حديث في الأصول والمباني :
لأنها أعقد نشاط يمكن أن يمارسه آدمي ؛ ولأنها تجمع على الصعيد الواحد الشيء ونقيضه ـ قساوة القلب مع العواطف الجياشة ـ ؛ ولأن الخطأ فيها من غير الممكن الرجوع عنه ، ولأنها في كثير من الأحيان غير متوقعة النتائج ، وغير معروفة السقوف والمديات الزمنية ، ولأنه يعرف كيف ومتى وأين بدأت ، ولا يعرف متى وأين وكيف ستنتهي ، ولأنها ، ولأنها ؛ كُتب وسيكتب عنها الكثير الكثير . ولأننا في محضر " طوفان الأقصى " وتداعياته ، ولأن التقديرات والتحليلات فيما يخص جبهة شمال فلسطين وما قد يفضي له تطور الموقف فيها إلى حرب إقليمية ، تجعل غزة وما فيها ومن فيها تفصيلاً لا يُذكر ، ولأن كلا الرأيين القائلين بإمكانية أو عدم إمكانية تطور الموقف شمالاً وصولاً إلى حرب ، لهما من الحجج والمعطيات ما يعضدهما ، ولأن كاتب هذه السطور لا يرى ـ إلى الآن ـ من المعطيات والقرائن والشواهد ما يمكن أن يجعله يقول بإمكانية تطور الموقف على الجبهة اللبنانية ليصل إلى حرب إقليمية ، ولأن التقديرات والتحليلات ما هي إلّا جهدٌ بشري قد يصيب ويخطئ ، بناء على صلابة ودقة المعطيات ، وجودة وكفاءة آليات وأدوات قراءتها وتحليلها وتقدير مآلاتها ؛ ولأن أي موقف قد يدخل عليه ما يعرف في عالم التحليل والتقدير بـ "المسار الحرج " ، أو قد (تحط) في ميدانيه ( بجعة سوداء Black Suan ) تقلبه رأساً على عقب ، لأن الموقف على ما قيل ؛ كانت هذه الورقة التي ستتحدث عن مجموعة من المسارات الحرجة التي قد تدخل على المشهد القتالي في الجبهة الشمالية فـ ( تنعف ) كل ما قيل حوله من تقديرات وتحليلات ، فندخل في حرب غير معروفة النتائج والنهايات . ولكن قبل الدخول في الحديث عن هذه المسارات ، أرى أنه من الضروري الحديث عن بعض الأصول والمباني التي تساعد في فهم الموقف وحل ( طلاسمه ) ، كما أنها ـ المباني والأصول ـ مفيدة في تكوين أرضية مفاهيمية ، تقرب وجهات النظر ، وتحد من شقة الخلافات التي تعتري كثيراً من جلسات الحوار والنقاشات .
أولاً : في الحرب وتعرفيها وقرار بدئها :
قيل الكثير في تعريف الحرب ، وكيف ولماذا يؤخذ قرار شنها ؛ ولكن خير ما قيل في شأنها أنها تقع عندما ، يبالغ الساسة ، ويخطئ الجواسيس ( اقرأ ضباط الاستخبارات والمعلومات )! . نعم ؛ تقع الحرب عندما يبالغ الساسة في : الرفع من شأن المصلحة المراد تحقيقها ، فتوصف على أنها مسألة حياة أو موت ، وهي ليست كذلك ! أو عندما يصفون التهديد بأنه من النوع الخارق الحارق المتفجر ، الذي يجب لرده من تعبئة القوات ، و تجريد الحملات ؛ وهو عن هذا التوصيف قد يكون بعد . كما أنهم (يورطون ) الأمة والشعب في حرب لا طائل منها عندما يبالغون في ثقتهم بأنفسهم ، ويتعامون عن مكامن الخطر الذاتية ، بكثير من اللامبالاة والسطحية ؛ فيفتحون حرباً قبل سد هذه الثغرات ! أو قد يندفعون نحو الحرب عندما يبالغ أحدهم أو كلهم في تحقير الخصم والتقليل من شأنه ، وأن القضاء عليه ودفعه نحو الاستسلام أمرٌ ممكن ومقدور عليه . أما أم ( الخبائث ) في المبالغات فهي مبالغة السياسي أو القادة في الاعتداد بالرأي ، وأن لا شيء عند الآخرين يمكن الاستفادة منه ، وأنهم فريدوا عصرهم ووحيدي دهرهم ، وما على الأمة إلا اقتفاء أثرهم والسير على نهجهم . أما عن خطأ الجواسيس ؛ فهم قد يدفعون إلى حرب إن هم أخطأوا في فهم و(هضم ) المهمة التي أسندت لهم ، عندها سيخطؤون ـ حكماً ـ في جمع المعطيات والمعلومات عنها ، ومن ثم تحليلها واستخلاص النتائج منها ، كما أنهم سيسوقون الأمة أو الشعب إلى حرب إن هم أخطأوا في قراءة المشهد الكلي للموقف محل البحث . أما أم الخطايا والرزايا التي يقع فيها ضباط الاستخبارات فهي : عدم القدرة ، أو الخطأ في قراءة نوايا العدو وما يمكن أن يُقدم عليه هو ابتداءً كفعل مبارد ، أو انتهاءً كرد فعل على فعل ضده مبادر . نختم فيما يخص الحرب فنقول : أن أحداً لا يمكن أن يقدم على أخذ قرار حرب ما لم يكن لديه تقدير أقرب إلى الدق والصحة بأن حربه سوف تكون سريعة ، وحاسمة ، ومضمونة النتائج ، ومُحققة للأهداف ، وأن جدواها أكبر بكثير من أكلافها . ولأن الحروب والمعارك تُقيّم بناء على نتائجها والأهداف التي شُنت من أجل تحقيقها ، وليس بناء على ما قدم أو يقدم فيها من تضحيات ، لأنها كذلك ؛ تُعرض على ما تقدم من معايير وموازين ، قبل التشمير لها ، والخوض في غمارها ، والاختفاء في نقيعها وغبارها .
