الفشل في استعادة الاسرى الاسرائيليين لدى الم.م.ق.ا.و.مة بالضغط العسكري كما كان يُروج ولن يكون بإلامكان استعادتهم إلا من خلال ابرام صفقة مع المقاومة. 

٢. الفشل في القضاء على ال.م.ق.ا.و.مة وإسقاط حكم ح.م.ا.س في غزة واستبدالها بكيانات أخرى برغم كل القوة الغاشمة المُستخدمة حيث:
- فشل مخطط التجويع في شمال غزة الذي كان يهدف إلى إجبار الم.ق.ا.و.مة على الاستسلام ودفعها لمبادلة الاسرى الاسرائيلين بالطعام بحسب طلب مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية "وليام بيرنز" من ح.م.ا.س بواسطة الوسيطين القطري والمصري في الجولة الثانية من المفاوضات .
- فشل مخطط الصحوات ورفض العشائر الفلسطينية بأن تكون بديلا للحكومة في غزة.
- فشل مخطط ايجاد شخصيات من المجتمع المدني تتعاون معهم من اجل حكم غزة.
- فشل مخطط دخول قوات عربية لحكم غزة لتكون بديلا عن حكم ح.م.ا.س والذي سوقته دولة الاحتلال عالمياً بوساطة أمريكية حيث جاء الرد مباشرة من الم.ق.ا.و.مة ومن الدول العربية المعنية بالرفض. 
- فشل مخطط القضاء على الانروا واتهامها بالارهاب ومنع الدول الغربية من تمويلها حيث عادت غالبية الدول لتمويلها بإستثناء الولايات المتحدة وأستراليا.

٣. الفشل في إعادة (٥٠) ألف مستوطن من سكان غلاف غزة الى بيوتهم و(١٠٠) ألف مستوطن من سكان شمال فلسطين المحتلة والذي يربط حزب الله عودتهم بوقف الحرب على غزة. 

٤. الفشل في تنفيذ مخطط التهجير لسكان قطاع غزة نحو سيناء طوعاً أو كُرها من خلال التدمير الشامل للقطاع وجعل الحياة فيه مُستحيلة بعد الحرب وهو مخطط سبق وأن أعدته وزارة الشؤون الاستراتيجية الاسرائيلية على أن يتم تنفيذه بنهاية عام ٢٠٢٣ أو بداية عام ٢٠٢٤، وهو ما أكدته وثيقة طلب التمويل للبيت الأبيض المقدمة للكونجرس في ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٣ والتي طلبت فيها الادارة الامريكية مبلغ (١٠٦) مليار دولار، منها (٣.٤٥) مليار دولار للتعامل مع النازحين الغزيين في الدولة المجاورة. (مع العلم ان الوثيقة يتم صياغتها قبل ثلاثة أشهر على الأقل من تقديمها) وللعلم رُبما هذا المخطط هو أخطر ما في الحرب والذي كان يُراد منه تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل وتنفيذ نكبة جديدة، وقد فشل بفضل الصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني وم.ق.ا.و.م.ته الباسلة ورفض القيادة المصرية لمغريات التوطين.

٥. الفشل في استعادة هيبة الردع والكرامة المفقودة بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. برغم استخدامها لأقصى ما لديها من القوة الغاشمة لاحداث حالة من الصدمة والذهول لتُجبر المقاومة على الاستسلام من هول ما تراه من قتلٍ ودمار وهو ما فشلت به، حيث أشارت بعض التقديرات الاستخبارية الاسرائيلية إلى أن جيش الاحتلال وضع على بنك أهدافه قتل ما يقرب من (١٥٠) ألف شخص هم عناصر ال.م.ق.ا.و.مة وعائلتهم والمتعاطفين معهم. لقد أصبحت اسرائيل هي نفسها المردوعة أكثر ويتجلى ذلك بعدم القدرة على شن حرب على حزب الله الذي أطلق أكثر من (٣٥٠٠) قذيفة صاروخية ومسيرات انقضاضية منذ بداية الحرب أصاب بها ما يقرب من (١٠٠٠) هدف عسكري في الشمال بل ويُهدد الان سكان مدينة حيفا ويُطالبهم بفتح الملاجئ. وأنه وبمجرد انتهاء جولة القتال هذه في غزة ستكون اسرائيل مُجبرة على فتح جبهات قتال خارجية جديدة لاستعادة ردعها المفقود، أهمها الجبهة مع إيران والجبهة اللبنانية مع حزب الله > ناصر ناصر: ٦. الفشل السياسي والدبلوماسي والاعلامي الذي أدى إلى تعاظم التأيد العالمي للحقوق الفلسطينية واتساع دائرة المظاهرات في الولايات المتحدة واوروبا وخصوصا حراك طلاب الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة واتساع حملات المقاطعة الأكاديمية والتجارية وما يحمله ذلك من مخاطر استراتيجية، وما سببه من تعاطف رسمي مع الفلسطينيين مما دفع بعض الدول الاوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية.

يُضاف إلى هذا الفشل المخاطر الاستراتيجية الكُبرى التي لحقت بالاحتلال نتيجة للفظائع التي ارتكبتها في هذه الحرب ضد الأبرياء من الشعب الفلسطيني والتي يمكن اجمالها على النحو التالي:- 

٧. انهيار السردية الاسرائيلية لحالة المظلومية التي سوقتها على العالم طوال (٨٠) عاما الماضية وانكشاف زيف تلك الرواية أمام الرأي العام العالمي وتهشم تهمة معاداة السامية التي تقمع بها كل من ينتقد الممارسات الاسرائيلية.

٨. تعمّق حالة الانقسام الداخلي سياسياً واجتماعياً وايدلوجياً لدرجة لا يمكن معها تجاوزه، يُضاف لذلك انكشاف أزمة القيادة التي تضرب الدولة منذ عقدين من الزمن ويُرافقها حالة الفساد الذي يستشري في كل مرافق الدولة بشكل غير مسبوق، مما قد يحول الانقسام إلى صراع وفوضى تعم البلاد. 

٩. ملاحقة الدولة وقادتها أمام محكمة الجنايات الدولية بتهمة جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وأمام محكمة العدل الدولية بتهمة الابادة الجامعية للمرة الأولى في تاريخها وهو ما سيجعل من اسرائيل دولة منبوذة خلال السنوات القادمة. 

١٠. حالة الانهاك والاستنزاف والضعف التي أصابت الجيش نتيجة لطول مدة القتال على غير المُعتاد، وارتفاع نسبة القتلى والجرحى بشكل غير مسبوق، فبحسب الاحصاءات الرسمية الاسرائيلية فقد تجاوز عدد المعاقين من الجيش الاسرائيلي جراء حرب غزة (١٠) آلاف جندي وهذا يُعطي مؤشر واضح أن الأرقام التي يتحدث بها الناطق باسم الجيش الاسرائيلي "دانيال هجاري" غير دقيقة وأن أعداد القتلى والجرحى أعلى بكثير من المُعلن عنه.ويُضاف إلى ذلك فقدان الجيش لأكثر من (٢٠٠٠) آلية عسكرية بشكل جزئي أو كلي وهو ما يجعل من قدرته على فتح جبهة جديدة في الشمال مع حزب الله غير محسوبة العواقب يُعزز ذلك النقص الواضح في أعداد قوات الجيش. يُضاف إلى ذلك تراجع الروح المعنوية للجنود وعدم الرغبة في القتال حيث تشير التقديرات التي نشرتها وسائل إعلام اسرائيلية إلى رغبة أكثر من نصف ضباط الجيش النظاميين ترك الخدمة، وأعذار التمارض التي يُقدمها جنود الاحتياط للهروب من الخدمة.

١١. انهيار نظرية (جيش ذكي وصغير) التي طبقتها الدولة وتبين فشلها في هذه الحرب، وأنه يتوجب إعادة بناء الجيش وفقاً للنظرية السابقة وهذا يحتاج لاعداد أكبر من القوات في وقتٍ تتزايد في عدم الرغبة في القتال لدى قطاعات واسعة من الشباب الاسرائيلي ورفض الحريديم الانضمام إلى الخدمة الالزامية بالجيش. 

١٢. الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعانيه الاقتصاد الاسرائيلي حيث تُشير الأرقام إلى أن الخسائر المباشرة وغير المباشرة لإسرائيل جراء الحرب قد تصل إلى (٢٥٠) مليار شيكل بحلول العام ٢٠٢٥ بحسب محافظ بنك اسرائيل. ربما هذه الخسائر يمكن تعويضها من الولايات المتحدة مباشرة، ولكن الذي لا يمكن تعويضه هو تآكل البُنية الصناعية لقطاع (Hi teck) الاهم في اسرائيل والذي يحتاج الى الاستقرار والهدوء مما يجعل استعادة هذه القطاع لوضعه السابق شبه مُستحيلة مما سيُضاعف حجم الخسائر في حال هروب الشركات الكُبرى لهذه الصناعة إلى الخارج كما هو مُتوقع. 


خلاصة القول 
برغم تدمير قطاع غزة وانهيار ما تبقى من منظومته الاقتصادية والخدماتية
إلا أن الفلسطينيون حققوا مكاسب استراتيجية بفضل التضحيات العظيمية التي قدمها الغزيون

وصمودهم الاسطوري وثبات مقاومتهم الباسلة في وجه أعتى ترسانة عسكرية في الإقليم.

وفي المقابل خسرت اسرائيل خسائر فادحة لم تكُن في حسبانها الأمر الذي سيكون له تداعيات ومآلات إيجابية للفلسطينيين وحاسمة للصراع مع الاحتلال. وذلك بفعل تجذر إرادة القتال وإرادة البقاء لدى الشعب الفلسطيني وعجز الاحتلال عن كسرهما.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023