ثانياً : في التحليل والتقدير :
أما في شق التحليل والتقدير ، فإن التقديرات والتحليلات تبنى على المعلومات والمعطيات ، ففي الوقت الذي يتوفر لدى منظومة صناعة القرار معلومات صلبة ، ومعطيات دقيقة ؛ فإنها تستطيع اقتراح طريقة عمل ، أو التوصية بأخذ قرار أو توجه معين ، أما إن لم يكن لدى هذه الجهات ما يسعف من حقائق ومعلومات ؛ فأنها تذهب باتجاه وضع وبناء السيناريوهات ، وهذا مبحث تخصصي تفصيلي فيه حديث كثير ، ليس هنا مكانه بسطه . وفي عالم التحليل والتقدير ؛ تحضر فرضية عقلانية الطرف الآخر ، بمعني أن الطرف المقابل لن يأخذ قرارات أو توجهات غير عقلانية أو ( انتحارية ) ، هذا ـ افتراض عقلانية الطرف الآخر ـ أمر مهم ولا يجب أن يُغفل عنه ؛ ولكن عندما تُسدد للخصم ضربة قاسية ، تُطيش عقله ، وتُطّير ( البرج الظايل من مخه ) عندها لا تتوقع عقلانية ولا عقلاء ؛ بل توقع من العدو تصرفاً مجنوناً لا عقلانية فيه ، يصعب معه معرفة نواياه المستقبلية أو ضرباته الانتقامية . ونختم هنا أيضاً بأصل مهم في التقدير ألا وهو أن الاستعدادات والتحضيرات والإجراءات تبنى على أسوء التقديرات ، وليس على أفضلها ، أو على الرغائب والأمنيات ، فإن وقع المحظور ؛ فـ (الخير فيما وقع ) ، وقد احتطنا وتهيئنا له ، وإن لم يقع ؛ فـ ( كله خير ) ، وكفى الله المؤمنين القتال .
كانت هذه بعض الأمور في المباني والأصول ، التي نعتقد أنها مفيدة كما قلنا في بناء قاعدة مفاهيمية ، تساعد على الفهم والقراءة الصحيحة .
المسارات الحرجة شمالاً :
أما عن أصل الورقة ، والهدف منها ، ألا وهو الحديث عن المسارات الحرجة ، و( البجع الأسود) الذي قد يحط رحاله في جبهة الشمال ، فـ ( ينعف ) كل ما قيل من تقديرات أو تحاليل ، ويدفع الجميع إلى التصرف بلا عقلانية ، فهي أمور عدة ، قبل أن نشرع بذكرها ، نُذكّر بأنها يمكن أن تُسقط على كلا طرفي معادلة الحرب في الشمال ، عنينا بهما ؛ " حزب الله " ومن خلفه من قوى مقاومة ومحور ممانعة ، والعدو الإسرائيلي ومن خلفه من حلفاء ومؤازرين ، أما عن أهم المسارات الحرجة فقد تتمثل بــــ :
إن أول المسارات الحرجة التي قد تفضي إلى خروج الموقف عن السيطرة ، وكسر ما ضبطه إلى الآن من ضوابط وقواعد اشتباك هو : سقوط قتلى من قادة الصف الأول لدى المتحاربين ، ففي العرف العسكري المنضبط والمتفق عليه ــ غزة استثناء ـأنه في العادة لا يتم المس بقادة الصف الأول لدى كلا طرف الحرب ، لاعتبارات كثيرة ؛ منها أنهم العناوين التي تُقصد للحديث معها من أجل وقف التصعيد أو ضبطه ، فإن غُيبت هذه العناوين ؛ فسوف ( تضيع الطاسة ) ، وسيتعذر الحل ، ويستعصي الموقف ، لذلك مثلاً نرى قادة العدو العسكرين والسياسيين ، يسرحون ويمرحون في شمال فلسطين المحتلة ، فتحط طائراتهم ومروحياتهم في المنطقة ، مطمئنين ومُطمئنين ، ثم يقفلوا راجعين . فإن كسر هذا (السد) شمالاً ؛ قد نكون أمام طوفان هادر ، لا ولن يُعرف مساره أو مصيره أحد .
ومن المسارات الحرجة أيضاً ؛ ضربة توقع خسائر كبيرة ، وغير محتملة لدى أي من الطرفين ، وهنا يحضر مشهد ( هدهد ) المقاومة الإسلامية ، بمعنى أن هذه الأهداف كانت وما زالت ، وستبقى في مرمى نار " حزب الله " وهي ليست بحاجة إلى نيران دقيقة لتدميرها ، فهي منشورة على مساحات واسعة تجعل منها "أهدف منطقة " وليست "أهدف نقطة " ، ويمكن الحاق أضرار ذات مصداقية بهذا الأهداف ، وبأقل الأكلاف ، ولكن المانع ، هو عقلانية " حزب الله " . وفي المقلب الآخر ؛ فالأهداف البشرية والمادية المؤثرة في الساحة اللبنانية كثيرة ، لا تبدأ بمطار بيروت الدولي ، ولا تنتهي بمرفئها ، مروراً بكل محاطات توليد الطاقة ، وخزانات النفط ومشتقات ، فضلاً عن أهم كتلة بشرية داعمة لـ "حزب الله " في الضاحة الجنوبية ، كلها أهداف يقدر العدو الصهيوني على تدمريها ، والحاق أضرار بها إن أراد ، ولكن ما يمنعه بعض من العقل باق في رأسه ، وكثيرٌ من الرعب من عدوه وحلفائه . ضربة قد توقع خسائر في مراكز ثقل عسكرية ذات بعد استراتيجي :
كأن تُستهدف مثلاً وزارة دفاع العدو ، أو مقر قيادة جيشه ورئاسة أركانه ، أو تُضرب لـ " حزب الله" غرفة عمليات مركزية تجمع كبار قادته العسكريين ، أو ضيوفه والمستشارين ، أو أن يشن العدو ضربة على مستودع للمقاومة يحوي قدرات ذات طابع إستراتيجي مؤثر على المسار الكلي للحرب وتطورها ؛ عندها سيُرد على ضربة العدو بضربة تشبهها ، فيرتفع منسوب الخطر ، وندخل في مسار لا يمكن التكهن بخواتمه ، قد يفضي إلى حرب كما قال الأمين العام لـ "حزب الله " السيد حسن نصر الله ، بلا سقوف ولا ضوابط ولا حدود .
ومن ( البجع الأسود ) الممكن أن يحط في ميدان المعركة ؛ تجمع معلومات صلبة ، ومعطيات حقيقية عن نية العدو بـ ( المبادرة ) إلى توسيع الحرب شمالاً ، أو توفر قراءة ذات مصداقية عند العدو تقول أن " حزب الله " قد أخذ قراراً بالهجوم جنوباً ، وتخطي الحدود في ( طوفان ) بشري وناري ، يعيد القرى السبعة ـ مثلاً ـ إلى لبنان . إن مثل هذا القراءة المبنية على مثل هذه المعلومات الصلبة ، قد تدفع بالمشهد إلى حدود اللا متوقع واللا معقول .
أما آخر المسارات ، والسود من (البجعات) ، فهي حسابات خاطئة لرد فعل على فعل ، كأن يخطئ (جاسوس ) لدى أحد الطرفين ، فيقدم تحليلاً رغائبياً ، أو تقديراً ( خنفشارياً ) مبني على قراءة سطحية لأخبار غير ذات مصداقية ، فتوضع على طاولة سياسي صحاب قرار فاقد للأهلية ، فلا يدقق ، ولا يستفسر ، ولا يسأل الأسئلة الصعبة ، ويكتفي بهز الرأس والأكتاف ؛ فتفتح فوهات النار ، ويطلق العنان لآلات القتل والدمار ، ومن أخطأ له أجر ، ومن أصاب له أجران !!! ويا ( دار ما دخلك شر ) ، هذا إذا بقيت دار .
الخلاصة :
نختم بخلاصة سريعة تقول : لا تدعوا الساسة يبالغون ، ولا (الجواسيس) يخطؤون ، ودققوا فيما يقولون ويشرحون ، ولتُسأل الأسئلة الصعبة ، ورحم الله المتنبي عندما قال :
الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني
فَإِذا هُما اِجتَمَعا لِنَفسٍ حُرّةٍ بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكانِ
وَلَرُبَّما طَعَنَ الفَتى أَقرانَهُ بِالرَأيِ قَبلَ تَطاعُنِ الأَقرانِ
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .